بلاغة الإمتاع في قصائد محمد حلمي الريشة

مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة

[email protected]

أحمد الدمناتي *

في قصيدته التي تخرج من غيمة القلب مبتلة برعشة الذاكرة المسافرة إلى أقصى عزلة في المخيلة ما يجعلك تنصت لهدير النهر الشعري العميق الذي يمر بين الكلمات والحروف، وكأنك تنصت لمعزوفة" بحيرة البجع" لتشايكوفسكي، إنصاتًا محكومًا بطقوس الدخول في عالمه الجمالي والإبداعي.

لقصيدة محمد حلمي الريشة بابان؛ باب الشهوة، وباب الدهشة. في باب الشهوة تتساقط اللغة كدالية العنب بهدوء، متمسكة بخطيئة  المعنى في حفر أنفاقه المغايرة لبناء الصورة والمتخيل والرؤية. الشهوة شهية مفتوحة حين تشهد على شعرية قصيدة حلوة وعذبة كتفاحة طرية يقضمها المتلقي بمحبة نادرة. في باب الدهشة قصيدة تفتح المجال لاسترجاعات واستحضارات تستيقظ فجأة من عمق المخيلة لتساهم في تخصيب اللغة الشعرية.

مفتونًا بمملكة شعرية باذخة، متألقة، ممتدة في القلب كما في النص، لها المحبة الصامتة حين تغادر يُتم الرغبة في اتجاه فلوات الغبطة المسكونة بدم المعنى.

 استئناف لرحلة ملغومة لها المغامرة في الكتابة، والتزود بوجع العزلة كلما أطلت حرارة القصيدة في فتوحاتها الأنيقة على هدوء مخيلته، أو زوبعة إبداعية تنبت في ركن قصي من منفى سحيق لها الدُّربة، والخبرة، والمراس، والاحتراف، والاختراق، والاحتراق في غابة شعرية أسسها بصبر، وصمت، وتضحية، ومعاناة، ووجع، ليجعل من الكتابة هدية حقيقية للكائن البشري يُنتجه الكائن الشعري هِبة لكينونة الإنسان والكون والحياة.

سيرة الهواء والهباء والبهاء يؤسسها من خلال لغته التي تحس في أرخبيلاتها الملغزة برجفة مشرعة على سعة الذاكرة، وحنين الطفل الذي يعيش في أعماق الشاعر. أصابعه تحترق كلما راود البياض عن فتنته وخلوته. موعد مؤجل لسيرة الكتابة يَهَبُ للروح ما تبقى من ألفة مفتقدة.

في شعره طوفان من الخيالات مزروع في جسد اللغة. يعرف مكامن الحرب مع النص، وعنفوان الدهشة مع وحشة البياض. يكتب بوجع، وانكسار، وافتتان ، كأنه يسترق طفولة الظل من رحم شجرة اللوز، أو يؤثث جنونه بانهيار عميق في أرخبيلات المعنى، وبانبهار أنيق في فلوات الروح. يراهن على الحرية والإبداع والحياة من خلال الكتابة، لأنه بها يعيش في الوجود، يتنفسها، يصاحبها، يؤانسها ببلاغة الإمتاع إذا ضاقت رؤية القلب الآهلة بفصاحة الغبطة والمتعة.

تجربة الكتابة الشعرية عنده تنبع من الذات والمعاناة، وتنطلق من صداقة الكائنات لبلورة ثقافة تعي قيمة كينونة الإنسان. قصيدته باستمرار تحارب بشكل جميل فظاعة العالم. طقوسه في الكتابة متوترة جدًّا، لا هو يركض وراءها ليغازلها أو يعاكسها، أو يراودها عن فتنتها في حديقة عمومية، ولا يحب الانتظار لأنه يزرع الملل في القلب والنص. يلتقيان معًا على حافة الخطر بدون استئذان لتبدأ لعبة الخفاء والتجلي بعنف الهدم والبناء بقوة. حرب فيها الحب يربح رهان انحيازه للغة محمد حلمي الريشة.

تقوم قصيدته على ثلاث أسس أساسية في بناء معمارها الفني: ما هو حسي وعقلي ورمزي، لقدرته ومهارته الطويلة في الغوص في خلجان العمل الشعري المسكون بكنوزه وغرائبه وألغازه.

بجرأة العارف العرّاف في اقتحام متاريس الكلمة العصية على الاستسلام، تجد في شعره سلالات من كائنات واقعية، ومتخيلة، وخرافية، وأسطورية أحيانًا. هكذا هو الصانع العميق الذي يجمع في مهنة واحدة جميع المهن، فمعاشرة القصيدة أعذب المهن حين تهين كبرياء القلب، وتحمل حقيبة سفرها في اتجاه المجهول بدون استئذان، ولا حتى ورقة صغيرة ينام فيها العنوان بهدوء تمنحها لك لتدير ظهرها للريح، والهباء، والخواء، والفراغ. نحن أيتام حقيقيين بدون القصيدة، واليُتم يقاس أيضًا بأمومة اللغة، حنانها باذخ، ومكرها لاذع. احزمْ حقائب عزلتك وسافِر إلى داخلك، فالداخل جنة آهلة بالذكريات المفتقدة. الحنان والمكر سيتعاركان هذا المساء قرب باب المخيلة بتوقيت الحيلة، فاصنع نافذة للقصيدة من كوة الضوء لتتمتع بهواء المتخيل الذي يستلزم الحنكة والدربة في اختيار المواد الأولية لتأسيس مسكن باللغة وعبرها.

عنفوان قصيدته اليقظة باستمرار تهاجر مسكونة بالرغبة والشهوة إلى ضفاف قصية يتعب الجسد كما القلب في اقتفاء آثارها. ضجر يعتري الذات الشاعرة من ملل الانتظار، وزرقاء اليمامة النائمة في جُب الخرافة والأسطورة لن تساعد الشاعر محمد حلمي الريشة في العثور على سره المحجوب.

القصيدة سيرة السر في الكشف عن أسراره. لها اليد الطويلة في تأجيل موعد الالتقاء حسب رغبتها ومزاجها. تمتحن قدرة الشاعر حتى يستنفذ صبره، لتهجم عليه بكامل أناقتها وهو طريح سرير اللغة إمّا مجنونًا، أو مسحورًا، أو مندهشًا، أو مصدومًا. اللغة سرير لأنها تحفظ سِر المخيلة، وتجعل المعنى يرتاح في مكان آمن بعد طول سَفَرٍ.

                

* شاعر وناقد من المغرب.