خليفة بن عربي: ينشد لنمير السوسنات

د. عبد الستار الراوي

د. عبد الستار الراوي

الشعر بوصفه طاقة إبداعية يرجع إلى سببين رئيسين: سبب طبيعي، يرى أن الشعر غريزة في الإنسان منذ الطفولة كما أنه أكثر استعدادا للمحاكاة عن باقي الحيوانات. وسبب ثان، وهو ما سماه  أرسطو بلذة التعلم، وهو امتياز يتقاسمه سائر الناس.

وثمة مصادر عديدة أشار إلى بعضها المعلم الاغريقي في كتاب الشعر، تعد الأساس المشترك بين الموهبة الشعرية والثقافة الذاتية، وأهمها ؛   المقدرة علي تكوين آراء عظيمة،  الانفعال المتوقد الملهم الذي يسحرك قوله،  بلاغة  القول ، وسر الجذب،   الصنعة الفنية؛  اللغة الجزيلة ؛ اختيار الكلمات المؤثرة . دقة الالفاظ ، وثراء الدلالة . الخاتمة المناسبة .

فالقدرة  الشعرية الإبداعية ؛ تستطيع أن تهز القارئ عقلا ووجدانا، وتحفزه على رؤية  الاشكال الجمالية ، في السؤال الذي تثيره ، في ظل لون وظلال الكلمة وعوالمها الموحية،  هذه هي الصورة الفنية التي ألفناها في ديوان نمير السوسنات ـ فالشاعر الاكاديمي  خليفة بن عربي في ديوانه البكر، لم يتوقف عند الشكل الخارجي للجملة الشعرية، من حيث ؛  جزالة الاسلوب، الصنعة المتقنة ، دلالة المعاني ، الوقع الموسيقي المؤثر، بل تعداها إلى تشكيل موحياتها الإدراكية ، مما يتوق إليه العقل ، ويسعد به القلب .

 (1)

في تأملاته الهامسة، كما في مواجيده الدافقة، يتسامى قريضه المبدع، جدلا صاعدا نحو (عين اليقين)،  وبلغة الإيمان المبجل ، ينشد العربي إبتهالات الروح المفعمة بالقرب وبالنجوى حنينا إلى أيام القلب الاولى، يرتشف من نبع الصلاة هدى،.. حاملا فؤاده المعنّى بين السماء والارض .

  وفي زحمات النور، وفيوضات الحب، يوقد الشاعر قنديل الفؤاد ، يطوي الارض، صوب ضفة المحبوب الولهان ، الغارق في بحر النأي الموجع .. يجتاز شاعرنا قارعة الاسفار..  والسحب البيض وغابات الوجد .

اسيرا في لجة الدمع هاتفا ،

يارحمة الله مري فوق ناصيتي

وقبلي الروح كي اشفى بتقبيلي

هاقد أتينا وسيل الحب يغمرنا

والثوب يهمي من النجوى كسجيل

إليك ربي قد اشتاقت رواحلنا

للذكر للوحي من أنفاس جبريل

فاغفر لنا الله ذنبا قد ألم بنا

واصفح فصفحك أشواقي واكليلي

(2)

  من بهاء البيت العتيق ،  إلى سرة الكون،  يحفر اين عربي في ذاكرة الكون جنون الورد ونشيج الشجر، ورحيق الاشواق ورائحة الحب الاول، تنتظم موجودات الكون ، النجم والبحر والشجر والإنسان، ينشدون مع شاعرنا (فيض الميلاد)،  يجتاز خليفة في قصيدته التيه ، الليل، ويلوذ بغابات السوسن ، وأمام المقام النبوي الشريف ، يذوب مهابة ووجدا،  وهو يرفع إبتهالاته في ذكرى الميلاد الاعظم ؛ وهي جوهرة الديوان الاولى؛ 

محمد ؛ يعلو من جبينه نور هدي ،

ويهوي الشرك منثور الرفات  ،

محمد نذكر الميلاد فيضا وطهرا

من معان صافنات

حروف الشعر في عينيك تاهت

لتقصر عن مديحك مفرداتي

(3)

يستذكر شاعرنا  نمير السوسنات رحلة أبيه الكبرى، من  المبتدأ إلى الخبر، ومن دنيا الناسوت  إلى بهاء الملكوت، 

هوذا وجه ابيه المتألق في الضفة الاخرى ، يغمره البشر وجمال الصبر ، كان ظل ابيه مئذنة سامقة في بستان البيت ، يستذكر العربي تقويم  الايام في دار التعب؛

فجر القرآن

الجذر الراسخ في نور الايمان

رفيف الروح

العبق المتناثر من سورة يوسف

فاتحة الفجر

صرير الباب

دفء الدار الاولى

كيف تهاوى فوق السجادة .. مطرا وندى؛

ترنيمة

تبتهل الروح ، و ترقى .. تسمو .. تتصل

يغمرها نور الله الابدي

ومن السوسن

ينبجس الماء الدافق عينا من عسل ولبن أنهارا

تنحدر الظلمة .. تنحل بددا

ويفر الديجور

ويحل في قلب الصب أمل ، بوح ، وهدى ..

(4)

الحب أوله ومض،

ينبثق  قبل أن يرتد الطرف ، تعقبه زلزلة الارض 

في نشيده (نمير السوسنات) يجيئ إلينا على بساط الهوى السحري يشق عتمات الليل ويعلق على أبواب مدينتنا  نجمة  الحب الجميل ، ليواصل السفر ضاربا في البقاع ، دون راحلة وزاد ، باحثا عن مملكة الندى ، بعد أن غاضت السواقي ، وجفت العيون ،

هوذا يستعيد راحلة الصبا ونجمة الطفولة الراقدة في القلب ، ليقيم أمام البحر فريضة الحب في ميقاتها المجهول

في قصيدة عيناك (عيناها حلم ونور ووهج ووقد ) .. تلك العينين التي أودع فيها الشاعر المكان والزمان والقريض وأحزان الشتاء .

عيناك .. عيناها

عيناها في سفر الشعر وقريض العشق

بحر بلا شاطئ

حلم من حرير الشام

نور يسري في الازمان

وهج في الكون

وقد في  القلب

تلك العينين الساحرتين لاغيرهما  ، أودع فيهما الشاعر أيامه السالفات ، زوايا المكان الغافي على صفحات الطفولة .

ويبقى الحنين يشد القلب المعنى  إيلاما .. شجنا

آه من مكابدات  الحب الاول،  لن يبلى أو يزول،

                

 (*) ديوان نمير السوسنات . للشاعر خليفة بن عربي . دمشق 2009