قراءة نصر حامد أبو زيد للنص القرآني

قراءة نصر حامد أبو زيد للنص القرآني

ذ. امحمد رحماني

[email protected]

ومصطلح التاريخية كما يعرفه  آلان نوربن هي المقدرة التي يتمتع بها كل مجتمع في إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي الخاص به ووسطه التاريخي الخاص به أيضا ..وما سوف أدعوه بالتاريخية هو إذن الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الأنظمة الاجتماعية التي تمتلك إمكانية الحركة والفعل على أنفسها بالذات بواسطة مجموعة من التوجيهات الثقافية والاجتماعية(1).

هذه الرؤية الثقافية للنص هي نفسها التي دعا إلى إعمالها أبو زيد في التعامل مع النصوص الثقافية عامة فكل النصوص تستمد مرجعيتها من الثقافة التي تنتمي إليها(2) فهو لا يفرق بين النص البشري والنص القرآني إذ هما متساويان عنده من حيث قوانين التكون والبناء وإنتاج الدلالة ، فهو كما يقول النص القرآني يستمد مرجعيته من اللغة .. وإذا انتقلنا إلى الثقافة قلنا إن هذا النص منتج ثقافي(3) منتج ثقافي باعتباره محكوما بالقوانين الداخلية البنيوية الدلالية للثقافة التي ينتمي إليها  فـليست النصوص الدينية  نصوصا

مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت في إطارها بأي حال من الأحوال والمصدر الإلهي لتلك النصوص لا يلغي إطلاقا حقيقة كونها نصوصا لغوية بكل ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التاريخي والاجتماعي(4) .

وكون النص خطابا إلهيا من حيث المصدر لا يعني عدم قابليته للتحليل لأنه خطاب لغوي تجسدي في لغة إنسانية وهي اللغة العربية بكل إشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي ، ومن ثم فإن العديد من أحكام القرآن أحكام تاريخية مرتبطة بزمانها المحدد كأحوال المرأة في الميراث ، ولهذا يمكن الاجتهاد بشأنها وشأن ما يماثلها بتغير الأوضاع والأحوال .

وهو في الوقت الذي يرى أن النصوص الدينية مصدرها إلهي إلا أنه يرى أنها بخضوعها لقوانين الثقافة الإنسانية فهي قد تأنسنت من هذه الحيثية فـالنصوص دينيةً كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة والمصدر الإلهي لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد ، إنها محكومة بجدلية الثبات والتغير فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة أيضا بجدلية الإخفاء والكشف(5) وإذا تقرر أن القرآن في محصلته النهائية منتج ثقافي مفارق لمصدره الإلهي فهو يخضع شأنه شأن أي نص ثقافي للمناهج الحديثة في قراءة النصوص كالهرمنيوطيقا والسيموطيقا وغيرها من المناهج ، وذلك لأن النصوص القرآنية دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي يعد جزءا منه يجعل من اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل(6) .

وقد حاول أبو زيد تسويق نظريته التاريخية للنص القرآني من داخل التراث وذلك بالاتكاء على القول بخلق القرآن عند المعتزلة والدعوة إلى بعث هذه الفكرة والإيمان بها ، فهو يرى أن القول بتاريخية النص القرآني فرع للنظر إلى الأفعال الإلهية وفعلها بالعالم المخلوق المحدث ولهذا فالقرآن ظاهرة تاريخية من حيث إنه واحد من تجليات الكلام الإلهي(7) وهذا الصنيع من أبي زيد مغالطة معرفية خطيرة فالمعتزلة قالوا بخلق القرآن مبالغة منهم في تنزيه الله لأنهم يرون أن القول بأن القرآن ليس مخلوقا هو الحكم له بالقدم وهذا يؤدي إلى تعدد القدماء ، فلجئوا إلى القول بخلق القرآن لتنزيه الله وتقديسه ، وفي الوقت نفسه ينسبون القرآن إلى الله على جهة الخلق ونصوصه عندهم لها قدسيتها ، فقولهم بأن القرآن مخلوق ليس مساواة للقرآن بغيره من النصوص كما زعم أبو زيد .

