دون كيشوت الأسوانى
دون كيشوت الأسوانى
وطواحين الخلافة!
أ.د/إبراهيم عوض
كتب د. علاء الأسوانى، فى جريدة "المصرى اليوم" بتاريخ 31 مايو 2011م، مقالا عنوانه: "هل نحارب طواحين الهواء؟" سخر فيه ممن يحنّون إلى إقامة نظام الخلافة الإسلامية وقسمهم إلى فريقين: واضعا فريقا منهم فى خانة السذاجة السياسية وغلبة العاطفة الدينية على تفكيرهم، والفريق الآخر فى خانة المكر والرغبة فى استغفال الجماهير واستغلال الدين بغية الوصول إلى كرسى الحكم، ومتهما حكام الإسلام كلهم على بكرة أبيهم تقريبا منذ قيام الخلافة فى عهد الصديق حتى آخر خليفة عثمانى فى منتصف عشرينات القرن العشرين بأنهم كانوا مستبدين جبارين دمويين لا يخشَوْن شيئا أو أحدا ولا يراعون أى مبدإ خلقى فى حكمهم ولا فى الطريقة التى يصلون بها إلى دَسْت السلطة.
وقد بدأ الأسوانى مقاله قائلا: "لقد عاش المسلمون أزهى عصورهم وحكموا العالم وأبدعوا حضارتهم العظيمة عندما كانوا يعيشون فى ظل الخلافة الإسلامية التى تحكم بشريعة الله. فى العصر الحديث نجح الاستعمار فى إسقاط الخلافة وتلويث عقول المسلمين بالأفكار الغربية، عندئذ تدهورت أحوالهم وتعرضوا إلى الضعف والتخلف. الحل الوحيد لنهضة المسلمين هو استعادة الخلافة الإسلامية". ثم عقَّب قائلا إنه كثيرا ما استمع إلى هذه الجملة من بعض خطباء المساجد وأعضاء الجماعات الإسلامية. وبما أن كثيرين فى مصر والعالم العربى يؤمنون بصحة هذه المقولة فإنه يرى من الواجب مناقشتها وتفنيدها، وهو ما سخر له المقال كله.
ولسوف أسارع إلى القول بأن تفنيد الأسوانى لتلك المقالة هو تفنيد متهافت. ذلك أنه لا يشكك البتة فى أن الحضارة الإسلامية حضارة عظيمة، بل يؤكد تأكيدا شديدا أن الإسلام قد أبدع فعلا حضارة عظيمة ما فى ذلك أدنى ريب. وإذن هل يمكنه الزعم بأن المسلمين كانوا يُحْكَمون بغير شريعة الإسلام؟ فما تلك الشريعة يا ترى؟ أهى شريعة النصارى؟. أهى شريعة اليهود؟ أهى شريعة الهندوس؟ أهى شريعة البوذيين؟ أهى شريعة المجوس؟ فليقل لنا بأية شريعة كان المسلمون يُحْكَمون؟ لقد كانوا يحكمون بشريعة الإسلام بطبيعة الحال، وإن رغمت أنوف! باستطاعته هو أو سواه أن يقول إن الحكام لم يكونوا دائما يلتزمون التطبيق المخلص لتلك الشريعة، فأقول له: لقد صدقت. أما أن يقال إنهم لم يكونوا يحكمون بشريعة الله فهذا جهل غليظ بالتاريخ وبالإسلام وبالمسلمين.
وهذا كلامه نصا: "الحقيقة أن الإسلام قدم فعلاً حضارة عظيمة للعالم، فعلى مدى قرون نبغ المسلمون وتفوقوا فى المجالات الإنسانية كلها بدءا من الفن والفلسفة وحتى الكيمياء والجبر والهندسة. أذكر أننى كنت أدرس الأدب الإسبانى فى مدريد، وكان الأستاذ يدرسنا تاريخ الأندلس، وفى بداية المحاضرة عرف أن هناك ثلاثة طلبة عرب فى الفصل فابتسم وقال لنا: "يجب أن تفخروا بما أنجزه أجدادكم من حضارة فى الأندلس". الجزء الأول من الجملة عن عظمة الحضارة الإسلامية صحيح تماما. المشكلة فى الجزء الثانى. هل كانت الدول الإسلامية المتعاقبة تطبق مبادئ الإسلام سواء فى طريقة توليها الحكم أو تداولها السلطة أو معاملتها للرعية؟".
هذا ما قاله. لكن هل كان من الممكن أن ينجز المسلمون تلك الحضارة التى يقر هو نفسه أنها حضارة عظيمة بناءً على شهادة الأستاذ الأسبانى (وإلا ما قالها، بل ربما لم يعرف بها) لو كان الحكم بهذا السوء البشع الذى يريد إيهامنا به، فضلا عن أن تستمر تلك الحضارة قرونا طوالا تكون فيها الدولة قوية مهيبة تخشاها دول العالم، وعلى رأسها الدول الأوربية التى تضرب المسلمين اليوم بالأحذية دون أن يجرؤ أى حاكم من حكامها تقريبا أن يقول لهم: "بِمْ" معتمدة، ضمن ما تعتمد، على طابور من العملاء الأنجاس الأرجاس فى جميع المجالات نظيرَ عَرَضٍ من الدنيا قليل من مال أو دعوة إلى هذا المؤتمر أو ذاك أو تلميع إعلامى لمن لا يستحقون فى الواقع أن يكونوا ماسحى جِزَم فى أى مُقْهًى من مقاهى الثقافة؟ وتنتهج الدوائر الغربية أسلوبا مريبا مع هؤلاء الشداة لم ينتهجوه مع العمالقة أمثال العقاد، إذ ما إن يكتب أى هلفوت من هلافيتنا رواية إلا ويترجمونها له فى الحال إلى عدد من اللغات الأوربية، على حين أنى لا أعرف أنهم ترجموا للعقاد مثلا روايته: "سارة"، وهى رواية تصمد للمقارنة مع أية رواية لفطاحل الأدباء الغربيين إن لم تتفوق على كثير من إنتاجهم. وكلُّ ما سمعتُه عن ترجمتها ما أخبرَناه مدرس اللغة الإنجليزية فى مدرسة الأحمدية الثانوية الأستاذ الأديب محمد حلمى محمود فى منتصف ستينات القرن المنصرم من أنه ترجمها إلى الإنجليزية ثم عرض عمله على أنيس منصور، فأثنى عليه، وإن كنت لا أدرى هل ظهرت تلك الترجمة أو لا.
