قصة موت عزرائيل للقاص مفلح العدوان
قصة موت عزرائيل للقاص مفلح العدوان
قال عزرا – إيل : ( سبحانك لم يبق أحد ! )
حينئذ لم يومض الضوء العلوي ، بل ساد صمت ، فانقبض قلب عزرا –إيل .... وكان الثلاثة حوله : - (إسراف – إيل ... ميكا –إيل ... وجبرا –إيل ).
- (أي عزرا –إيل ... ألم تأخذك بهم رحمة حين قبضت على أرواح
الجميع ؟!) .قال جبرا – إيل .
- ( إنها الأوامر قضت بأن يموتوا ، ولست إلاّ يد العليّ ! )
وغشي الحزن عزرا-إيل !
***
جاء الصوت : ( من بقي يا عزرا – إيل ؟! )
التفت حوله ...
كانت الأرض فارغه إلاّ من شواهد القبور ، وأِشباح الموتى ، وهسيس الريح الذي يضرب جدران البيوت ...
ولم تكن اليابسة لذّة للساكنين ، ولا السماء فضاء الحالمين !
وحدها القبور كانت !
أما الدروب فكلها بقايا ذكريات بعيدة : هنا نقش البشر تاريخهم ، والعروش بقيت تفتقد دفء عباءات المتربعين عليها ،والمشانق تهتز حبالها بعد أن سقطت كل الرؤوس..
وفي الأزقة رذاذ كركرات ضحك الأطفال بلا صوت ، والوحشة خيمة حتى على الذكريات ... لم تبق الاّ الريح بلا معنى ، حيادية حدّ النشيج !
***
- ( من بقي يا عزرا –ايل ) ؟!
- (سبحانك ... لم يبق أحد ! )
وارتفع الصوت متحديا : ( بل بقي يا عزرا –ايل !)
حدّق حوله مدققا أكثر ....
كانوا يحيطون به : - ( جبرا –ايل/الحبيب ، إسراف –ايل /الرفيق ، ميكا –ايل /الصديق) كذلك أنا مؤتمن العرش وقابض أرواح الجميع !
ماذا ؟!
هل يعقل بعد هذه الخدمة العظيمة لهم في سرايا السماء أن يأمرني بأن اقبض أرواحهم ؛ الحبيب ، والرفيق ، والصديق ، وأنا ؟ّ
ماذا ؟! غريب أمر هذي السماء !
أبيض ... أحمر .. أخضر ... أسود ...
والبقية ماشية بألوان أخرى كثيرة ، تسير ولا تدري إلي أين ... على فترات أكلها الأسد بعد أن تنازلت في البدء عن الثور الأبيض ، ثم الأحمر ، والاخضر ، والأسود ... والبقية !
حتى جاء يوم قالوا فيه : ( أكلنا يوم أكل الثور الأبيض ! )
تذكر عزرا – ايل تلك القصة الأرضية فتساءل : ( ماذا عن مواشي السماء ؟! )
قال الصوت : ( من بقي يا عزرا – ايل؟! )
أجاب بانكسار : ( لم يبق إلاّ جبرا –ايل ، وإسراف –ايل ، وميكا –إيل ، وعبدك الماثل بين يديك ! )
عبدك ! عبدك!
هه .. نعم ، كلنا عبيدك ، ولك الأمر ... ها نحن أمامك بعد أن عذبنا الجميع وأمتناهم ، فماذا بقي ؟!
أغمض عينيه فرأى كيف كانوا يجوبون البلاد ، كل البلاد ،ويتنصتون إلي كل همسة ونأمه فيها ، ثم يخبرون صاحب الأمر بما تحدث به اليمين ، وما خطط له اليسار ... يرصدون له من فرح ومن بكي ... ثم يأتونه مخبرين : ( لقد أخطأوا ، وأساءوا ... لقد عارضوا وانحرفوا )
فيأمره صاحب القول : ( يا عزرا –ايل ، اقبض أرواحهم ثم زجهم في القبور ) . ويفعل دون سؤال !