-        أولهما : نزع القداسة عن القرآن الكريم وتحويله من نص ديني مقدس له خصوصيته إلى نص قابل للنقد .

-        ثانيهما : نزع ثبوت الدلالة عن النص نهائيا وتحويله إلى نص متغير الدلالة حسب الظروف التاريخية للقارئ .

والقضية الأساسية التي تتناولها الهومنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام سواء كان هذا النص نصا تاريخيا أم نصا دينيا ، ومن أكابر أصحاب هذه النظرية المفكر الألماني شلير ماخر وويلهلم ديلش ومارتن هيدجر وجادامر الذي يقول عنه أبو زيد [ وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي نقطة بدء أصيلة للنظر في علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب ، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن](8) .

لقد طالب أبو زيد بالتحرر من سلطة النصوص الدينية وأولها القرآن وقال [ قد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا ، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان ](9) .

فمشروع أبو زيد هو وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيرها لجوانب الحياة في المعنى القرآني فيصير القرآن ماركسيا فيغير بذلك المفاهيم الرئيسية للقرآن الكريم ويلغي المعاني الحقيقة للسور والآيات ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن وبينتها السنة ، فيصير القرآن يقول ما يقولونه ويتكلم بما يتكلمون به وينطق بكل المذاهب والفلسفات ، أي أنه ليس له معنى ثابت فمن شاء أن يجعله وجوديا فلا حرج أو ماركسيا فلا مانع أو صهيونيا فلا مشكلة أو علمانيا فلا ضير أو عبثيا فلا بأس ، هذا هو إعجاز القرآن الكريم عند نصر حامد أبو زيد وأمثاله ، فإعجاز القرآن عندهم أن تقرأ فيه مختلف العقائد والشرائع(10) .

وبالتالي نخلص إلى ما يلي من وراء منهج قراءة أبو زيد للنص القرآني :
أولاً : طعونه في القرآن المجيد ، والسنة المطهرة ، ومن ذلك :

-  ادعاؤه أن القرآن المجيد ليس وحيًا من عند الله وإنكاره سابقة وجوده

في اللوح المحفوظ ، وزعمه أنه « منتج » ثقافي بيئي ، أي إنه من إفرازات الثقافة العربية لبيئة الرسول r ، ومن إنتاج المجتمع الذي نشأ فيه الرسول r  فهو من آثار البيئة والمجتمع ، ومن ثم يؤكد في أكثر من موضع أن القرآن صورة صادقة للمجتمع في عهد النبي  r وإنما كان ذلك لأنه مستمد من البيئة ، وصادر عنها ، فلا وحي ولا قداسة. يقول  أبو زيد [إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات ، لكن القـول بأن النص « منتج » ثقافي يمثل بالنسبة إلى القرآن مرحلة التكوين والاكتمال ، وهى مرحلة صار النص بعدها ، « منتجًا » للثقافة .. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها ، وبين إمداده للثقافة وتغييره لها ](11) ويقول  [ إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي ، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عامًا ، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقًا عليها ، فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي للنص ](12) .

وهذا من المؤلف يبين بشكل قاطع أنه يرى أن القرآن ليس وحيًا من عند الله سبحانه وتعالى وإنما هو منتج ثقافي ، ومأخوذ عن ثقافة البيئة العربية التي كان فيها محمد r  وقد قطع بذلك بوضوح شديد في قوله [إن الفارق بين المرحلتين هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها.. فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ، ويعكر من ثم إمكانية