كذلك يذكّرنى قوله إنه كثيرا ما سمع هذه المقالة من خطباء الجمعة بسارد أحداث روايته: "عمارة يعقوبيان"، التى تتفنن فى وَصْف اللواط وَصْف العليم الخبير بناء على ما لاحظه القراء والنقاد. وسر تذكيره لى بسارد "عمارة يعقوبيان" هو قول ذلك السارد إن المصلين كانوا يقاطعون خطيب الجمعة فى المسجد فيهتفون بصوت يهز أرجاء المكان وينشدون الأناشيد المجلجلة، فى الوقت الذى تنطلق من مقصورة النساء عشرات الزغاريد. وهو كلام يدل على أن صاحبه لا يعرف شيئا عن المساجد، ولا عن خطبة الجمعة، فكأنه غير مسلم، إذ لا أحد من المصلين يقاطع الخطيب أو يهتف أثناء الخطبة، لأننا لسنا فى هايد بارك كورنر.
ولكى يكون القارئ معى على الخط أذكر له أن الخطيب المشار إليه فى الرواية قد ردد الكلام الذى يؤكد الأسوانى فى مقاله هذا أنه كثيرا ما سمعه من خطباء المساجد يوم الجمعة (ص134 وما بعدها من "عمارة يعقوبيان"/ مكتبة مدبولى). فإذا كان الأسوانى الذى يزعم أنه سمع هذا الكلام من خطباء الجمعة هو ذاته الذى ادعى على لسان السارد فى "عمارة يعقوبيان" أن المصلين كانوا يقاطعون الخطيب فيهتفون الهتافات المجلجِلَة، ويكبّرون وينشدون الأناشيد التى ترج المسجد رجًّا فى الوقت الذى تنطلق فيه عشرات الزغاريد من مقصورة النساء (ص136- 137) فلا ريب أن لى كل الحق فى ارتيابى أن يكون قد سمع هذا الكلام أصلا من الخطباء.
أرأيتم، أيها القراء، المصلين يهتفون ويكبرون وينشدون الأناشيد أثناء خطبة الجمعة؟ ذلك أننا نحن المسلمين نعرف أن الكلام أثناء الخطبة لا يجوز دينا، وأنه "إذا قلتَ لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: "أَنْصِتْ" فقد لَغَوْتَ. ومَنْ لَغَا فلا جمعة له". أم تراكم سمعتم أن مسجدا قد ارتجت جنباته أثناء خطبة الجمعة من الهتاف والتكبير؟ أرأيتم مصليات فى المسجد يطلقن الزغاريد؟ الحمد لله أنه لم يقل إن الرجال كانوا يطبلون ويزمرون، والنساء يدققن الصناجات ويرقصن رقصا شرقيا على سنة ولية الله الصالحة بمبة كشر. واضح أن قائل هذا الكلام لا يعرف شيئا عن المساجد ولا عن خطبة الجمعة. ولو أنه أتى من بلاد الإسكيمو من آخر الدنيا لما قال هذا السخف الماسخ. أرجو أن يكون قد تبين لكم الآن أن لى كل الحق فى التشكك فى أن يكون الأسوانى قد سمع ما قاله من خطباء الجمعة؟
ويقول د. الأسوانى أيضا فى ذلك المقال: "الحقيقة أن الإسلام قدم فعلاً حضارة عظيمة للعالم، فعلى مدى قرون نبغ المسلمون وتفوقوا فى المجالات الإنسانية كلها بدءا من الفن والفلسفة وحتى الكيمياء والجبر والهندسة. أذكر أننى كنت أدرس الأدب الإسبانى فى مدريد، وكان الأستاذ يدرّسنا تاريخ الأندلس، وفى بداية المحاضرة عرف أن هناك ثلاثة طلبة عرب فى الفصل فابتسم وقال لنا: "يجب أن تفخروا بما أنجزه أجدادكم من حضارة فى الأندلس".الجزء الأول من الجملة عن عظمة الحضارة الإسلامية صحيح تماما. المشكلة فى الجزء الثانى. هل كانت الدول الإسلامية المتعاقبة تطبق مبادئ الإسلام سواء فى طريقة توليها الحكم أو تداولها السلطة أو معاملتها للرعية؟ إن قراءة التاريخ الإسلامى تحمل لنا إجابة مختلفة. فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف العالم الإسلامى الحكم الرشيد العادل إلا لمدة ٣١ عاما هى مجموع فترات حكم الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، الذين حكموا جميعا لمدة ٢٩ عاما (١١هـ- ٤٠هـ)، ثم الخليفة الأموى عمر بن عبدالعزيز الذى حكم لفترة عامين (٩٩هـ- ١٠١هـ). ٣١ عاما فقط من ١٤ قرنا من الزمان، كان الحكم خلالها عادلاً رشيدًا نقيًّا متوافقا مع مبادئ الإسلام الحقيقية. أما بقية التاريخ الإسلامى فإن نظام الحكم فيه لم يكن متفقا قط مع مبادئ الدين.
حتى خلال الـ٣١ عاما الأفضل حدثت مخالفات من الخليفة عثمان بن عفان، الذى لم يعدل بين المسلمين وآثر أقاربه بالمناصب والعطايا، فثار عليه الناس وقتلوه، ولم يكتفوا بذلك بل هاجموا جنازته وأخرجوا جثته واعتدوا عليها حتى تهشم أحد أضلاعه وهو ميت. ثم جاءت الفتنة الكبرى التى قسمت المسلمين إلى ثلاث فرق: أهل سنة وشيعة وخوارج، وانتهت بمقتل على بن أبى طالب، وهو من أعظم المسلمين وأفقههم وأقربهم للرسول صلى الله عليه وسلم، على يد أحد الخوارج، وهو عبد الرحمن بن ملجم. ثم أقام معاوية بن سفيان حكما استبداديا دمويا أخذ فيه البيعة من الناس كرها لابنه يزيد من بعده ليقضى إلى الأبد على حق المسلمين فى اختيار من يحكمهم ويحيل الحكم من وظيفة لإقامة العدل إلى مُلْكٍ عضوض (يُعَضّ عليه بالنواجذ). والقارئ لتاريخ الدولة الأموية ستفاجئه حقيقة أن الأمويين لم يتورعوا عن ارتكاب أبشع الجرائم من أجل المحافظة على الحكم، فقد هاجم الأمويون المدينة المنورة وقتلوا كثيرا من أهلها لإخضاعهم فى موقعة الـحَرَّة. بل إن الخليفة عبدالملك بن مروان أرسل جيشا بقيادة الحجاج بن يوسف لإخضاع عبدالله بن الزبير، الذى تمرد على الحكم الأموى، واعتصم فى المسجد الحرام. ولقد حاصر الحجاج مكة بجيشه وضرب الكعبة بالمنجنيق حتى تهدمت بعض أركانها، ثم اقتحم المسجد الحرام وقتل عبدالله بن الزبير داخله. كل شىء إذن مباح من أجل المحافظة على السلطة، حتى الاعتداء على الكعبة، أقدس مكان فى الإسلام.
