بُؤْسُ حافظ إبراهيم

*

بين الواقع والادّعاء..

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كان حافظ إبراهيم وحيد والده، وقد ذاق مرارة اليتم صغيرًا ، إذ توفي أبوه إبراهيم في (ديروط) من صعيد مصر ، وهو في سن الرابعة فانتقلت به والدته إلى القاهرة، ونزلت عند أخيها، فتولى أمره، وقام بتربيته.

وبعد المرحلة الابتدائية مكث حافظ مدة في المرحلة الثانوية ، ولكنه لم يستطع تكملة دراسته فيها. وانتقل خاله  ومعه حافظ إلى مدينة (طنطا) وهناك تفتقت شاعريته وأعجب كثير من الشباب بشعره لسهولته وتدفقه.

كانت وفاة والده هي "النكبة" الأولى في حياته، ثم كانت "صدمته" النفسية الثانية في شعوره بأن خاله قد بدأ يمله، ويتذمر من الإنفاق عليه، فتركه حافظ بعد أن ترك له رقعة سجل فيها البيتين الآتيين:

ثقلت عليك مؤنتي          إني   أراها  واهيه

فافرح فإني ذاهبٌ          متوجه في داهية[1]

وكي أخفق حافظ في استكمال دراسته بالمرحلة الثانوية، أخفق كذلك إخفاقًا ذريعًا حينما عمل محاميًّا تحت إمرة محام آخر، صاحب مكتب اسمه "محمد الشيمي"[2]. ولم يتحقق لحافظ ما كان ينشده من عمله في هذا المكتب، فترك الشيمي بعد أن ترك له رقعة فيها بيتان من نظمه كبيتي خاله، ونصهما:

جرابُ حظي قد أفرغتُه طمعًا         بباب  أستاذنا  الشيمي   ولا عجبًا

فعادَ لي، وهو مملوءٌ فقلت له         مما؟ فقال: من الحسرات واحَرَبا[3]

وانتقل للعمل محاميًا بمكتب محام آخر بطنطا، هو محمد بك أبو شادي، ولكنه سرعان ما ملّ العمل فيه، فانتقل إلى العمل في مكتب محام ثالث هو عبد الكريم فهيم، ولكنه لم يحقق نجاحًا فتركه.

وكان "إخفاقه في المحاماة" هو الصدمة الثالثة في حياته، وقد علل "أحمد أمين" إخفاق حافظ إبراهيم في المحاماة  مع طلاقة لسانه، وحسن بيانه، بعدة أسباب[4]، يمكن أن نلخصها فيما يأتي:

1  ما تتطلبه المحاماة من عكوف على درس القضايا، وكتابة وقائعها، ووضع مذكراتها، وليس حافظ بالصبور على ذلك.

2  قلة تجربته، وضعف خبرته، فهو لم يكن قد أتم العقد الثاني من عمره آنذاك.

3  كما كان حافظ "ملولاً" بطبيعته، لا يحب القرار على حالة واحدة، وقد كان "الملل والسآمة" صفة نفسية لا زمته طول حياته.

4  إسرافه الزائد في الإنفاق، مما حرمه أن يدخر من دخله ما يمكنه من فتح مكتب محاماة، يكون فيه سيد نفسه، ويدر عليه من الدخل ما يحقق له حياة طيبة مستقرة.

والتحق بالمدرسة الحربية، وتخرج فيها ضابطًا، وعمل عدة سنوات في مصر، وبدأت نكبته الرابعة بتوجيهه للعمل في السودان، وتمثلت همومه العاتية آنذاك في مظهرين:

الأول: قسوة الحياة في السودان، وخشونة العيش، ورداءة الجو، وحرمانه من أصدقائه في مصر، وهو الملول بطبيعته.

الثاني: إحالته إلى الاستيداع سنة 1899م، بعد اتهمه  ضمن 18 ضابطًا بالتمرد والثورة على الحكومة.

وتمثلت صدمته الخامسة في إخفاقه في زواج انتهى بالطلاق بعد أربعة أشهر، ثم توالت عليه النكبات فماتت أمه سنة 1908م، ومات خاله، ثم زوجة خاله التي كانت ترعاه، وتدبر أمره، وتسهر على راحته.

ولكنه صدمته الكبرى حقًّا كانت في وفاة الأستاذ الإمام محمد عبده سنة 1905م، وقد كان خير أنيس لحافظ في حياته يرعاه ويحتضنه، ويفتح له بيته، ويحسن إليه، ويمده بما يحتاج إليه من المال. لذلك بكى عليه بأغزر الدموع وأحرها وأصدقها[5].

