اللون وأبعاده النفسية
في مجموعة التعويذة القصصية
للقاص الأسد العويضي
الأسد العويضي |
محمد عبد القادر التونى |
بأسلوب فنى رائق عبر بنا القاص الجميل الأسد العويضى عبر سفينة الألوان إلى دهاليز الوجع التى نسكنها وتسكننا فنعيشها عبر حياتنا اليومية المتكررة مستخدماً فرشاة فنان خبير بالألوان ومعانيها ، فبرغم قلة عدد الألوان المستخدمة فى المجموعة إذ لا تزيد عن خمسة أو ستة ألوان إلا أننى أرى أنها غطت فى معانيها كل ما ترمى إليه المجموعة من أهداف ،
حيث يتجلى اللون مع كلمات الجملة الأولى فى أول قصة فى المجموعة ( وردة حمراء ) حيث يقول : فتح خالد أجندته الزرقاء . اللون الأزرق حيث يحل الهدوء محل الاضطراب كعملية إفراغ وجدانى ينتج عما يسجله " خالد " بطل القصة فى أجندته الزرقاء ، وهى عملية علاجية يوصى بها أساتذة الطب النفسى للتخلص من الشحنات السالبة والتخفيف من حدة الضغوط الحياتية التى يعانى منها الإنسان ،
ثم يتبعه باللون الأحمر حيث يقول : ( فوجد تلك الوردة الحمراء اليابسة تحمله على أوراقها عائدة به إلى أحداث حبه القديم ) وهنا لابد من وقفة .. فخالد بطل القصة والذى فتح أجندته الزرقاء التى يبثها خواطره كلما ضاقت به السبل هو لم يقصد فى الأساس بث خواطره وإنما كان قاصداً الوردة الحمراء اليابسة .. من منظور أن كل حالة شعورية تمثل شيئاً آخر غيرها ؛ بحثاً عن الدفء المفقود الذى كان فى علاقته الرومانسية مع محبوبته الرقيقة التى تركها مجبراً ، ذلك الحب الذى كان فى فترة من الفترات وافتقدناه ، والذى كان المحب فيه يصل إلى قمة السعادة بمجرد مروره بجوار منزل محبوبته لتقع عينه عليها فقط كما يقول مبدعنا ( العيون تتلاقى والقلوب تتناجى ) وكأنها موقف من مواقف ( قيس وليلى ) عندما يقول قيس بن الملوح فى الغزل العفيف :
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديارا
وإن كنت أرى أن مبدعنا قد وفق فى اختيار هذين اللونين الأزرق والأحمر لما لهما من دلالات نفسية أكسبت القصة بعداً آخر ،
إلا أننى أرى أنه لم يوفق فى تحديد البعد الزمنى لهذه الفترة التى كان فيها هذا الحب الطاهر لإكساب القصة بعداً تاريخياً حتى إذا ما قرأها أى جيل اهتدى إلى أبطالها خاصة وأن بطل القصة يسجل فى أجندة والأجندة دائماً تحتوى فى مقدمتها على اليوم والتاريخ .
وفى قصة ( التعويذة ) وهى القصة الثانية حسب ترتيب المجموعة نجد أن اللون الأسود قد بدا واضحاً جلياً فى ( سحرهم الأسود ـ وطرحة من الحرير سوداء اللون ) إضافة إلى ظلام الغرفة التى ينزوى الدجال فى أحد أركانها هرباً من النور الإلهى المتمثل فى أشعة الشمس وكأن الله يريد أن يكشف زيفه بهذا الشعاع أو يهدى قلبه إلا أنه يهرب منه إلى أحد أركان الغرفة ليتخفى ويخفى زيفه فيبدو للناظر إليه ( كصنم ) واللون الأسود وهو رمز الحداد والكآبة والغموض والفزع فيه تنبؤ بالعاقبة الوخيمة للذين يسيرون فى هذا الطريق لإيذاء الناس تماماً كما حدث مع بطلة القصة ( ثريا ) والتى وجدوها ملقاة على الأسفلت جثة هامدة وفى يدها التعويذة لتكون شاهدة عليها ،
وهكذا يتطرق بنا القاص ( الأسد العويضى ) من الحياة فى قصة ( وردة حمراء ) إلى الموت فى قصة ( التعويذة ) وهو دليل عل الذكاء فى ترتيب قصص المجموعة وتضيف بعداً نفسياً آخر فى مصلحة القارىء حتى لا يصدم بالمشكلات فيعينه هذا الترتيب على قراءة المجموعة دونما أن تسبب له رواسب نفسية .