وإذا انتقلنا إلى الدولة العباسية ستطالعنا صفحة جديدة من المجازر التى استولى بها العباسيون على السلطة وحافظوا عليها. فقد تعقب العباسيون الأمويين وقتلوهم جميعا بلا ذنب ولا محاكمة ونبشوا قبور الخلفاء الأمويين وعبثوا بجثثهم انتقاما منهم. الخليفة العباسى الثانى أبوجعفر المنصور قتل عمه عبد الله خوفا من أن ينازعه فى الحكم، ثم انقلب على أبى مسلم الخرسانى، الذى كان سببا فى إقامة الدولة العباسية، فقتله. أما أول الخلفاء العباسيين فهو أبو العباس السفاح الذى سُمِّىَ بـ"السفاح" لكثرة من قتلهم من الناس. وله قصة شهيرة جمع فيها من تبقى من الأمراء الأمويين وأمر بذبحهم أمام عينيه ثم غطى جثثهم ببساط ودعا بطعام وأخذ يأكل ويشرب بينما لا يزالون يتحركون فى النزع الأخير، ثم قال: والله ما أكلت أشهى من هذه الأكلة قط".
والآن إلى مناقشة بعض ما كتبه د. الأسوانى فى الفقرة السابقة: لقد تهور زاعمًا أنه "باستثناء بضعة ملوك اشتهروا بالورع... كان معظم الملوك الأمويين والعباسيين يشربون الخمر مع ندمائهم على الملأ كل ليلة". ياه؟ "معظمهم" حتة واحدة؟ وكل ليلة؟ وعلى الملإ أيضا؟ أتعرف بالله عليك، يا د. علاء، معنى عبارة "على الملإ" حين نستخدمها الآن؟ معناها أنهم كانوا يشربونها أمام الناس جميعا. فحتى لو كانوا يشربون الخمر كما تزعم فهل كانوا يتجاهرون بشربها على مرأى ومسمع من جماهير البشر؟ يا رجل، إنها ليست رواية فى اللواط، بل تاريخا يا رجل، أَىْ منطقة بعيدة عما تخصصت فيه روايتاك وبرعتا، ومن ثم لا تستطيع أن تسد فيها مسدًّا.
كان طه حسين أشطر! لكنْ وقف له بالمرصاد فطاحلُ العلماء من أمثال رفيق العظم رحمه الله فأعادوه إلى الجحر الذى خرج منه حين زعم أن القرن الثالث الهجرى كان عصر شك ومجون وإلحاد، اعتمادا منه على كتاب "الأغانى"، الذى تعتمد أنت عليه (سماعا لا قراءة حسبما أتصور) فى قول ما تقوله عن تاريخ المسلمين السياسى وأخلاق حكامهم، وهو كتاب أدبى ألفه صاحبه لإمتاع القراء وتسليتهم بكل سبيل، ولم ينتهج فيه نهج التحقيق والتدقيق على ما هو بَيِّنٌ لمن يقرأ الكتاب، إذ يجده ممتعا فى أسلوبه العجيب وفى أقاصيصه التى يأخذ بعضها برقاب بعض فلا يقدر القارئ على أن يفلت من إسارها. لكن الزعم بأنه كتاب يُعْتَمَد عليه فى التاريخ هو زعم غبى. لقد كانت مجالس الخلفاء الأمويين فى معظمها مجالس علم وأدب وفقه. وهذا لا يمنع أن يكون هناك غناء أيضا فى بعض الأحيان. أما الخمر فإنى لا أصدق أبا الفرج أبدا فى مزاعمه حولها، ولا أضع فى اعتبارى على الإطلاق من ينقل عنه نقلا غشيما. ربما كان بعض الخلفاء يشرب الخمر، لكنهم لم يكونوا يتعاطونها على الملإ، فضلا عن أن يكونوا لها من المدمنين.
إن صنيع الأسوانى فى مقاله هذا ليذكّرنى بصنيع أخت له من قبل هى سلوى بكر، التى ألفت رواية متهافتة لا يصح صدروها عن قلم مبتدئة فى دنيا الأدب اسمها: "البشمورى"، فجعلت عصر المأمون كله كتلة من المظالم. فهل يصح اختزال عصر المأمون، وهو من أزهى عصور الازدهار الحضارى فى تاريخ العالم، فى تلك المظالم التى ركزت عليها الكاتبة بالباطل؟ أين التفتح الثقافى؟ أين الرواج الاقتصادى والنعمة التى كان يعيش فيها الناس بوجه عام؟ لقد انتقل راوى "البشمورى" إلى بغداد، بل لقد دخل قصر الخلافة يشتغل مساعدا لكبير الطباخين، فلم نر من قصر الخلافة إلا مجلسا للخليفة ترقص فيه امرأة لعوب تثير الشهوات. فهل هذا هو كل ما كان يجرى فى مجلس المأمون، إن كان مجلس المأمون يعرف الراقصات العاريات أصلا؟ ألم يكن هناك علماء يتناقشون فى حضرته ويشاركهم مداولاتهم الفكرية؟ ألم يكن هناك رجال دولة يستشيرهم الخليفة ويتناول معهم شؤون الأمة وكيفية تدبيرها؟ ألم يكن هناك أصحاب شكاوى يلجأون إليه لإنصافهم؟ أليس إلا الراقصات؟ وعلى نفس الشاكلة نجد الرواية تركز فى عصر المعتصم على العيارين والتذمر والفتن وحدها، وكأن الدولة فى عهد ذلك الخليفة العظيم لم تك تحتوى على أى خير. الحق أنه لو لم يكن له من فضل إلا أنه أدب الروم وغزا بلادهم وجعلهم يتلفتون حولهم فى ذعر لكان ذلك حسبه من المجد والفخار والخلود فى صحائف التاريخ المنيرة.
