شيخ الرواية في بحر السرد العميق
رواية همنغواي الشهيرة بعد أكثر من نصف قرن
د.علي الصكر
ظهرت رواية الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي ( الشيخ والبحر ) عام 1952 وحظيت بقبول واسع تكلل بحصول الكاتب على نوبل الأدب عام 1954 . ترجمت (الشيخ والبحر) إلى معظم لغات العالم ودرست – ولا تزال – لطلبة آداب اللغة الانكليزية باعتبارها الرواية الأكثر شهرة في الأدب الأمريكي الحديث وهي ليست رواية ضخمة على الإطلاق بل موجزة في عدد صفحاتها ( الذي لا يتجاوز الثمانين من القطع المتوسط ) كإيجازها في التشخيص والحدث والزمان والمكان . تخبرنا مصادر همنغواي أنه نشر في إحدى الصحف عام 1936 مقالا بعنوان ( في المياه الزرقاء ) أثناء إقامته في كوبا تحدث فيه عن صياد عجوز ركب المحيط بمفرده وتمكن من صيد سمكة هائلة لكن اسماك القرش هاجمته في طريق العودة ولم تبق من السمكة إلا العظام . ذلك هو بالضبط الحدث الذي تقوم عليه الرواية التي سيعود همنغواي لكتابتها بعد ستة عشر عاما . تكتظ الرواية الصغيرة بمفردات الصيد والبحر ومعدات الصيادين ومفردات حياتهم في قريتهم الساحلية البائسة وأنواع السمك مما يؤكد اتكاء همنغواي ( كعادته وكما في رواياته الأخرى ) على تجربته الذاتية وشغفه بالمغامرة واتصاله الحميم بالحياة الذي نوه عنه هو شخصيا قبل أن يعتبره النقاد السمة المميزة لأعماله الروائية . فالبطولة الفردية التي تقدم على المغامرة الجريئة دون وجل تحضر في هذه الرواية كما في ( وداعا للسلاح ) و ( وتشرق الشمس ثانية ) و ( لمن تقرع الأجراس ) وبقية الروايات لكن مغامرة الصياد العجوز تصحبها مغامرة لا تقل عنها جرأة يقدم عليها همنغواي في أسلوب سرده في هذه الرواية وهو الأمر الذي لم يتوقف عنده – حسب علمي - نقاد همنغواي كثيرا . إن القراءة المتأنية الدقيقة لنص همنغواي ستجعلنا نعجب من أن النقاد لم يصنفوا همنغواي ضمن أصحاب الانجازات السردية المتميزة مثل جيمس جويس ووليم فوكنر وفرجينيا وولف واكتفوا بالإشادة بمفهوم البطولة عنده لا غير . إن ابتعاد الصياد العجوز سانتياغو عن أضواء هافانا وولوجه البحر المظلم وحيدا لا تتيح للكاتب الكثير من ألمناوره أو الخيارات في تقنيات السرد بل تقيده وتجبره على اللجوء إلى أسلوب الراوي العليم الذي لا يملك هو أيضا مساحة كبيره يتحرك عليها فالشيخ وحيد تماما تحاصره ظلمة البحر الشاسع في قارب صغير متهالك تصعب الحركة داخله . لكن الراوي العليم لا يكتفي بالوقوف على بعد مناسب من الشخصية المحورية، انه راو عليم لم نألفه من قبل يبتكره همنغواي يتداخل مع الشخص الأول ( المتكلم ) مرات عديدة حتى يصعب التفريق بينهما ويقترب كثيرا من تقنية ( تيار الوعي ) مع احتفاظه بشاعرية مؤثرة وتلقائية سلسلة تبتعد كثيرا عن تعقيدات فوكنر وتداخلاته وأصواته المتعددة مما يجعل الرواية يسيرة على فهم القارئ العادي . "كان رجلا عجوزا يصطاد لوحده في قارب صغير في المحيط مضى عليه أربعة وثمانون يوما دون أن يصطاد سمكة واحده " . بمثل هذا الأسلوب الحكائي الشيق المباشر يستهل همنغواي روايته ويفلح في شحذ فضول القارئ وشده للمتابعة . لا يتغير هذا الإيقاع السردي الهادئ حتى عندما يبلغ الحدث ذروته بل يستمر بنفس واحد دون توقف ( فالرواية لا تتقسم إلى فصول ) إلى النهاية . يرتبط سانتياغو مع السمكة بحبل الصيد ارتباطا رمزيا وثيقا فيتحدث إليها في عزلته القاسية ويعلن أكثر من مرة عن احترامه لها كخصم نبيل و إعجابه الشديد بقوتها وصبرها ويعجب أكثر بجمالها وهيبتها حين يراها لأول مرة تقفز فوق الماء ويتحدث عنها بضمير المذكر العاقل . وحتى أكثر المشاهد دموية في الرواية – مشهد طعن السمكة بالرمح – يرويه همنغواي بشاعرية فذة نراها في وصف الدم المتدفق من قلب السمكة والذي وينتشر مثل غيمة حمراء وسط زرقة المحيط . في طريق العودة تهاجم أسماك القرش السمكة الثمينة المربوطة الى القارب , ويفقد سانتياغو أسلحته جميعا في المعركة ضد الأقراش المفترسة فيعود إلى ساحل هافانا بهيكل عظمي فقط . وإذ يأسف الصيادون لحظه العاثر فأنهم يبدون إعجابهم بقوة وشجاعة وحنكة الشيخ الذي استطاع بمفرده التغلب على سمكة أطول من القارب وتزن مئات الكيلوغرامات فيتوج سانتياغو العجوز شيخا للصيادين مثلما يتوج همنغواي شيخا للروائيين الأمريكان في القرن العشرين .