حَلَزونات نقدية
حسين حسن السقاف
في مساءٍ جميل جمع بين ألق المكان وروعة الزمان والأوان، رتّب مشكوراً اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بحضرموت أمسية لأتحدث فيها عن باكورة أعمالي الروائية ,كانت هذه الفعالية باستضافة رئيس دار الكتاب الذي أقام معرضاً للكتاب في مدينة المكلا الجميلة، حُدِدَت الساحة الشرقية لقصر السلطان القعيطي الأثري، موقعاًً لعُقد أمسيتنا التي كانت في الهواء الطلق، حيث كانت القمر- بكامل نضوجها وحسنها وبهاءها- تطل علينا بين الفينة والأخرى من وشاحها الخفيف، وتبدو حيناً ومن حولها وصيفاتها. قي حين تهب علينا نسمات البحر الندية واللطيفة من جهة الجنوب، وتتراء لنا من الجهة المناظرة قمة الجبل وعليها القلاع المتوهجة بضوئها، رُصَّت في الصف الأول الكراسي البيضاء لتبدو كأسنان لبنية جميلة، افترشت هذه المقاعد أديماً اخضراً نبت من تلك الأمطار الربيعية الكثيفة التي انبتت السهول والآكام.
حضرنا قبل الموعد بربع ساعة تعرفت خلالها على بعض الكتاب والنقاد الذين أهديت أحدهم روايتي الثانية ..كان حديث غالبية الحاضرين -عن روايتي الأولى- ايجابياً مما شجعني على التحدث في هذه الأمسية.
غير أنني لم أطل في حديثي لهم، قلت لهم: بأنني قد أتيت مستفيداً ولم أت مفيداً...وكان حسبي في ذلك أن أكثر من ثلاثة أرباع من كان موجوداً قد قرأ روايتي.
فُتح البابُ لمداخلات وملاحظات الأدباء والنقاد والمثقفين ليقولوا كلمتهم في روايتي ، كان حديثهم مهذباً يليق بمجلس يحوي هذه النخبة من المتأدبين. لقد استفدت من ملاحظاتهم وسررت بتحليهم بهذه الروح العالية. غير أنه قام أحدهم وهو الذي أعطيته روايتي الثانية والتي مازال ممسكا بها، بدا هذا طويل القامة واليدين التي كان يلوح بهما يمنة ويسرة في شيء من الانفعال النسبي، حتى بدتا هاتان اليدان كمجدافي قارب فزع إلى الساحل من عاصفة ممطرة. وبدتا حيناً آخر كتوأمِ ماسح زجاج السيارة، وكان لم يزل ممسكاً بروايتي التي أهديته. حتى ظننت بأنه سيقذفني بها، وكان قد تهيأ واستل مسطرته ومقاييسه ليقيس أو ليحدد ملائمة روايتي بعدته النقدية التي تحمل نظريات ومذاهب نقدية غربية وشرقية، كان يرشقني بوابل من نظرياته، و يكثر من تلك الأسماء السلافية والبلغارية والفرنسية التي تأتي على وزن كلاشنكوف و وسكي وغيرها من الأسماء التي أجد نفسي بخيلاً عليها بصرف (كيلو بايت) واحد من ذاكرتي لمعرفتها، كان الناقد يتحذلق في لفظها، وكانت كثيراً ما تخرج من فيه هذه الأسماء حتى خلتُ بأن فمه في حالة أنزال مظلي لجنود يحملون تلك الأسماء.
بعد ان فرغ من نقده - الذي لا يخلوا من ملاحظات ايجابية سبقه بها من قام قبله - عزم على الجلوس على مقعده، غير أنه عاد ثانية ليقف كمن أستذكر شيئاً، عاد لينتقد روايتي الثانية التي أهديتها له قبل دقائق..لعله كان يتقالها حتى وصفها بنها ليست رواية وذكر أن لها أسم اسباني أخر -لا يحضرني-.