وعن المأمون يقول السير وليم موير المستشرق البريطانى المعروف: "كان حكم المأمون مجيدا عادلا، وكان عصره مزدهرا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة. وكان أديبا مولعا بالشعر متمكنا منه... وكان مجلسه حافلا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، إذ كان يقرّبهم إليه ويُجْزِل لهم العطاء. وكما كان عصره عامرا بالعلماء والأدباء والنحاة فإنه كان كذلك حافلا بجماعة المحدِّثين والمؤرخين والفقهاء كالبخارى والواقدى، الذى نحن مدينون له بأوثق السِّيَر عن حياة النبى، والشافعى وابن حنبل. وكان المأمون يجلّ علماء اليهود والنصارى ويحتفى بهم فى مجلسه لا لعلمهم فحسب، بل لثقافتهم فى لغة العرب وحذقهم فى معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سورية وآسيا الصغرى كتبا خَطِّيّة فى الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة. وبهذه الوسيلة انتقلت علوم العرب إلى العالم الإسلامى. ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدا فى سهل تدمر مجهزا بجميع الآلات التى تمكنهم من النجاح فى دراسة علمى الفلك والهندسة والتوسع فيهما. وقد صنفوا كتبا فى الرحلات والتاريخ، ولا سيما كتب الطب، وعُنُوا عناية كبيرة ببعض علوم تافهة، إلا أنها كانت أكثر ذيوعا وانتشارا كالتنجيم والكيمياء. وكان لمجهود هؤلاء العلماء الأثر الأكبر فى نهضة أوروبا، التى كانت غارقة فى بحار الجهالة فى العصور الوسطى حيث أيقظتهم من غفلتهم وأنارت لهم سبل علومهم التى كانوا أغفلوها، وهى علوم اليونان وفلسفتها" (د. أحمد فريد رفاعى/ عصر المأمون/ ط2/ مطبعة دار الكتب المصرية/ 1346هـ- 1927م/ 1/ 399- 400).
وأصل هذا الكلام موجود فى كتاب موير: "The Caliphate: Its Rise, Decline, and Fall from Original Sources"، وهو متاح لمن يريد مراجعته بنفسه فى الفصل السادس والستين المخصص للحديث عن المأمون وعصره تحت عنوان فرعى هو: "Development of science and literature".
أبو الفرج إذن أديب صاحب أسلوب وسَرْد ساحر، أما مؤرخًا فلا يساوى الكثير، بل ينبغى التعامل معه بحذر ويقظة. ومن لا يعرف هذا فهو جاهل وذو نسب فى الجاهلين عريق، وعليه أن يبحث له عن شغلة أخرى غير القلم والكتابة. أقول هذا رغم ما ابتُلِينا به هذه الأيام من أن كل من هب ودب يمسك بالقلم وينشر صورة له وقد وضع يده على خده ونظر أمامه فى الفراغ لا يركز على شىء كأنه يستوحى ربة الإلهام ولا ينتمى إلى دنيانا، فيقال عنه: الأديب الكبير، مع أنه لا يزيد عن أن يكون عَيِّلاً صغيرًا لا يزال يلعب فى...
وكعادة الأسوانى فى الكتابة من مخه مباشرة دون محاولة التمحيص أبدا نراه يسمى حكام بنى أمية وبنى العباس بـ"الملوك"، لا يذكر لهم لقبا آخر البتَّة رغم تكراره الكلام عنهم، وهو ما لم يستعمل سواه أيضا جهاد الخازن، الذى كان قد كتب (بالمصادفة المحضة العجيبة طبعا!) قبل الأسوانى بأيام قليلة جدا مقالا فى ذات الموضوع، ويتجه ذات الاتجاه فى الهجوم على الخلافة والسخرية ممن يتمنَّوْن عودتها إلى الحياة، مما سوف نأتى إليه لاحقا. فبأية أمارة يا ترى يستعمل د. الأسوانى للأمويين والعباسيين لقب "الملوك"؟ يبدو أنه يجهل لقبهم المعروف الذى يعلمه القاصى والدانى، ألا وهو لقب "الخلفاء". لكن ما وجه العجب، وهو لا يعرف شيئا عن قيمة الحضارة الإسلامية العظيمة، فيما يبدو، إلا من الأستاذ الأسبانى الذى يقول إنه كان يحاضرهم فى أدب بلاده، والعهدة عليه. وجهله بلقب الحكام الأمويين والعباسيين هو لون من خذلان القدر، بالضبط مثلما خذله الله فجعله يزعم فى "عمارة يعقوبيان" أن المسلمين يوم الجمعة يهتفون فى المساجد ويهللون ويكبرون وينشدون الأناشيد، وتنطلق زغاريد النساء خلال ذلك بالعشرات، وكأننا فى صالة أفراح. فهذا من ذاك.
والآن إلى عينة مما فى كتاب أبى الفرج الأصفهانى، الذى اعتمد عليه بالدرجة الأولى طه حسين فى التدليس الزاعم بأن القرن الثالث الهجرى كان عصر شك ومجون وإلحاد، وهى عينة ضئيلة جدا: "أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: حدثني حمزة النوفلي قال: صلى الدلال المخنَّث إلى جانبي في المسجد، فضرط ضرطةً هائلةً سمعها من في المسجد، فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد، وهو يقول في سجوده رافعًا بذلك صوته: سَبَّح لك أعلاي وأسفلي. فلم يبق في المسجد أحدٌ إلا فُتِن وقطع صلاته بالضحك".
ومما كتبه أبو الفرج على هذا المنوال فى نفس الكتاب: "أخبرني الحسن بن علي الخفاف وعبد الباقي بن قانع قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال: حدثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال: حدثني عمر القاري بن عيد قال: قال الوليد بن يزيد يوما: لقد اشتقتُ إلى معبد. فوُجِّه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد. وأمر الوليد ببركةٍ قد هيئت له فملئت بالخمر والماء، وأُتِيَ بمعبد فأمر به فأُجْلِس والبركة بينهما، وبينهما ستر قد أُرْخِيَ، فقال له: غنني يا معبد:
لهفي على فتية ذل الزمان لهم فما أصابهمو إلا بما شاءوا
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهمو حتى تَفَانَوْا ورَيْبُ الدهر عَدَّاءُ
أبكى فراقُهمو عَيْنِي وأَرَّقَها إن التفرُّق للأحباب بَكَّاءُ
... فغناه إياه، فرفع الوليد الستر ونزع ملاءةً مطيبة كانت عليه وقذف نفسه في تلك البركة، فنهل فيها نهلةً، ثم أُتِيَ بأثوابٍ غيرها وتلقَّوْه بالمجامر والطيب، ثم قال: غنني:
يا ربع، مالك لا تجيب متيَّما قد عاج نحوك زائرًا ومسلِّما؟
جادتك كل سحابةٍ هَطّالةٍ حتى تُرَى عن زهرةٍ متبسما
... فغناه، فدعا له بخمسة عشر ألف دينارٍ فصبها بين يديه ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت.
