الثورة الثقافية: منطلقات وأبعاد

زهير أحمد المزّوق

الثورة الثقافية:

منطلقات وأبعاد

زهير أحمد المزّوق

إن مفهوم الثورة، بشكل عام، يعني القيام بعمل انقلابي في واقع الناس، يهدف إلى إحداث بعض الهدم في مقابل بعض البناء في ذلك الواقع. وبهذا تكون الثورة هدماً وبناءً في الوقت ذاته!.

ونحن إذا انطلقنا من هذا المفهوم العام للثورة، إلى تعريف محدد للثورة الثقافية، فإننا نقول: هي عمل فكري انقلابي يهدف إلى إحداث بعض التغيير في البنية الثقافية المجتمعية، وترى في ذلك التغيير ضرورة من أجل الانطلاق نحو واقع ثقافي أفضل.

ولكن هل القيام بهذه الثورة الثقافية، يقتضي بالضرورة قطع الصلة بالماضي الثقافي جملة وتفصيلاً؟.. وبالتالي هل يقتضي استبدال هذا الواقع أو استئصاله تحت شعار الثورة الثقافية؟..

هذا ما يدعونا إليه فريقٌ من أبناء جلدتنا الذين ابتلاهم الله بمرض الهزيمة الفكرية، والهزيمة النفسية، وبمرض الشعور بالنقص، ولهذا قاموا يبشّرون بمثل هذه الثورة التي يجب أن تتم وفق تغيير جذري راديكالي، أي وفق عملية نسف وتدمير شامل لكل البُنى الفكرية الماضية، وربما السائدة، وهذا ما عبّر عنه الكثيرون من أولئك المهزومين، كهذا الذي عرف الثورة الثقافية بقوله: نسفُ الذهنية المجتمعية ذات الجذور الممتدة إلى الماضي، وبناء جسور مقابلة تتجه إلى المستقبل(1).

ولقد خبرتُ الكثيرين من أمثال هذا الثوري المهزوم، من خلال المناقشات المتعددة معهم، فوجدت اطلاع هؤلاء على تراثنا الذي يريدون نسفه، لا يرتفع كثيراً عن مستوى اطلاع الحمار على المقامات الموسيقية!!.

إن طبيعة المرحلة الحضارية التي تمر بها أمتنا العربية، تفرض علينا الوقوف عند مثل هذه الدعوات الهدامة، ويفرض علينا تعرية زيفها وبطلانها، وذلك من أجل الإبقاء على الوحدة الثقافية الأصيلة لأمتنا، فما من أمة تستطيع ارتقاء سلّم الحضارة الإنسانية وهي تعاني من الشرذمة الفكرية.

الأديب الكبير إبراهيم عاصي في (جلسة مفتوحة) مع مالك بن نبي طرح عليه سؤالاً هاماً فقال: إذا أردنا أن نمضي في طريق الحضارة كيف نفعل؟.. أيكونُ سيرنا سيرَ المبتدئ أم سير المستأنف؟

أجابه مالك بن نبي: سير المستأنف طبعاً، وإلا نكون متنكرين لأعز فترة من تاريخ أمتنا، وأعظم إنجاز قدمته لنفسها وللعالم(2).

صدق المفكر الكبير مالك بن نبي، فالتنكر لذلك التراث الثقافي هو إعدام للهوية الشخصية، وإسقاط لكل خصائصها الذاتية، ولذلك فإن التمسك يذلك التراث هو حفاظ على الهوية والشخصية، وهو ضروري لنا الآن في انطلاقتنا المعاصرة لسببين على أقل تقدير:

السبب الأول: هو أننا، عبر مسيرة الإنسان الحضارية، كنّا عنصراً فاعلاً في تقديم هذه المسيرة، ولم نكن على الهامش، ولم نكن نكرات، ولم نكن عالة عليها، وما قدمناه للبشرية في هذا المجال لا يمكن تجاهله أو إنكاره أو حذفه من التاريخ، فضلاً عن إمكانية التهوين من شأنه في تقييم ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم.

السبب الثاني: ٍهو أن معرفتنا لهذا التراث ومعرفتنا للدور الحضاري الرائد عبر التاريخ يعطينا الثقة بالنفس والاعتزاز بها، وتشكل عاملاً هاماً في تحفيزنا إلى استعادة ذلك الدور الريادي الذي قام به أجدادنا القدماء.

وهنا لابد لي من التوجه بسؤال إلى أولئك المهزومين فكرياً ونفسياً:

هل تراثنا الثقافي، تحديداً، والذي تريدون استئصاله، هو سبب تخلفنا الآن؟

وهل يعقل أن التراث الثقافي الذي كان له الدور الريادي في الرقي الحضاري للإنسان، يكون هو ذاته وفي الوقت ذاته سبباً للتخلف؟

إنها رؤية خاطئة، وقراءة خاطئة، وتصور خاطئ، لا يقول به إلا واحد من اثنين:

الأول: جاهل بهذا التراث وبدوره التاريخي، وبذلك يكون حكمه باطلاً وجائراً.

والثاني: واقع تحت تأثير غزو ثقافي يهدف إلى تهميش ثقافتنا العربية والإسلامية، وإلى محو شخصيتها المتميزة، ومن كان كذلك، فليس من حقه أن يتكلم باسم الأمة وليس من حقه التأصيل لفكرها.

إن الثورة الثقافية التي نسعى إليها من أجل التقدم باتجاه الأفضل يجب أن تنطلق من الموروث الثقافي الأصيل الذي يعبر عن فكر الأمة وعن ضميرها، وعن وجدانها، وهذا لا يعني عدم استبعاد ما علق بهذا التراث من شوائب دخيلة عليه، كما أنه لا يعني إغلاق الأبواب في وجه الثقافة الوافدة التي لا تصدم خصائصنا الذاتية الأصيلة، بل لابد من مراعاة كل ذلك في مضمار الثورة الثقافية النهضوية الواعية، وهذه هي الأبعاد المرسومة لها، والتي لا ينبغي لنا تجاوزها على الإطلاق،.

وأخيراً رحم الله الشاعر الكبير أبا فراس الحمداني الذي عبّر عن ذلك أجمل تعبير وأوضحه حين قال:

فإن تمضِ أشياخي فلم يمضِ مجدُها        ولا  أَفَلتْ  تلك  العُلا والمآثرُ

نشيدُ  كما   شادوا  ونبني  كما بنوا        لنا شرفٌ ماضٍ وآخرُ حاضرُ

ففينا   لدين    الله ..  عِزّ   ومنعةٌ        وفينا  لدين الله سيفٌ وناصرُ

                

(1) محمد عمران – ملحق الثورة الثقافية – عدد 13/ في 3/6/ 1976م.

(2) جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي، ص 31.