الفهم العلمي للنص ]فهو إذن ليس مستمدًا من عند الله تعالى ، ولا وحيًا نزل به جبريل سبحانه وتعالى !! وإنما وبوضوح شديد : مستمد من الثقافة ومعبر عنها  .
ولأن القرآن مستمد من الثقافة البيئية للنبي r ، فكذلك السنة من باب أولى ، وهو يحدد لنا المدة الزمنية التي استغرقها النص القرآني ، وكذلك نصوص السنة بأنها المدة التي عاشها رسول الله r نبيًا ، وإذا كان قد استعمل في النص السابق لفظتي : منتج ، ومستمد ، فإنه أضاف إليهما لفظة أكثر وضوحًا هي : التشكل ، إذ يقرر أن النص الديني - يقصد القرآن والسنة - قد تشكل خلال فترة تزيد على العشرين عامًا ، ثم يزيد الأمر وضوحًا حين يصف القرآن والسنة بأنهما  نصوص لغوية  وهكذا .. لا وحى ، ولا تقديس ، ولا إعجاز ، ولا تشريع ، مجرد نصوص لغوية كما نصف قطعة شعرية أو نثرية.

-  يقول عن القرآن والسنة : [هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرين عامًا ، وحين نقول : تشكلت ، فإننا نقصد وجودها المتعين في الواقع والثقافة بقطع النظر عن أي وجود سابق لها في العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ ](13)

- ينفى عن القرآن أي وجود سابق له في علم الله سبحانه ، وينفى عنه أي وجود له في  اللوح المحفوظ ، وهذا مردود بقوله  تعالى :) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ  فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ((14).

 - دعوته إلى الخروج على نصوص القرآن والتحرر منها ، ورفض الخضوع لها ، فالهدف الذي يسعى إليه المؤلف إنما هو التحرر من النصوص ومن مُنَزِّل النصوص و التخلص من سلطان الله سبحانه وتعالى والدعوة إلى التمرد على هذه السلطة ، لذا فإن كل من يعظم سلطان الله سبحانه وتعالى على الإنسان والوجود هو عدو لأبي زيد، ومن هنا فقد وقف المؤلف موقف العداء من الإمام الشافعي y لأن الإمام الشافعي في اجتهاداته حول القياس والاستحسان إنما يرد كل قضية لم يرد فيها نص إلى ما يماثلها مما ورد فيه نص ، ويرجع بالأحكام إلى النص من كتاب أو سنة ، وهذا - في رأى أبي زيد - يُمَكِّنُ من سلطان الله على الإنسان ، وهو ما يبغضه  ، ويصور خضوع العبد لله بأنه خضوع العبد للسيد ، وهذا ما لا يرضاه ،يقول أبو زيد [إن هذا الموقف - يقصد موقف الشافعي من القياس والاستحسان - يعكس رؤيته للعالم والإنسان ، وهى رؤية تجعل الإنسان مغلولاً دائمًا بمجموعة من الثوابت التي إذا فارقها حكم على نفسـه بالخروج من الإنسـانية ، وليست هـذه الرؤية للإنسان والعالم معزولة تمامًا عن مفهوم  الحاكمية في الخطاب الديني السلفي المعاصر حيث ينظر لعلاقة الله بالإنسان والعالم من منظور علاقة السيد بالعبد الذي لا يتوقع منه سوى الإذعان ](15) فأبو زيد يرفض مرجعية الوحي الأعلى ، ويرفض الإذعان لحكم الله ، ويرفض أن يُنظر إليه على أنه  عبد  لله ، وأن الله تعالى سيد  له كما يرفض بإصرار شديد أن يعيش  مغلولاً بمجموعة من الثوابت  أو بمعنى آخر ، يرفض أن يعيش خاضعًا لأوامر الله ونواهيه ، وما استقر في دين الله سبحانه وتعالى من فرائض وواجبات

وحلال وحرام ، مما يسميه أبو زيد مجموعة من الثوابت  ثم يدعو إلى التحرر منها وعدم الخضوع لها .