وأخبرني بهذا الخبر عمي فجاء ببعض معانيه وزاد فيه ونقص، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني سليمان بن سعد الحلبي قال: سمعت القاري بن عدي يقول: اشتاق الوليد بن يزيد إلى معبد، فوجه إليه إلى المدينة فأُحْضِر. وبلغ الوليدَ قدومُه فأمر ببركةٍ بين يدي مجلسه، فمُلِئت ماء وردٍ قد خُلِط بمسك وزعفران، ثم فرش للوليد في داخل البيت على حافة البركة، وبسط لمعبد مقابله على حافة البركة، ليس معهما ثالثٌ، وجيء بمعبد فرأى سترا مُرْخًى ومجلس رجل واحد. فقال له الحاجب: يا معبد، سلم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع. فسلم، فرد عليه الوليد السلام من خلف الستر ثم قال له: حياك الله يا معبد! أتدري لم وَجَّهْتُ إليك؟ قال: الله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. قال معبد: أأغني ما حضر أم ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: بل غنني:
ما زال يعدو عليهم رَيْبُ دهرهمو حتى تفانَوْا، ورَيْبُ الدهر عَدّاءُ
فغناه، فما فرغ منه حتى رفع الجواري السجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج منها، فاستقبله الجواري بثيابٍ غير الثياب الأولى، ثم شرب وسقى معبدا، ثم قال له: غنني يا معبد:
يا ربع، مالك لا تجيب متيما قد عاج نحوك زائرا ومسلِّما؟
جادتك كل سحابة هَطّالة حتى ترى عن زهرةٍ متبسما
لو كنت تدري مَنْ دعاك أجبتَه وبكيتَ من حُرَقٍ عليه إذًا دما
قال: فغناه، وأقبل الجواري فرفعن الستر، وخرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج فلبس ثيابًا غير تلك، ثم شرب وسقى معبدًا، ثم قال له: غنني. فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال غنني:
عجبتْ لما رأتني أَنْدُب الرَّبْع الـمُحِيلا
واقفًا في الدار أبكي لا أرى إلا الطُّلُولا
كيف تبكي لأناسٍ لا يَمَلُّون الذَّمِيلا؟
كلما قلت: اطمأنتْ دارهم قالوا: الرحيلا
قال: فلما غناه رمى نفسه في البركة ثم خرج، فردوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا، ثم أقبل عليه الوليد فقال له: يا معبد، مَنْ أراد أن يزداد عند الملوك حظوةً فَلْيَكْتُم أسرارهم. فقلت: ذلك ما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به. فقال: يا غلام، احمل إلى معبدٍ عشرة آلاف دينار تحصل له في بلده وألفي دينار لنفقة طريقه. فحُمِلَتْ إليه كلها، وحُمِل على البريد من وقته إلى المدينة".
وقال أبو الفرج أيضا: "اجتمع يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وجميع أصحابهم، فشربوا أيامًا تِبَاعًا، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي وهم سكارى: ويحكم! ما صلينا منذ ثلاثة أيام، فقوموا بنا حتى نصلي. فقالوا: نعم. فقام مطيع فأذَّن وأقام، ثم قالوا: من يتقدم؟ فتدافعوا ذلك، فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيَّبة بلا سراويل، فلما سجدتْ بان فرجها، فوثب مطيع وهي ساجدة فكشف عنه وقبَّله وقطع صلاته، ثم قال:
ولما بدا فرجها جاثمًا كرأسِ حليقٍ ولم تعتمد
سجدتُ إليه وقبَّلْتُه كما يفعل الساجد المجتهد
فقطعوا صلاتهم، وضحكوا وعادوا إلى شربهم". وهذا كله، كما يرى القارئ العزيز، فَشْرٌ ولا فَشْر أبى لمعة الأصلى، وهو مُسَلٍّ وممتع كما كان فَشْر أبى لمعة يسلينا أيام "ساعة لقلبك"، وإن كان هذا تمثيلا، وذاك أدبا، علاوة على أن أبا لمعة لم يكن ينحو هذا النحو العارى البذىء.
أما معاوية وتحويله الحكم فى الإسلام من شورى إلى ملك عضوض فلا جدال لنا فيه، إذ إن ترك الناس يختارون حكامهم بملء حريتهم لهو أفضل كثيرا من فرض حاكم معين عليهم، وإن كان من المستطاع المجادلة بأن معاوية وأمثاله كانوا يأخذون البيعة لمن يريدون توليته من أولادهم على المسلمين، إلا أن الرد على ذلك سهل أيضا، فمثل تلك البيعة إنما هى بيعة شكلية. ولقد غبر علىّ زمان كنت أقرب إلى سوء الظن فى ذلك الصحابى الجليل لخلافه مع على، رضى الله عنهما جميعا، وبخاصة بعدما قرأت الكتابين اللذين وضعهما العقاد العملاق الأثير إلى قلبى عن هذين العَلَمين الكبيرين: "عبقرية الإمام" و"معاوية بن أبى سفيان فى الميزان"، فجعل الإمام عليًّا عبقريا، بينما وضع معاوية على المحك ليمتحنه ويحكم عليه، وأقام كليهما فى مواجهة الآخر على نحو لا يمكن معه أن يلتقيا أبدا. إلا أن الأيام قد لطّفت من حدة موقفى، إذ أرتنى معاوية إنسانا حليما طويل الأناة، وسياسيا باقعة فتح البلاد أمام نور الإسلام فأبصرت العيون أضواء الحق بعدما انقشع عنها غشاء الظلام، وأعز الله به دينه وأمة نبيه. ولا يوجد إنسان مبرأ من المآخذ أبدا، والعبرة بالمحصلة النهائية وما يغلب على الشخص من أخلاق وتصرفات ومواقف. ولست أظن معاوية يمكن أن يرسب فى أى امتحان يُعْقَد له بعد أن نجمع حسناته، وهى كثيرة، ونسقط منها مآخذه، وهى قليلة. ولا ننس أن الحكم فى العصور القديمة كلها كان قائما على التوريث. ثم إننا لو فكرنا قليلا فى الأسلوب الذى يمكن أن ننظم على أساسه عملية استفتاء الجماهير فى الشخص الذى سوف يتولى أمورهم لوجدنا الأمر فى ذلك الوقت غاية فى الصعوبة، اللهم إلا إذا كانت الدولة فى حجم مدينة (كما كان الحال فى انتخابات أثينا) لا إمبراطورية شاسعة مترامية الأطراف كان هذا أول عهد أهلها بالحكم، إذ كيف تؤخذ الأصوات ويُحْصَى من قالوا: "نعم"، ومن قالوا: "لا"، وتُنْقَل النتائج سريعا إلى عاصمة الدولة؟ ومن ثَمّ لم يكن أمامهم إلا نظام أهل الحل والعقد، وهو يختلف عن نظام الانتخابات كما نعرفه الآن. وهذا إن كان نظام الانتخابات هو النظام الأمثل الخالى من العيوب. صحيح أننا كنا نفضل لو بقى الحكم فى الإسلام شورى حسبما يتسق مع روح الإسلام وكما وضع الرسول العظيم أسسه، لكن القدر كانت له كلمة أخرى.