يبكون فلا يرحم ... يرجون فلا يجيب ...
يتشبثون به : ( يا عزرا-ايل ، أمهلنا يوما أو بعض يوم !)
لكنه لا يسمعهم !
قال لروحه : ( كم كنت غبيا إذ لم أسأل نفسي ماذا سيكون مصيري حين يموت الجميع ؟! وماذا اذنبوا لينتهوا ، ويزجوا في القبور مع الدود والذباب ؟! ألأنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا ؟! )
- ( يا عزرا –ايل ... أقبض روح جبرا –ايل ؟! )
ارتفع الصوت آمراً ... فبكى جبرا –ايل !
وغطى الحزن وجهه فتساءل : ( سبحانك ... لماذا ؟! ألم أكن خادم عرشك المطيع ؟! ألست حامل رسائلك إلى مريديك حينا ، وجناح عذاب على معارضيك أحيانا أخرى ؟! ألم اكن نفخة الرحمة على بعض المدن – بأمرك – في زمان ، وإعصار نقمة على أقوام –بأمرك – في زمان آخر ؟! ألست حاجبك المطيع ، وحارس سرّك الأمين ؟! إذن ... لماذا تسلّط سيف الموت حتى عليّ ؟! )
لم يتراجع الصوت ، فاقترب عزرا –ايل ، وقال :
- (عُذيرك ... فلا بدّ وأن أطيع الأمر .. لا بدّ ) .
وقبض روح جبرا –ايل .
***
مرهقا كان !
ورأى إسراف – ايل ، وميكا – ايل ، يرجوانه ألاّ ينظر اليهما .
قال ميكا – ايل : ليتني لم أخلق !
قال إسراف – إيل : الدور قادم إلينا ، ولا مناص من قبضة عزرا –ايل !
هزّهما الصوت : ( يا عزرا –ايل من بقي من عبادي ؟! )
نظر إليهما ، فأشاحا بوجهيهما عنه ...وتحشرج صوته ...
قال : (سبحانك لم يبق إلا ميكا –ايل ، وإسراف –ايل ، وعبدك الماثل بين يديك ! )
ساد الصمت ...
واقترب منهما ، فالتقت عيناه بعيني ميكا –ايل : ( كيف يأمرني بقبض روحك وأنت من كنت بيدك تقبض أرزاق البلاد وخزائنها ، وبيدك انسياب الأنهار ، ودموع المطر ؟.. كيف ؟
وأنت كل الأشياء كنت تعطي أو تقطع ، تأمر أو تنهي ! ثم بلحظه يتخلى عنك ! كيف وأنت ذراعه التي تجتاح كل الأمكنة ، وتبعثر كل استقرار ؟! )
حوّل عينيه باتجاه إسراف – ايل ...
كان الصُور بين يديه ، بينما قلبه ينفخ خوفا ، وعيناه مذهولتان : ( أنا ... أنا من عذب الجميع ... الآن أعترف ! لا مجال للإنكار ، ولا بديل عن الاعتراف ، فبعد قليل ، وربما الآن سيقبض عزرا – ايل روحي رغم أنه صديقي ، لماذا أكذب ، حتى آخر لحظة ، على روحي ؟! نعم كنت سببا في شقاء الكثيرين ، وعليّ أن أعترف : أقر بأني أرهقت البشر ، كل البشر بالعذاب ... وكان خلاصهم بيدي لكني لم أفعل ... كنت الوحيد القادر على بعثهم ببوقي هذا لكني أجّلت ذلك عن سبق إصرار على تعذيبهم ، وتصميم على نيل رضا العليّ ولو على حساب آلامهم ... الآن أعترف ، وما كنت أدري بأن السيف الذي سلطته على رقاب العباد سيصل إلى رقبتي ! ) .
- ( يا عزرا – ايل ... إقبض روح ميكا – ايل ) .