ثانيًا : ادعاؤه عدم صلاحية الشرع الشريف – كتابًا وسنة – لوضع الحلول لكل القضايا والمشكلات التي تعرض للمسلمين حالاً ومستقبلاً ، ودعوته إلى طرح الكتاب والسنة وتجاهلهما حين البحث عن حلول لمشاكلنا :
يقول [ويبدأ الشافعي بتقرير مبدأ على درجة عالية من الخطورة فحواه : أن الكتاب - القرآن الكريم - يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات والنوازل التي وقعت أو يمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل على السواء .. وتكمن خطورة هذا المبدأ في أنه المبدأ الذي ساد تاريخنا العقلي والفكري ، وما زال يتردد حتى الآن في الخطاب الديني لكل اتجاهاته وتياراته وفصائله ، وهو المبدأ الذي حول العقل إلى عقل تابع يقتصر دوره على تأويل النص واشتقاق الدلالة منه ](16)

فأبو زيد هنا يخالف قول الله سبحانه وتعالى: ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ((2) وقوله سبحانه وتعالى: ) مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ((17)
ثالثًا : إنكاره عالمية الإسلام، وعموميته ، وشموله لكل الخلق من إنس وجن ، وادعاؤه الباطل بأن الإسلام دين للعرب وحدهم يقول أبو زيد [ فالإسلام دين عربي ، بل هو أهم مكونات العروبة وأساسها الثقافي والحضاري ](18)
وهذا إنكار كامل واضح لعمومية الإسلام وعالميته ..

وأبو زيد ، بعد أن يقطع بأن الإسلام دين عربي ، يزيد الأمر وضوحًا فيبين أن الزعم بأن الإسلام دين عالمي إنما هو خيالات وأوهام ذهنية بعيدة عن الواقع تمامًا يقول في نفس الكتاب السابق : [إن الفصل بين العروبة والإسلام ينطلق من مجموعة من الافتراضات الذهنية : أولها : عالمية الإسلام وشموليته ودعوى أنه دين للناس وليس للعرب وحدهم ، ورغم أن هذه الدعوى مفهوم مستقر في الثقافة ، فإن إنكار الأصل العربي للإسلام وتجاوزه «للوثب» إلى العالمية والشمولية مفهوم حديث نسبيًا](19) والمؤلف هنا يبين عددًا من الأمور التي يعتنقها ويدعو إليها:

-  إن الإسلام دين عربي ، وليس عالميًا ولا شاملا.

- إن الادعاء أنه عالمي شامل مجرد افتراض ذهني لا صلة له بالواقع .
- إن دعوى عالمية الإسلام وشموله مفهوم مستقر في « الثقافة » وليس في القرآن والسنة والدين كله .

- إن الادعاء بعالمية الإسلام « وثب » إلى العالمية ، كأنه انتهازية وسرقة وغصب .
- إن دعوى العالميـة الإسـلام وشموله مفهـوم حديث نسبيًا .. أي إنه لا صلة له بالقرآن أو بالسنة .

               

1 – انظر محمد أركون الفكر الإسلامي قراءة علمية 116  .

2 – انظر الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة ص: 08 .

3 – انظر الفكر الديني ص: 87 .

4 – انظر الفكر الديني ص: 92 .

5 – نقد الخطاب الديني 118-119 .

6 – انظر الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية 198 .

7 – انظر الفكر الديني 75  .

8 – انظر إشكاليات القراءة وآليات التأويل ص 49  .

9 – انظر الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية 146 .

10- انظر نقد النص ص: 87  .

11 – انظر مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن 23 -24 .

12 – انظر مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن 27 .

13 – انظر الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية .

14 – سورة البروج الآيات 21 – 22 . 

15 – انظر الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية ص : 103 .

16 – انظر الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية ص : 21 .

17 – سورة النحل الآية : 89 .

18 – سورة الأنعام الآية : 38 .

19 – انظر مفهوم النص