بيد أن هذا لا ينبغى أبدا أن يدفعنا إلى التنقص من شأن معاوية رضى الله عنه، فقد قدم رغم هذا كله للإسلام، أثناء الخلافة وقبلها، خدمات جليلة تُكْتَب بحروف من نور على صفحات من ذهب، فقد حكم رعاياه بحلم وسعة صدر وتواضع، كما تولى القيادة العسكرية فى عهد الصديق، وولاية الشام فى عهد عمر، وكان ناجحا فى كلا العملين نجاحا كبيرا. وناهيك بشخص يرضى عنه الصديق والفاروق كلاهما، وفى ميدانين مختلفين. وبالمناسبة فقد كان الهاشميون أنفسهم يرون الحكم من حقهم وراثة عن النبى عليه السلام، إلا أن هذا لا يجعلنا نسوى بين على ومعاوية، بل يبقى على، رغم فضل الاثنين كليهما، أعلى هامة. ومع ذلك فلو افترضنا أننا خلطنا حسنات هذا بشىء من حسنات ذاك، فأضفنا إلى مثالية علىٍّ الحادة بعضا من مرونة معاوية ودهائه وأناته وقدرته على ترتيب الأولويات حسب متطلبات السياق لكان لدينا شخص فذ ليس له ضريب.
وقد كتب يوحنا الفينيقى، وهو راهب نسطورى عراقى معاصر لمعاوية، يصف حكمه فأكد أن العدل كان مستتبًّا فى عصره، وأن السلم قد شاع فى البلاد لدرجة ليس لها مثيل، وأن أحدا لم يشاهد أو يسمع شيئا مثل هذا من قبل:"Justice flourished in his time, and there was great peace in the regions under his control. Once Mu'awya had come to the throne, the peace throughout the world was such that we have never heard, either from our fathers or from our grandparents, or seen that there had ever been any like it" (نقلا عن مادة "Mu'awiya I" فى الطبعة الجديدة من "The Encyclopaedia of Islam").
وفى المادة المخصصة له فى ط2011م من الـ"Encyclopædia Britannica" نقرأ أن معاوية، رغم ما تعرض له من انتقاد كثير من الكتاب والعلماء بسبب تحويله الحكم إلى ملك عضوض، كان صاحب إنجازات عظيمة تتمثل قبل كل شىء فى ميدانى القيادة الحربية والإدارة السياسية، إذ استطاع أن يعيد بناء الدولة الإسلامية، التى كانت قد سادتها الفوضى، وأن يفتح جبهات الحرب من جديد ضد أعداء الإسلام: "a person whose actual accomplishments were of great magnitude quite apart from partisan value judgments and interpretations. These accomplishments lay primarily in political and military administration, through which Mu'āwiyah was able to rebuild a Muslim state that had fallen into anarchy and to renew the Arab–Muslim military offensive against unbelievers".
حتى توريث الحكم قد سوغه ول ديورانت فى "قصة الحضارة" بأن العاهل الأموى قد ظنه السبيل الوحيد للحفاظ على تماسك الدولة وإنقاذها من الصراع والفوضى المترتبين على انتخاب خليفة لها، وإن ذكر أن صراعا قد نشب بسبب الحكم عقب وفاته رغم ذلك: "Thinking the hereditary principle the sole alternative to chaotic struggles for an elective caliphate, he declared his son Yezid heir apparent, and exacted an oath of fealty to him from all the realm. Nevertheless, when Muawiya died (680), a war of successionrepeated the early history of his reign".
أما ما أورده د. الأسوانى من كلام منسوب إلى معاوية يقول فيه إن "الأرض لله، وأنا خليفة الله: فما أخذتُ فَلِى، وما تركتُه للناس فبفضلٍ منى" فهو كلام لا يدخل العقل، إذ كان معاوية صحابيا جليلا يعرف حدوده جيدا فلا يمكنه أن يقول مثل تلك الكلمة الغريبة التى لا تتسق مع تفكير العرب والمسلمين فى ذلك الوقت المبكر من تاريخ الإسلام بالذات، وبخاصة تفكير واحد كمعاوية كان يكتب الوحى والرسائل النبوية، فضلا عن كونه صهر الرسول، إذ هو أخو أم المؤمنين رملة بنت أبى سفيان المكناة بـ"أم حبيبة". ولسوف نرى أن الكلمة المنسوبة للخليفة العباسى أبى جعفر المنصور بشأن المال ومهمته تجاهه لا تبلغ أبدا المدى الذى بلغته الكلمة المنسوبة إلى معاوية رغم أنه متأخر كثيرا جدا عن معاوية، ومن ثم كانت تفصل بينه وبين الرسول فترة زمنية طويلة بما يرجح أن يكون تأثره بمبادئ الإسلام أخف من تأثر معاوية. فكيف نصدق أن معاوية يمكن أن يكون قد نطق بهذا الهراء؟
كذلك ينقل الأسوانى عن عبد الملك بن مروان كلمة منسوبة إليه يقال إنه خطب بها على منبر النبى، وهى: "والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه". وهى كلمة لا تدخل العقل، بل يصعب أن نصدق صدور مثلها عن حاكم كافر مجرم، فما بالنا بحاكم مسلم عالم فقية محدّث؟ ذلك أنه لا يمكن أن تواتى الحاكمَ نفسُه على التلفظ بمثل تلك الكلمة مهما كان فى أعماقه كافرا بالله مجترئا على محارمه لا يبالى بخير أو بشر ولا يؤمن بأية قيمة خلقية، اللهم إلا إذا كان مجنونًا أو أحمقَ بَيِّن الـحُمْق. فما بالنا لو كان المنسوبة إليه هذه الكلمة هو عبد الملك بن مروان الحاكم عالم الفقه والحديث السابق؟ إن الحكام الفسقة العهرة أنفسهم ليعملون عادة على الظهور بمظهر الصالحين الطاهرين، فكيف نصدق أن عبد الملك يعكس الآية فيُظْهِر جحوده وفسوقه على هذا النحو الفِجّ، وهو العالم الورع، أو الذى كان ورعا فى أقل تقدير؟ وقد رُوِى عنه أنه "لما حضره الموت جعل يضرب على رأسه بيده، ويقول: وددت أني كنت منذ وُلِدْتُ إلى يومي هذا حمالاً" ("فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبى، وكذلك "الفرج بعد الشدة" للقاضى التنوخى نقلا عن "تاريخ الخلفاء" للسيوطى، و"الكامل" لابن الأثير). وليس هذا كلام رجل يهدد من يذكّره بتقوى الله بالإطاحة بعنقه.