وعودة إلى الحياة مرة أخرى ـ عودة إلى الشباب مع ( اللون الأخضر ) فى قصة ( داخل المقهى ) لون الأمل .. لون التجديد الربيعى ، وكأن الكاتب يشفق على قرائه فيتأرجح بهم بين الحياة والموت .. واليأس والأمل ؛ فهو لا يريد أن يصدمهم وفى نفس الوقت لا يريدهم أن يكونوا بعيداً عن هذه المشكلات الحياتيه التى نحياها جميعاً مع تحديده للمكان فى هذه القصة تحديداً دقيقاً حيث يقول : ( فى منتصف أحد الميادين الهامة بإحدى المحافظات النائية قبعت تلك المنضدة تحكى قصتها ) وتحديد المكان هنا يكشف عن بعد نفسى آخر يرجع إلى القاص نفسه الذى يتمسك بعاداته وتقاليده وأخلاقياته التى تربى ونشأ عليها حتى ينفى هذه السلوكيات غير المقبولة اجتماعياً والتى وردت على لسان المنضدة عن مجتمعه الذى يعيش فيه .
...........
ومن اللون الأخضر لون الأمل ولون التجديد الربيعى فى قصة ( داخل المقهى ) إلى اللون ( الأسود ) فى قصة ( ذئاب العصر ) الأيام الحالكة السوداء .. والمعبرة عن الظلم والقهر والاغتصاب وترويع الآمنين . كما نجد أن القاص قد برع فى جانب نفسى آخر فى هذه القصة .. جانب فى بالغ الأهمية وهو استبطان الشخصية ( عندما نظر حسان بطل القصة فى مرآة نفسه ) .
...........
وأوشكت الألوان أن تنتهى فلم يعد هناك تأرجح بين اليأس والأمل ؛ إذ لابد من مواجهة الحقيقة .. الحقيقة المرة .. ولذا كان اللون ( أحمر قانياً ) فى قصة ( غربة )
وهو تعبير عن الثورة السريعة والغضب لبطلة القصة وهى فى غربتها بعيدة عن وطنها تقول : ( أمكتوب على أن أسير فى شوارع الغربة .. وأسجل ذكرياتى على جدرانها .. وإلى متى ؟ ) .
وتقول أيضاً : ( فأنا والغربة تلازمنا .. تعاهدنا على الصحبة ، هى تؤلمنى وتبحر بى عبر مرافىء بعيدة لا شطآن لها .. مياهها عميقة .. وأنا لا أمانع ! ولكن إذا أبحرت بى ؛ فإلى أين تبحر ؟ فكل مدنى محاصرة ، ومنديلى لا يحتمل ، أيحتمل دمعى ! أم يحتمل أن أضمد به جراح غزة دون أن يصير أحمر قانياً ، وهل سيكفى لجمع الأشلاء فى بغداد الحبيبة ؟ أم فى بيروت الممزقة ، ليتنى أستطيع أن أزيل ما علق به بأن أغسله فى ماء النيل .. ولكن .. هل النيل رائق البال حتى أزيد همومه هموماً أخرى ! أفضل شىء أن أصنع منه خارطة .. ولكنى .. لا أعرف حدود الوطن ! فكل المدن مدنى .. ورغم جراح الغربة .. فأنا مازلت فى وطنى .
وهكذا نجد أنفسنا أمام قاص يمتلك أدواته ويجيد فن القص ، حتى وإن كنت قد طرقت باباً واحداً فى هذه الدراسة وهو ( اللون وأبعاده النفسية ) فهو باب ليس بالهين فالقصة : ضمن تعريفاتها هى : دراسة نفسية لا غنى عنها فى فهم سرائر النفوس .