قال لي أكثر من واحد ممن حضروا: لقد أتحفتنا بصبرك وتحملك ذلك الناقد أكثر مما أتحفتنا بروايتك وأُمسيتك. كيف لا؟ عليَّ أن التَمس له سبعين عذراً: لعله ممن ينتقد لغرض النقد أو لعله لا يعرف إلا تلك الحلزونات النقدية ليُطبِِّق المثل القائل (فتَّح وشاف الديك) ولعل تلك النظريات تُمثِل نظَّارته التي ينظر من خلالها إلى كل ما يقرءا، أم لعله لم يقرءا من الروايات ما يكفي لصقل وتهذيب ذائقته الأدبية والنقدية، إن ثمة ذائقة سمحت بها نظَّارته، كان ينتقد صغر حجمها وقلة ورقها و خماصةِ بطنها وكأنه في سوق المواشي، رغم أن روايتي موضوع نقده الخارجة عن موضوع الأمسية - بحسب ميزانه - اسمن من كثير من الروايات التي أسوق هنا فقط ما قرأته منها في مقتبل شبابي. بل أن بعضها لكُتاب (نوبليين) مثل رواية (عرس الزين) للطيب صالح ورواية ثلوج كلمنجارو للأمريكي (أرنست همنغواي) رواية (وداعاً مستر تشيبس) للانجليزي (جيمس هيلتون) والتي ترجمت إلى 27 للغة وصُوِّرت سينمائياً وكذا رواية (قطار في الجليد) لليوغسلافي (ماتو لوفاك) ورواية (عودة الورد الأسباني) (لفرنر برجن جرون).وغيرها من الروايات التي لم يطَّلع هذا الناقد على شيء منها.
أقول كل ذلك ليس دفاعا عن روايتي التي وصفها الدكتور عبد العزيز المقالح بما لم يصف به رواية أخرى على الإطلاق، لا أحسب النجاح في ذلك لي بل لمن أسترشد بملاحظاتهم أيضاً، و ما يؤكد نجاح الرواية هو نفاذ الطبعة الأولى من المكاتب في شهرها الأول، مما أحرجني أمام الأصدقاء الذين لم أستطع أن أوفر لهم نسخا منها الأمر الذي دفعني إلى طباعتها بكميات كبيرة. لقد سمعتُ عنها كلاماً كثيرا يناقض ما قاله ذالك الناقد لقد سمعت ما قرَّت به عيني من هؤلاء الذين أعرف بعضهم ولا أعرف أكثرهم .
كثيراً ما يُسمعُني شابٌ بأنه قد قرأت روايتي من الغلاف إلى الغلاف في جلسة واحدة، واسمع ذلك من البقال والمقوِّت والاسكافي والطالب ليقولوا لي :بأنهم باتوا ليلةٍ ما مسهَّدين بسبب روايتي التي يتهموها بسرقة نومهم ..وما زال بريدي الالكتروني يعج بتلك الرسائل التي تُثني عليها.
تعرفت صدفة على أحد الأساتذة الجامعيين وفرح بي كثيراً وقال: إننا في تعز نتداول روايتك حتى أنها فقدت جناحيها لتصير متنا بلا حواشي ..تصور لقد بلغ الأمر ببعض الشباب إن قاموا بإعادة طباعتها ليقسِّموها إلى حلقات في أحد المنتديات الفلسطينية..
انشغل الناسُ في العاصمة صنعاء بالحديث عن تلك العملية الإرهابية التي استهدفت أحد الدبلوماسيين صباح ذلك اليوم الذي - عند حلول مساءه - استقلّيتُ سيارة للأجرة في شارع القيادة في هذه المدينة الجميلة، وعلى خلفية هذه الحادثة كان السائق يحدثني بأن والده في حجَّة أخبره بأنه قرأ قصة جرت لأحد أطفال حجَّة، وطفق يسرد أحداث روايتي (قصة إرهابي)...
إزاء كل ما تقدم فإنه يحضرني الجدل القديم الحديث في الآن نفسه آلا وهو: هل الفن من أجل ذاته أم أنه من أجل الناس؟. وتجدني متشبثاً في ذلك بأن جميع أجناس الأدب وفنونه قد صنفت ضمن العلوم الإنسانية وان لم تكن هذه الآداب من أجل الناس فعلينا أن نصنفها تصنيفاً مغايراً. نصنفها مثلا بالعلوم النقدية.
إذا كان لكل مهنة آدابها وأخلاقياتها التي يجب أن يتَّبعها ويتخلق بها منتسبوها فإن الناقد هو الأولى باحترام مهنته، ولعل إهدائي الرواية لهذا الناقد يذكرني بما أورده جدي ابن عُبيد الله في كتابه (إدام القوت) وهو أن أحد شيوخ القبائل الحضرمية في قرية (جِفل) قد منحه السلطان مهرة عربية جميلة، فعند ما انشق هذا القبيلي وقرر محاربة السلطان، أول ما صنعه هو إعادة المهرة إلى السلطان، حتى لا يحاربه بمهرته. قارن ابن عبيد اللاه ذلك القبيلي بالشريف حسين حينما أكرمته الدولة العثمانية ليرد جميلها بتسليم النساء التركيات -المسلمات اللاتي فزِعنَ إلى التشبث بستائر الكعبة ليقدمهن الشريف سبايا للانجليز... كان أولى بذلك الناقد أن ينتقد الرواية موضوع الجلسة لا أن يتجاوزها إلى الرواية التي أهديته، ليكون في ذلك مثل القبيلي صاحب قرية جفل.