ولقد أكد د. ضياء الدين الريس فى كتابه عنه أنه كان حريصا على ترسم خطا عمر بن الخطاب فى "شدته ونزاهته ورعايته لواجبه وحرصه على صالح الدولة" (د. ضياء الدين الريس/ عبد الملك بن مروان موحّد الدولة العربية- حياته وعصره/ أعلام العرب/ العدد 10/ 309). كما أُثِر عنه قوله لبعض الشعراء فى مجلسه: "تشبّهوننا بالأسد، والأسدُ أبْخر، وبالبحر، والبحرُ أُجَاج، وبالجبل مرّةً، والجبلُ أوعر! ألاَّ قلتم كما قال أيمن بن خُرَيْم ابن فاتك لبنى هاشم:
نهاركُمو مكابدةٌ وصومٌ وليلكمُو صلاةٌ واقتراءُ
..." (أبو أحمد العسكرى/ المصون فى الأدب). فهو يفضل أن يوصف بأنه يقضى وقته فى الصلاة والصوم وقراءة القرآن. ومثل ذلك ما أورده أبو الفرج فى "الأغانى"، والصفدى فى "فوات الوفيات"، والقاضى التنوخى فى "الفرج بعد الشدة"، وابن سنان الخفاجى فى "سر الفصاحة"، وغيرهم من أن ابن قيسِ الرُّقَيّات مدحه ذات مرة فقال:
يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب
فقال له غاضبا: يا ابن قيس، تمدحني بالتاج كأني من العجم، وتقول في مصعب:
إنما مصعب شهاب من الـلــــــــــه تجلت عن وجهه الظلماءُ
ملكه ملك عزة ليس فيه جبروتٌ منه ولا كبرياءُ؟
وعلى نفس الشاكلة يصعب على نفسى أن تتقبل الرواية التى تقول إن أبا العباس السفاح قد أتى بأمراء بنى أمية فأمر بقتلهم ثم أحضر غطاء كبيرا بسطه عليهم، وجلس فوقه، وكانوا لا يزالون يضطربون، ثم شرع يأكل. وها هى ذى الرواية كما أوردها أبو الفرج فى "أغانيه": "أخبرني عمي عن الكراني عن النصر بن عمرو عن المعيطي أن أبا العباس دعا بالغَدَاء حين قُتِلوا، وأمر ببساطٍ فبُسِط عليهم، وجلس فوقه يأكل، وهم يضطربون تحته. فلما فرغ من الأكل قال: ما أَعْلَمُني أكلتُ أكلةً قَطُّ أهنأ ولا أطيب لنفسي منها. فلما فرغ قال: جُرُّوا بأرجلهم. فأُلْقُوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتًا كما لعنوهم أحياء. قال: فرأيت الكلاب تجر بأرجلهم، وعليهم سراويلات الوَشْى، حتى أنتنوا. ثم حُفِرَتْ لهم بئرٌ فأُلْقُوا فيها". وهناك روايات مختلفة التفاصيل لتلك الواقعة، أيا كان نصيبها من الصحة، موجودة فى كتب أخرى كـ"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"غُرَر الخصائص الواضحة وعُرَر النقائض الفاضحة" للوطواط، و"نهاية الأرب فى فنون الأدب" للنويرى. على أن الأمر هنا إنما يتجاوز القسوة إلى شىء آخر يتعلق بالذوق والمشاعر الإنسانية الطبيعية، وهو ما لا أتخيل السفاح يمكن أن يقدم عليه بأى حال من الأحوال مهما قيل عن قسوته وشدته مع أعدائه.
وبالمثل يقول د. الأسوانى عن أبى جعفر المنصور مدللا على أنه كان يحكم بالتفويض الإلهى الذى عرفته أوربا فى العصور الوسطى إبّان كانت متخلفة أشد التخلف فى جميع ميادين الحياة، وكانت شعوبها ترزح تحت وطأة الاستبداد الإجرامى الغليظ: "أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة، وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا، وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله". ولقد أورد ابن عبد ربه مثلا فى كتاب "العقد الفريد" خطبة خطبها المنصور بمكة تجرى على النحو التالى: "أيها الناس، إنما أنا سلطان اللهّ في أرضه، أَسُوسكم بتوْفيقه، وتَسْدِيده وتأييده، وحارسُه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأُعطيه بإذنه، فقد جَعلني اللهّ عليه قُفلاً، إذا شاء أن يَفتحني فَتَحَني لإعطائكم، وقَسْم أَرزاقكم، وإذا شاء أَنْ يُقْفِلني عليها أَقْفَلني. فارغبوا إلى اللّه وسَلُوه في هذا اليومِ الشريفِ الذي وَهَب لكم من فَضْله ما أَعْلَمكم به في كتابه إذ يقول: "اليومَ أكْمَلتُ لكم دِينَكم وأتمَمْتُ عليْكمْ نِعْمَتي ورَضِيتُ لكم الإسلامَ دينا" أن يُوَفِّقني للرَّشاد والصواب، وأن يُلْهمني الرأفة بكمَ والإحسان إليكم".
وأغلب الظن أنها هى الخطبة التى أشار إليها الأسوانى. ومن يتمعن فى كلمات أبى جعفر، إذا سلمنا أنه قال ذلك فعلا ولم يُحْمَل عليه حملا، يجده مؤمنا بالله سبحانه وتعالى، إذ يرجع كل توفيق فى حياته وسياسته إلى الله وحده، جاعلا من نفسه مجرد حارس على المال الذى وهبه الله أمة الإسلام، مؤكدا أنه بحاجة ماسة إلى دعوة الله له بالتوفيق، إذ هو من غير هذا التوفيق لاشىء. ولكى يطمئن القارئ إلى صحة توجيهى لعبارة "حارسه على ماله" أذكره بما مر قبلا من أن عبد الملك بن مروان قد استعمل عبارة شبيهة بتلك العبارة وشفعها بما يدل على المعنى المراد، إذ كان الحجاج قد أسرف فى إنفاق المال فأمره أن يرده إلى أصحابه، "فإنما المال مال الله، ونحن خُزّانُه" بنص كلامه (انظر "عبد الملك بن مروان موحّد الدولة العربية- حياته وعصره " للدكتور ضياء الدين الريس/ 306). أما "سلطان الله فى أرضه" فمعناها أنه عبد لله قد ألقى الله عليه مسؤولية الحكم وتدبير شؤون الرعية، وأن الأرض التى يحكمها ليست إلا أرض الله. وهو ما لا يمكن أن يقوله جبار غشوم كالذى يصوره لنا الأسوانى. والخطبة كلها تدور من أولها إلى منتهاها حول معنى واحد هو أن إرادة الله فوق كل إرادة، وأن كل شىء إنما هو من عنده عز وعلا، وأنه هو نفسه لا يملك من أمر نفسه شيئا. هذا، وليست غايتى أن أجعل من المنصور ملاكا مبرأ من العيوب، بل غايتى أن أبين أن كلامه، إن صح أنه كلامه حقا، لا يدل على ما يريد الأسوانى أن يحمّله إياه من معانٍ عقيدية وسياسية لم يكن حكامنا المسلمون يعرفونها، بل عواهل أوربا.
