تجربتي في مسرحية الطفل

جاسم محمد صالح

[email protected]

لقد كتبت سابقاً عن تجربتي الذاتية في مجال قصص الاطفال ، وتناولت وقتها قصة الطفل وقلت فيها : (( إن تدوين التجربة الذاتية يعد من أصعب الاعمال التي يواجهها الكاتب، لانه من الصعب على الكاتب أن يتمكن من ذلك مهما كانت قدرته وإبداعه، لان التفريق بين سمات التجربة الذاتية وبين وسائل الابداع الاخرى صعبٌ جداً ))، وتكمن الصعوبة والحرج في هذا الخلط الذي قلما يستطيع أحدٌ تجاوزه، ومع هذا فإن الخوض في هذا المجال ما هو إلا تجربة وكما ذكرت سابقاً بأن التجربة قابلة للفشل أو للنجاح وكلتا الحالتين تقدمان شيئاً للفكر وللابداع وللتراث الانساني والحضاري الذي نطمح كلنا لان نساهم فيه ونصنع لبنة ربما ستكون متميزة وذات تأثير وأهمية.

 لقد كتبت كثيراً من المسرحيات الموجهة للطفل منها:

1. الفرحة الكبرى

2. بيت للجميع

3. الاصدقاء الطيبون

4. أصدقاء الشمس.

 لنقف قليلا عند مسرحية (أصدقاء الشمس)التي مثلت مرات عديدة وفكرة المسرحية تقوم على عملية سرقة الشمس من الغابة من قبل مجموعة من الاشرار وتقوم مجموعة الخير باستعادة الشمس من هؤلاء الاشرار ويبدأ احتفال الفرح بعودة الشمس.

 بعد هذا أقول الكتابة بدءاً لا تكون إلا من خلال المؤلف، إذ هو الذي يحدد أصلا ما يعمل، حيث تختمر الافكار في ذهنه وتتصارع أنواعاً وأشكالا، فهناك شيء في نفسه يدعوه ويحثه ويوجه طلبات متتالية إلى عمق ذاته، يحس المؤلف انه مُقدم على إنجاز شيء، يلتفت يميناً وشمالا، إنه محاط ومحاصر برغبة ملحة في كتابة مسرحية للاطفال أية مسرحية، أبطال وشخوص كثيرون يمرون أمامه، ذهنه ممتلئ بهم، أفكار مختلفة ومسرحيات متنوعة تتأرجح الرغبة، ترى أي نوع من المسرحية يكتب ؟، هل انه يفكر في كتابة مسرحية لاطفالٍ دون سن التاسعة ؟ ، حيوانات صغيرة مألوفة، حوار بسيط، فكرة موجزة ، وقت قليل أهذهِ هي صفات المسرح لهذا العمر؟،أم أنها مسرحية لاطفال فوق التاسعة ولها أيضاً مواصفاتها الخاصة ، حيث كل شيء يتعقد وينمو؟ أم أنها لاطفال تجاوزوا الثالثة عشر حيث تدخل المغامرات والاساطير والابطال المتفوقون، وعلى خط آخر من نفس المسألة، يفكر الكاتب بالاشخاص الذين يمثلون المسرحية أهم أشخاص؟ أم حيوانات؟ أم أنهم دمى؟ والدمى على أنواع أشهرها القفازية وتلك التي تتحرك بواسطة الخيوط أو بصورة سطحية ذات بعد واحد مسطح، ولكل نوع من هذه الانواع طريقة في الكتابة طريقة في الحوار طريقة في الحركة والاخراج والمؤثرات وللديكور النصيب الاكبر والاكثر تعقيداً في هذه المعاناة.

 لقد حددت في ذهني الان أي نوع من المسرحية أكتب، فقد وضعت نصب عيني احتياجات مسرحيتي التي أرغب في كتابتها وبدأت الافكار تتصارع مختمرة في ذهني أمسكت لقلم برغبة شديدة، لكنني ما زلت متردداً وخائفاً، ففكرة المسرحية تتكامل في مخيلتي لكن أشخاصها لم يستوضحوا لي كلياً، أبعاداً وأعماراً وأنواعاً، هناك خطان من الشخوص متباعدان لا ثالث لهما، شخوص خيرة وشخوص شريرة بغض النظر عن نوعية وماهية تلك الشخوص إنني الان أواجه أزمة اختيار، أي شخص أختار، (شخوص الخير ) كثيرون : حمامة، بطة، عصفور، دجاجة، غزال، فراشة وربما بقرة أو حصان أو خروف و(شخوص الشر) أيضاً كثيرون، لنقل افتراضاً: ثعلب، غراب، قنفذ، ذئب، ابن آوى، لكنني أفاجأ أيضاً بقائمة من الشخوص غير منتمية للخير أو الشر تحديداً، فالاسد ربما يكون خيِّراً أو شريراً وكذلك الكلب والحمار والقطة وربما الفأرة لا نستغرب من ذلك أنا شخصياً أكره القطة فهي شريرة في نظري وربما أنت تحب القطة وتعتبرها من أفضل المخلوقات جمالا، فإذا اختلفنا في وجهة النظر وكنت أنا الكاتب وأنت المشاهد كان عملي المسرحي رديئاً بنظرك حتى لو امتلك أعلى مداخل الابداع والخيال والتصور.