كل هذه العوامل  أو كل هذه النكبات والصدمات  جعلت من حافظ إبراهيم واحدًا من أبرع شعراء العربية في غرضين: الأول هو: الرثاء، والثاني هو: الشكوى.

وفي مقالنا هذا نكتفي بوقفة مع شعره في الشكوى، وخصوصًا شكواه من معاناة البؤس، والفقر، لنرى إلى أي مدى كان حافظ صادقًا في تصوير واقعه الاجتماعي، والنفسي الخاص في شعره هذا.

لقد كانت رسائله التي يبعث بها من السودان إلى الإمام محمد عبده تنضح بالشكوى، والشعور الحاد بالوحشة، والمرارة والبيؤس واليأس[6].

وفي إحدى هذه الرسائل كتب يقول:

"... فقد حللتُ السودان حلولَ الكليم في التابوت، والمغاضب في بطن الحوت، بين الضيق والشدة، والوحشة والوحدة، لا، بل حلول الوزير في تنور العذاب، والكافر في موقف يوم الحساب بين نارين: نار القيظ، ونار الغيظ"[7].

وهو يبكي ضيق رزقه، حتى ليتمنى الموت العاجل. وهو يُرجع فقره وضيق رزقه  لا إلى كسله وملله، وضعف همته وتقاعده  بل إلى عوامل اجتماعية وسياسية عامة خارجة عنه، كما نرى في هذه الأبيات من قصيدة نظمها في 31 ديسمبر سنة 1900م:

سعيتُ  إلى أن كدتُ أنتعلَ iiالدِّما
لحى اللهُ عهد القاسطين الذي iiبه
إذا  شئت أن تلقى السعادة iiبينهم
سـلامٌ عـلى الدنيا سلام iiمودع
أضـرت به الأولى فهام iiبأختها
فهبي  رياح الموتِ نُكبا iiوأطفئ





وعـدتُ  وما أعقبت إلا iiالتندما
تـهـدم مـن بـنياننا ما iiتهدما
فـلا  تكُ مصريًا ولا تكً iiمسلما
رأى في ظلام القبر أنسًا iiومغنما
فإن ساءت الأخرى فويلاه iiمنهما
سراج حياتي قبل أن يتحطما[8]

لقد كان حافظ يؤمن بأنه منحوس في حياته، محروب من الأقدار، في الوقت الذي يرى أصحابه أسعدَ منه حالاً وحظًا، وفي ذلك يقول:

أصاب رفاقيَ القِدح المعَلى        وصادف  سهمِيَ القدح المنيحا

فلو  ساق القضاءُ إلى نفْعًا         لقام أخوه معترضًا شحيحًا[9]

وأصبحت هذه الفكرة تسيطر عليه كأنها عقيدة ثابتة، فكانت تلح عليه في كثير من قصائده، فيقول قصيدة أخرى:

لكنني غير مجدود وما فتئت          يد   المقادير  تقصيني  عن  الأَرَبِ

 وقد غدوتُ وآمالي مطرَّحة          وفي أموري ما للضب في الذَّنَب[10]

*********

ويبلغ شعوره بالبؤس مدى بعيدًا. حتى أنه يستجدي بشعره صراحة:

ففي سنة 1900م قصد "محمود سامي البارودي" بعد عودته من منفاه في سرنديبن ومدحه بقصيدة دالية جاء فيها:

أتيتُ  ولي نفسٌ أطلت جدالها          سيقضي عليها كربُها اليوم أو غدا

فإنْ لم تداركها بفضلٍ فقد أتتْ          تودع  مولاها،  وتستقبلُ   الردَّى

فلما سمع البارودي هذين البيتين بكى بكاءً حارًا، وناشد "حافظ" أن يحذف هذين البيتين من القصيدة، ثم نهض من مجلسه، وعاد إلى حافظ، وناوله مظروفًا به أربعون جنيهًا ذهبيًا هي قيمة ما كان مقررًا للبارودي من معاش شهري. وقال لحافظ: "إنني أبكي لأني عشت إلى زمن يقدم فيه مثلي إلى مثلك هذا المبلغ الضئيل"[11].