للأدب جمالياته الفائقة الآلق والعدد التي يستنبطها أولو الذائقة الجمالية وهي أوسع من أن تُختزل في قوالب أو (فورمات) حلزونية صنعها أو قالها فلانٌ من الناس وهو -أي الأدب- نتاج تراثي تراكمي تصنعه الأجيال المتعاقبة ولا يمكن عزل ماضيه عن حاضره ولا يمكن لهذه النظريات الضيقة الأفق أن تحتويه. بل على الناقد أن يسعى إلى تطويره لا وأده..و الرواية من أرقى الأجناس الأدبية قاطبة لتصبح اليوم ديوان الشعوب في كل مكان، بل وأصبحت ديوان العرب حتى ان المفكر(دافيد هربرت لورنس) كان يقول مقولته الشهيرة (إني أعتبر نفسي، لكوني روائياً، أرفع شأناً من القديس ، والمعلم، والفيلسوف، والشاعر. فالرواية هي كتاب الحياة الوحيد الوضاء...) لعل الناقد المسكين استبدل نونه بحاٍ ليرى بأن حضرموت أو الساحة اليمنية لا يتسع مشهدها الروائي لروائي جديد، لذلك فأنه لا يسعني إلا نصحه بالخروج من قوقعته ليعيش في فضاءات أكثر رحابة، وليعيش بقلب ينبض بدماء دافئة لا دماء باردة تضطره المبايت الشتوية.
هناك الكثير من النظريات التي سادت ليس لجدارتها بل لملائمتها (لأيديولوجيات) ومصالح استعمارية ثم بادت هذه النظريات لكونها جسم غريب مفروض على الواقع، ولعلي أذكر نظرية النشوء والارتقاء (لتشارلز دارون) التي بنيت عليها العديد من النظريات في نواحٍ مختلفة من الحياة . ولعل نظرية الاشتراكية العلمية ليست ببعيد عن ذلك.. وبهذا الصدد فأن الناقد الأمريكي (ستيفن مورفي) أللَّف مؤخراً كتابا موسوعياً عظيم الحجم كان نتاجاً لأكثر من عقد من الزمن قضاه في الجمع والتحليل للروايات التي أحضها من أفجاج عميقة من العالم ، وقف في كتابه بشكل عملي على التاريخ الحقيقي للرواية، ليقلب به المفاهيم عن تاريخ الرواية، وليصنع بذلك ثورة عظيمة في عالم النقد، بيَّن فيه (ستفن) للنقاد أن الروايات الرائدة ليست كما ضلله مدرسوه في الجامعة بأنها الرواية الأسبانية (دون كيشوت) لميجيل سرفانتس في القرن 17 ولا الرواية الانجليزية (روبنسون كروزو) لدانيال ديفو وأن الروايات الأقدم تعود إلى ما قبل ذلك بكثير وذكر ان من الروايات الأوائل رواية (سنوحي ) المصرية و(ألف ليلة وليلة) و(حي ابن يقظان) لابن الطفيل فما كان من النقاد إلا أن اجمعوا على أن عمله كان تطبيقيا وموسوعياً.
لا يسعني إلاَّ القول : (أصلحني وأصلحه الله) فقد كان كلانا متطرفاً، كان متطرفاً في حمله على روايتي دون مبرر، و كنتُ أنا وما زلت متطرفاً في حبي للكتابة ولشخوص رواياتي وقصصي رغم عدم مبارحة سياط الكتابة جسدي هذه السياط التي استعذب عذاباتها المبرحة. لقد وصل بي الأمر إلى أن يهجرني النوم غيرةً منها.. ماذا أصنع لقد تملكني حُبها..لا أخفيك أنني أتوق إلى شخوص روياتي كما أتوق إلى أفراد أسرتي..لذلك تجدني أعود إلى البيت باكراً.. و إذا ما طُفيت الكهرباء في حينا ألتمس النورَ في حيٍ أخر، ليس هرباً من الحر والظلام، ولكن لمواصلة السمر - الهزيعي- مع رفاقي الذين يعيشون بين اسطر قصصي ورواياتي..إنها شهوة الكتابة إنها جنون الكتابة وسطوتها ..وقديما قيل: ومن الحب ما قتل.