أمر الصوت بذلك ، فانقض عزرا –ايل بسرعة خوف أن يأخذه ضعف ، وقبض روحه .
ثم لم يبق إلآه ، وإسراف – ايل فكانت المواجهة :
- ( عزرا – ايل ... ماذا لو أمرك أن تقبض روحي ... هل تفعل ؟! )
- ( رحماك إسراف –ايل ... وهل كنا جميعا نستطيع أن نخالف أمره ؟! )
- (كان افضل لو لن نعذّب ، أنا وأنت ، البشر ... ماذا استفدنا الآن ؟! ... لا شيء !! )
- (كنا نستطيع أن نخفف عنهم ، لكنا ما فعلنا ... وهو أمر بذلك !)
- (لو نستطيع الهروب ! )
- ( لكن على أين نهرب ؟!)
***
ارتطم الصوت بآذانهما : ( يا عزرا –ايل ... من بقي من عبادي ؟! )
فابتعدا فجأة عن بعضهما كأن لا رفقة بينهما ...
قال عزرا –ايل : ( بقي إسراف –ايل ... وعبدك الماثل بين يديك ! )
وبكى إسراف –ايل حين سمع :
- ( إذن ... فاقبض روح إسراف –ايل )
قال عزرا –ايل : ( ما الذي يبكيك الآن ؟! )
بكاء أجابه : ( تذكرتهم .. كلهم كانوا يرجونني أن أريحهم ، ولم أكن افعل ... كنت قاسيا معهم ... تذكرتهم ،وها قد جاء دورهم لينتقموا من عذابي لهم .. ! )
اقترب منه ، فسقط سماء ... ومات !
***
بقي عزرا – ايل ...
أحس بالغربة وحيداً !
تأمل حوله فكان رفاقه في خدمة العرش يسبحون موتى بين السماء والأرض بلا قبور ولا جبروت !
أخذ يهذي : ( وحدي بقيت ، وجميعهم رحلوا .. ليتني لم أعذب أحدا ... ليتني لم أُمت أحدا ... اقتربت الساعة ، وأنا حتى آخر لحظة إسفين الموت والعذاب حتى على أعزّ
الأحباب لي ! )
سمع الصوت: ( من بقي يا عزرا –ايل ؟! )
ها قد جاءني الموت !
ماذا افعل ؟! دقات قلبي تنخفض قليلاً ، قليلاً ، والبرودة بدأت تجتاح جسدي ... آه ،لو أشرب قطرة ماء .. لو أعطى القليل من الوقت لأكفّر عن خطاياي بحق من عذبتهم ...
اقتربت الساعة ، فماذا أفعل ؟!
بلهفة قال : ( سبحانك لم يبق إلا عبدك الماثل بين يديك ! )
عبدك ! عبدك!
إرحم عبدك .. أنا من نسي كلّ الرحمة من أجل إطاعة أمرك ...
ليتك ترحمني ! عبدك ... وعبدك ..
كنت سيفاً بيدك ، وموتاً بأمرك ، وعذاباً على كل معارضة لك ، وكاتم صوت لكلّ من
عاداك ! فهل تنساني بجرّة عمر ، او نفخة صور ؟!
عبدك ! عبدك !
دون أكتراث جاء الصوت : ( الآن جاء دورك يا عزرا –ايل ) ، وأحس بيد تنتزع روحه ...
في آخر شهقات الموت قال : ( آخ ، لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت .. ليتني كنت بهم رحيما ! )
***
كان الصمت أثقل من الموت !
والسماء كما الأرض أصبحت بلا ساكنين !
جاء الصوت : ( من بقي من عبادي ؟! )
لكن ... لا أحد يجيب !
ازداد الصوت أكثر : ( لمن الملك اليوم ؟! )
بقي الـ ( لا أحد ) يجيب صمتاً !
قال الصوت : ( الملك لي وحدي أنا القوي القهّار ! )