فهل كان حافظ إبراهيم بائسًا حقًّا؟ وهل كان ما صوره في شعر الشكوى من بؤس وفقر وضياع، يعكس واقعًا حقيقيًّا في حياته؟ أم أن ذلك كله  أو جُلّه  كان ادعاء لعب فيه الخيال دورًا كبيرًا؟

كثيرون من النقاد  اعتمادًا على الظاهر من هذا الشعر  يميلون إلى تصديق حافظ فيها صوره من حالته أو في حالاته، مستأنسين في تصديقهم بما أصابه في واقع حياته من نكبات، وما حققه من إخفاق في أغلب الأعمال التي امتهنها في حياته.

أما الدكتور طه حسين فيشكك في جدية هذا البؤس، حتى ليكاد يقطع بأنه بؤس مفتعل مدعى. فيكتب في معرض حديثه عن ترجمة حافظ قصة البؤساء لفكتور هوجو "... فالحق أن شاعرنا حافظ قد تكلف جهدًا عظيمًا، وعناء شديدًا في هذه الترجمة. ولست أدري لم أختاره؟ (كتاب البؤساء)، بل ربما كنت أدري، فقد أكذر أن قد كان البدع  في أيام صباي  تكلف البؤس، وانتحال سوء الحالن والافتتان في شكوى الناس والزمان. كان ذلك بدعًا في العقد الأول من هذا القرن وكان حافظ يذيع هذا البدع ويروجه"[12].

وممن كتبوا عن حافظ[13] من يرى رأيًّا قريبًا من رأي طه حسين، في أن بؤس حافظ  بالمقياس العام كان بؤساًا "وهميًّا لا حقيقيًّا" وأن "شكوى حافظ من بؤس طول حياته شيء يتفق مع طبيعته، وإن كان لا يتفق مع واقعه بالمفهوم العام، وإننا لو نظرنا إلى حافظ من منظور عصره لقلنا إنه لم يكن فقيرًا ولم يكن بائسًا حتى في أيام يتمه، وفي أيام كفالة خاله له، وفي أيام بطالته"[14].

ويمضي الكاتب ملتقطًا من حياة حافظ إبراهيم وآله وقائع وحقائق تدل على أنهم لم يذوقوا ذل الفقر، والبؤس بالقياس العام، وأن دخل حافظ  حتى لو انحصر في الجنيهات الأربعة  معاشه الشهري  كان يكفي لحياة كريمة، بمعيار زمانه، فما بالك بشخص تمنحه وزارة المعارف ألفي جنيه مقابل تقرير كتاب "البؤساء" في وزارة المعارف؟[15]

ونحن مع الكاتب فيما ذهب إليه، ولكننا يجب ألا ننسى في هذا المقام حقيقة عرفت عن حافظ، وهي أنه كان مسرفًا متلافًا، ومن أغرب وقائع إسرافه ما يرويه الأستاذ خليل مردم من أن "حافظ سهر مرة في القاهرة يلعب الطاولة مع أحد أصدقائه، فلما طال أمر اللعب نبهه أحد الحاضرين إلى أن آخر قطار يسير من القاهرة إلى حلوان  حيث يسكن حافظ  قد دنا وقته، فلم يلتفت إليه حافلظ، حتى إذا انتهى من اللعب بعد فوات وقت القطار، طلب إلى الشركة أن تجهز له قطارًا خاصًا من القاهرة إلى حلوان، وكان الأمر كذلك، ودفع الأجرة الضخمة لمثل هذه الحال[16].

كما أن البؤس، أو الفقر لا يرتبط بقلة الدخل أو ضخامته، بقدر ما يرتبط بطريقة المعيشة وصورتها، ومكان القصد، والاعتدال، أو التبذير والإسراف فيها.

وفي ضوء الحقائق السابقة نستطيع أن نقول: إن الحكم في حالة حافظ يتوقف على زاوية النظر التي نطل منها، والمعيار الذي نحتكم إليه في حالته، فإذا نظرنا إليه من زاوية المجتمع العام، ومعيار الحكم على حالة الشخص آنذاك، قلنا أن "حافظ" لم يكن فقيرًا بائسًا، كما لم يكن غنيًا ثريًا، ولكنه كان من "الطبقة الوسط" التي تستطيع أن تعيش على "دخلها" مستورة الحال.