واستئناسا بمؤرخ غربى نورد هذه السطور التى يرسم بها وِلْ دُيُورَنْت (Will Durant) المؤرخ الأمريكى صورة لذلك الخليفة العباسى فى كتابه عن "قصة الحضارة"، ونصها فى الترجمة العربية: "كان الخليفة الجديد في سن الأربعين، طويل القامة، نحيف الجسم، ملتحيا أسمر البشرة، شديدا في معاملاته. ولم يكن أسيرا لجمال النساء أو مدمنا للخمر أو مولعا بالغناء، ولكنه كان يناصر الآداب والعلوم والفنون، ويمتاز بعظيم قدرته وحزمه وشدة بطشه. وبفضل هذه الصفات ثبت دعائم أسرة حاكمة لولاه لماتت بموت السفاح. وقد وجه جهوده لتنظيم الأداة الحكومية، وبنى مدينة فخمة هي مدينة بغداد واتخذها عاصمة للدولة، وأعاد تنظيم الحكومة والجيش في صورتيهما اللتين احتفظا بهما إلى آخر أيام الدولة. وكان يشرف بنفسه على كل إدارة في دولاب الحكومة وعلى جميع أعمال هذه الإدارات. وأرغم الموظفين المرتشين الفاسدين، ومنهم أخوه نفسه، على أن يردوا إلى بيت المال ما ابتزوه من أموال الدولة. وكان يراعي جانب الاقتصاد، بل قل: الحرص الشديد، في إنفاق الأموال العامة حتى نفر منه الأصدقاء، وأُطْلِق عليه لشُحِّه لقب "أبي الدوانق". وقد أنشأ في بداية حكمه نظام الوزارة الذي أخذه عن الفرس، وكان له شأن عظيم في تاريخ العباسيين. وكان أولَ من شغل منصب الوزير في عهده خالدُ بن برمك. وقد اضطلع بواجب خطير في حكم الدولة، وكان له شأن فيما وقع في أيام الدولة العباسية من أحداث جسام. وعمل المنصور وخالد على إيجاد النظام والرخاء اللذين جنى ثمارهما هارون الرشيد. ومات المنصور بعد أن حكم البلاد حكما صالحا دام اثنتين وعشرين سنة. وكان موته وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج. ولم يكن في وسع ابنه المهدي (775-785) إلا أن يسلك في حكمه سبيل الخير. وقد شمل عفوه جميع المذنبين إلا أشدهم خطرا على الدولة".
وهذا هو النص فى أصله الإنجليزى لمن يريده، وهو موجود فى المجلد الرابع من "The Story of Civilization":
"The new Caliph was forty, tall, slender, bearded, dark, austere; no slave to woman's beauty, no friend of wine or song, but a generous patron of letters, sciences, and arts. A man of great ability and little scruple, by his firm statesmanship he established a dynasty that might else have died at al-Saffah's death. He gave himself sedulously to administration, built a splendid new capital at Baghdad, reorganized the government and the army into their lasting form, kept a keen eye on every department and almost every transaction, periodically forced corrupt officials- including his brother- to disgorge their peculations into the treasury, and dispensed the funds of the state with a conscientious parsimony that won him no friends, but the title of "Father of Farthings." At the outset of his reign he established on a Persian model an institution- the vizierate- which was to play a major role in Abbasid history. As his first vizier he appointed Khalid, son of Barmak; this family of Barmakids was cast for a heavy part in the Abbasid drama. Al-Mansur and Khalid created the order and prosperity whose full fruits were to fall into the lap of Harun al-Rashid. After a beneficent reign of twenty-two years al-Mansur died on a pilgrimage to Mecca ".
وينتهى الأسوانى إلى القول بأن "فلسفة الحكم إذن لم يكن لها علاقة بالدين من قريب أو بعيد، بل هى صراع شرس دموى على السلطة والنفوذ والمال لا يتورعون فيه عن شىء حتى لو كان الاعتداء على الكعبة وهدم أركانها. فلا يحدّثْنا أحد عن الدولة الإسلامية الرشيدة التى أخذت بالشريعة لأن ذلك ببساطة لم يحدث على مدى ١٤ قرنا إلا لفترة ٣١ عاما فقط. السؤال هنا: ما الفرق بين الحكم الإسلامى الرشيد، الذى استمر لسنوات قليلة، وبين ذلك التاريخ الطويل من الاستبداد باسم الإسلام؟
إنه الفرق بين العدل والظلم، بين الديمقراطية والاستبداد. إن الإسلام الحقيقى قد طبق الديمقراطية الحديثة قبل أن يطبقها الغرب بقرون طويلة. فقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن اختيار من يخلفه فى حكم المسلمين، واكتفى بأن ينتدب أبا بكر لكى يصلى بالمسلمين بدلاً منه وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسل الإشارة أنه يفضل أبا بكر لخلافته دون أن يحرم المسلمين من حقهم فى اختيار الحاكم. وعندما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع زعماء المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة ليختاروا الخليفة. هذا الاجتماع بلغتنا الحديثة اجتماع برلمانى بامتياز تداول فيه نواب المسلمين الأمر ثم انتخبوا أبا بكر ليتولى الحكم. وقد ألقى أبو بكر على المسلمين خطبة قال فيها: يا أيها الناس، لقد وُلّيت عليكم، ولست بخيركم. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله. فإن عصيتهما فلا طاعة لى عليكم.
هذه الخطبة بمثابة دستور حقيقى يحدد العلاقة بين الحاكم والمواطنين كأفضل دستور ديمقراطى. نلاحظ هنا أن أبا بكر لم يقل إنه خليفة الله، ولم يتحدث عن حق إلهى فى الحكم، بل أكد أنه مجرد واحد من الناس، وليس أفضلهم. هذا المفهوم الديمقراطى الذى هو جوهر الإسلام سيستمر سنوات قليلة ثم يتحول إلى مفهوم آخر مناقض يعتبر الحاكم ظل الله على الأرض.فيقول معاوية بن أبى سفيان: الأرض لله، وأنا خليفة الله: فما أخذتُ فَلِى، وما تركتُه للناس فبفضلٍ منى. ويقول أبو جعفر