 هنا اختلاف الرأي أفسد في الود قضية، فلو كان نقيضي هذا ممثلا لعملي خرج دوره الذي يمثله باهتاً وضعيفاً وتهامس المشاهدون فيما بينهم: إن حبكة المسرحية ضعيفة ، لا تنسوا تراخي الممثل وعدم تعاطفه مع ما يمثل من دور، وأمسكوا بـ(قميص) المؤلف المسكين وصبوا عليه سيل انتقاداتهم… فلو تركنا هذا وذاك وتعاملنا مع بعض الحيوانات ذات اللون المميز، الغراب مثلا فإن جعلناه سيئاً وأن الله عاقبه وجعل لونه أسود فإن المؤلف سيتخذ له مكاناً متميزاً في مجلس التمييز العنصري وحرمت عليه زيارة أفريقيا تحريماً نهائياً وربما نسوا أو تناسوا أن المؤلف أيضاً ربما يشارك الغراب لونه والله أعلم.

 لهذا فأنا أحياناً أشعر بحرج باعتباري مؤلفاً وأنا أقف أمام الحمامة البيضاء وأمام الذئب الرمادي والثعلب الاشقر وأمام طير السند وهند (السنونو) بلونيه الابيض والاسود ومع كل هذه الاحراجات تجاوزت هذه العقبة مجبراً ليس إلا ، وأنا الان أقف أمام مجلس الحيوانات مذهولا كلها تناديني وفي وقت واحد كلها تهتف باسمي كلها تقول:

-       أنا أنا أنا.

 و(أنا) المؤلف الحائر المسكين أقف مذهولا بينهم ترى ما الفرق بين الدجاجة والديك والحمامة والبلبل والعصفور والسنونو والهدهد في الطبيعة الحيوانية وفي مجال الخط المسرحي والحركة التوليفية، حيث يصاب رأسي بالصداع من كثرة التساؤلات، ما الفرق بينهم جميعاً ؟ كلهم طيبون ويحبون الاطفال ولو انتقلنا من فضائية إلى فضائية اخرى بحثاً عن المنوعات الاجنبية، كان التساؤل نفسه موجوداً، ما الفرق بين الذئب والثعلب والضبع والنمر ؟ ، كلها تمتلك خبثاً وشراسة وتبيِّت الاذية للاخرين.

 الحقيقة في كثير من الاحيان تكون مرة وأمرّ من الحنظل كما يقول المثل ، فهذه الحيوانات كلها مكروهة ولكن لا يوجد دور مفصل تفصيلا على حيوان من هذه حيوانات ومن المتفق عليه تاريخياً على أن الثعلب ماكر ولكن صدقوني إن للذئب مكراً وكذلك للضبع وللنمر، ربما أشد من الثعلب… إذاً نحن كمؤلفين نساهم في تشويش الصورة لاطفالنا عن مملكة الحيوانات.

 الان توقف قلمي عن الكتابة، أحد أصدقائي الذي يزورني دائماً ويساهم في إضاعة وقتي معه قال لي وهذه حسنة يسديها لي لاول مرة :

- إن بعض الحيوانات تحتج وهي واقفة بباب غرفتي وهي تتوعدني ولسان حالها يقول اخرج إلينا أيها المؤلف وإلا ندخل إليك.

 الشجاعة نتركها جانباً، أقسم بالله لقد خفت وارتجفت، فأزحت الستارة عن الشباك يا للهول، وحيد القرن وعجل البحر والحوت الازرق وسمكة القرش كلهم يتساءلون معترضين:

- لماذا لا تتخذ منا أبطالا لبعض مسرحياتك؟ إننا نشكو البطالة الدائمة، في حين أن الثعلب والدجاجة والارنب يمتلكون عقود عمل تمتد لعشرات السنين.

 أنا بدوري تساءلت مع نفسي:

-       لماذا ؟ لماذا ؟

 وكان الجواب الذي توصلت إليه تبريراً، هو أن خشبة المسرح لا تحتمل ثقل هذه الحيوانات… ومع هذا فقد هربت من الباب الخلفي وأنا أحمل في حقيبتي ألـ(لماذا) في كيس ملون، وأصوات الاعتراض تطاردني من مكان إلى آخر…وقتها نسيت كل شيء حتى البدء بكتابة مسرحية جديدة.

 هذا غيض من فيض من المعاناة التي أتعرض لها من الشخوص وهناك أيضاً معاناة أكثر ثقلا ووطأة وهي: المفردات والجمل والعبارات التي استعملها، ويزداد عندي التحمل والصبر من أجل أن اكتب مسرحية للطفل تدخل الفرحة والبهجة في نفسه وتقدم له أكثر من معلومة تفيده وتطوره وتجعله أكثر رصانةً أمام مجمل التحديات، لان هذا الفن الذي نساهم جميعاً فيه من أكثر الفنون اقتراباً من ملكات الاطفال وأذواقهم وأكثر قدرة على تنمية وصقل المواهب والابداعات.

 هذه معاناتي أنقلها إليكم عسى ان تكونوا أكثر قرباً مني وأنتم تشاهدون أو تقرؤون إحدى مسرحياتي التي أحبها الاطفال وصفقوا لها كثيراً في أكثر من عرض.