ولكن إذا نظرنا إلى حافظ "كحالة مفردة" بتصرفاته الغريبة وإسرافه الجنوني، بحيث لا يُبقى في يده ما يضمن به العيش إلى أيام، قلنا إن حافظ كان بائسًا حقًا، وأنه لم يكن دعيًّا في بؤسه هذا، وخصوصًا أن حياته كانت سلسلة من "الإخفاقات"  كما ذكرنا سابقًا  وأن مرالارة هذه "الإخفاقات" والنكبات ظلت تلاحقه طيلة سني حياته. فشعره الشاكي الباكي كان  في نظري  ترجمانًا صادقًا عن بؤس حقيقي  كما يستشعره حافظ، لا كما تحدده المعايير الاجتماعية، والضوابط الاقتصادية العامة.

وليست العبرة بوجود البؤس، أو عدم وجوده في واقع الحياة، بل المهم هو "الشعور" نفسه، أي إحساس الشاعر بالبؤس حتى لو كان هذا البؤس متوهمًا. وهذا ما يهم مؤرخ الأدب وناقده، حين يعرض لحياة الشاعر وتقييم فنه، وهذا هو الفيصل الحاسم بينهما وبين المؤرخ الذي يعني  بصفة أساسية  برصد الواقع وتمحيصه.

                

(*) ولد حافظ إبراهيم بالقرب من (ديروط) بصعيد مصر، وكان أبوه مهندسًا وأمه سيدة تركية، مات أبوه وهو في الرابعة، فعاش حياة مضطربة في كفالة خاله، وبعد تخرجه في المدرسة الحربية بالقاهرة، عين ضابطًا بالسودان، ثم أحيل إلى الاستيداع، وبقي فترة طويلة بلا عمل اقترب في أثنائها من الوجدان الشعبي، وعبر عن آلام الشعب المصري وآماله، ثم عين بوظيفة في دار الكتب المصرية، فقل إنتاجه الشعري، وأو ما ينشر منه.

طبع ديوانه في حياته في ثلاثة أجزاء صغيرة (1901م  1922م) ثم طبع طبعة أوفى وأشمل بعد وفاته، له كتاب (ليالي سطيح) كتبه على طريقة المقامات، وترجم (البؤساء) عن "فيكتور هوجو" [انظر: الموسوعة العربية الموسعة 685].

[1] انظر: أحمد أمين في تقديمه ديوان حافظ 8 (دار العودة، بيروت).

[2] كان العمل بالمحاماة في مصر آنذاك لا يتطلب حصول المحامي على "مؤهل" معين، وإن تطلب صفات ذاتية فيمن يمتهن هذا العمل أهمها: اللباقة والقدرة على التصرف والتعبير وعرض الدفوع والأدلة.

[3] انظر المقدمة ص 10.

[4] انظر المقدمة ص 10.

[5] انظر مثلاً: قصيدته في رثاء الإمام محمد عبده، التي نشرها في 22 من أغسطس سنة 1905م، ديوان حافظ 2 / 144.

[6] انظر: عبد الحميد الجندي: حافظ إبراهيم شاعر النيل 33، (ط3، دار المعارف، القاهرة، 1981م.

[7] ديوان حافظ 2 / 128، والكليم هو موسى، والمغاضب هو يونس  عليهما السلام  والوزير: هو محمد بن عبد الملك الزيات الذي عذبه المتوكل في تنور حتى الموت.

[8] ديوان حافظ 2 / 114  115.

[9] السابق 2 / 113 (والقدح المعلى هو أفضل سهام الميسر: أما السهم المنيح فهو الذي لا نصيب ولا فرض له.

[10] الديوان 2 / 118. (ويقال في الأمور التي تستعصي على الحل أنها "أعقد من ذئب الضب" راجع: مجمع الأمثال للميداني.

[11] طاهر الطناحي: شوقي وحافظ 125  126 (دار الهلال، القاهرة، 1967م) وانظر القصيدة في ديوان حافظ 1 / 7، وقد حذف منها حافظ هذين البيتين، تلبية لرغبة البارودي.

[12] طه حسين: حافظ وشوقي 77 (الهيئة العامة للمطابع الأميرية، القاهرة، 1973م).

[13] أحمد محمد علي في مقال طويل له عن "بؤس حافظ" ص 93  101، من مجلة فصول القاهرية (المجلد الثالث  العدد الثاني 1983م).

[14] السابق 97.

[15] الساببق 99.؟ ونحن نشك في الرقم الذي ذكره الكاتب، وربما كان المبلغ المدفوع لحافظ لا يزيد على مائتي جنيه، وهو يعتبر مبلغًا كبيرًا جدًّا بحساب زمن الشاعر.

[16] خليل مردم: "حافظ إبراهيم علتى سجيته" مقال في مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، ص 540، ج 4، م 31.