لغة "العشق" في الآداب العالمية

لغة "العشق" في الآداب العالمية

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

كان "الحب" وسيظل محور اهتمام البشرية، طالما دبت فيها الروح، وتحركت فيها النفس، إذ به تسمو الغرائز وتنحط، فتكون عالية في الثريا، أو هابطة في الثرى.

والحب والكره، تدور على محورهما معظم أفعال الإنسان، أو كلها، والإنسان بعد قد يكتم حبه أو يظهره، وعندما يظهر الحب فلكل طريقته في التعبير؛ فالشاعر يكتب قصيدة، والرسام يرسم لوحة، أو تتكلم العيون بما قد يعجز عنه اللسان..إلخ تلك الطرق التي رصدتها كتب الأدب والتاريخ وعلم النفس وهم يتتبعون هذه الظاهرة العجيبة التي جبل البشر بل الخلق عليها.

ومن الدراسات التي حاولت أن تتبع لغة "العشق" الذي هو أشد درجة من الحب كتاب بعنوان "لغة العشق في آسيا وأوربا"  لمؤلفه سيد عبد الفتاح، وقد ظهر في طبعته الأولى سنة 1997م بمطبعة دار الأمين بمصر، وهو كتاب يغلب عليه انتقاء الأقوال اللطيفة من شعر أو نثر في الآداب العالمية وتصنيفها تصنيفا لا يخضع لمعيار بحثي في تقصي ظاهرة ما، فهو للمتعة أقرب منه للدراسة البحثية، ورغبة في إمتاع القارئ بما فيه من مختارات جميلة في الآداب العالمية كان هذا المقال.

تبدأ مختارات المؤلف من الأدب الفارسي بنصيحة للأمير عنصر المعالي المعروف بقابوسنامة: "اعلم يا بني أن الإنسان ما لم يكن لطيف الطبع لا يعشق؛ لأن العشق ينشأ من لطافة الطبع، وكل ما ينشأ من لطافة الطبع فهو لطيف، ولما كان لطيفا فإنه يتعلق بالطبع اللطيف، ألا ترى أن الشبان أكثر عشقا من الشيوخ؟ وكذلك لا يكون غليظ الطبع ثقيل الروح عاشقا فقط، لأن هذه علة تصيب خفاف الروح على الأكثر"

ويربط قابوسنامة العشق بالمال فيقول: "ولكن اجتهد ألا تعشق، وتجنب العشق، لأن أمر العشق أمر ذو بلاء، وخاصة إبان الإفلاس، إذ كل عاشق مفلس لا يبلغ المراد، وخاصة إذا كان شيخا، لأن الغرض لا يتحقق بغير المال، فيكون قد سعى في سفح دمه"

قول هذا الأديب الفارسي يذكرني بقول الشاعر العربي:

فان تسألوني بالنساء فإني

بصير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب راس المرء أو قل ماله

فليس له من ودهن نصيب

والأديب الفارسي يواصل نصحه بأن يحد الإنسان من عشقه؛ فهو لا يرى بشرا يسـتحق أن يكون مثل بطليموس أو أفلاطون أو يوسف بن يعقوب؛ لكن إذا وقع العاشق في المحذور فإن كان شابا فالناس تعذره، وإن كان شيخا فلا عذر له قط، أما إن كان شيخا ملكا، فإن الابتعاد عن العشق ضروري، حفاظا على هيبة شيخوخته، وسطوة ملكه بين رعيته، وهذا يذكر بقول أبي فراس الحمداني:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

 أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكـن مثلـي لا يـذاع لـه ســر

إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى

 وأذللت دمعا مـن خلائقـه الكبـر

 ومن ثم يرى أن يخفف الإنسان من عشقه لدرجة أقل هي المحبة؛ فالرجل "في المحبة يكون مبتهج القلب دوما، ويكون في العشق في محنة على الدوام".

وفي العشق الفارسي نلحظ فكرة أمارات العشق التي يعد الانجذاب تجاه المعشوق أهمها؛ ذلك الانجذاب الذي يبلغ ذروته في فقدان الشعور بالنفس والأنا، وفناء العاشق في المعشوق، وهذا ترتب عليه فكرة ما زالت مسيطرة في الفكر الصوفي إلى الآن، متمثل في العشق الإلهي، وقد أطال العطار في منطق الطير في الحديث عن العشق بصفة عامة والعشق الإلهي بصفة خاصة، فيرى أن العشق قوة خفية تدفع السالك إلى المضي قدما في الطريق؛ آملا في لقاء المحبوب الأزلي، واعتبر العشق أسمى مكانا من العقل؛ فالعشق نار، أما العقل فدخان، وما إن أقبل العشق حتى ولى العقل الفرار، فالعشق ليس وليد العقل"

وفي الفارسية ينقسم العشق إلى عشق دائم، وعشق زائل، فالأول عشق المعرفة، والثاني عشق الصورة الذي يزول بزوالها، وعشق المعرفة هو عشق الله وهو الحبيب الأبدي الدائم، وأما عشق الصورة فهو عشق الماديات الفانية".

وفي منطق الطير نرى العطار يطيل في عدم الجدوى من عشق الصورة فيقول: "عشق الصورة ليس هو عشق المعرفة، إنما هو اللعب بالشهوة، ومن يعشق عالم الغيب، فهذا هو العشق الحق، إذ أنه يخلو من كل عيب"

وفي استقراء سريع للشعر الفارسي الموجود في مثنوي جلال الدين الرومي أو حكايات الملك والساحر وغيرها من أدبيات الفرس، فإن النتيجة التي سيخلص إليها أن العشق الإلهي أو العشق بالمعنى الصوفي هو الذي كان طاغيا مسيطرا، ومنه تفتقت معاني كثيرة وجميلة وجديدة للشعراء المتصوفة من العرب كابن الفارض، ومحي الدين بن عربي وغيرهم من أساطين الشعر الصوفي في العربية. ومن ثم نرى أن كتاب لغة العشق في آسيا وأوربا الذي شمل بين دفتيه 117 صفحة قد استغرق في الحديث عن العشق في الأدب الفارسي فقط قرابة 90 صفحة، وعندما نحاكم الكتاب إلى المعايير البحثية التي تشترط التناسب بين الفصول والأفكار فإن ذلك سيعد مأخذا واضحا على الكتاب، غير أننا – كما أسلفنا – قلنا إن هذا الكتاب عبارة عن مختارات القصد منه الإمتاع، ومن الممكن أن نتلمس من خلال هذه المتعة بعض الأفكار.

يتحدث بعد ذلك المؤلف صديق عبد الفتاح عن العشق في الهند فنجد فكرة التحذير من العشق والبعد عنه موجودة أيضا، وينقل لنا بعض النصوص في ذلك، منها: يقول أبو الطيب الوشا وهو من أدباء الهند وفلاسفتهم: "قد بلغنا أن ببعض الهند قوما لا يعشقون، ويرونه ضربا من السحر والجنون، وذلك لمن فيهم الفلسفة، ولهم الحكمة والتجربة، وزعموا أن العشق سبب النوى، وفيه المذلة والعناء، ومنه يكون السقم والضنى، وأسرع من في النساء وفاء أسرعهن خيانة وجفاء، وأعطاهن حلفا وأيمانا أسرعهن خيانة وسلوانا، فيا رحمتي للأدباء، وشفقتي على الظرفاء، ما أطول بلاءهم، وأكثر شقاءهم، وأسخن عيونهم، يبتلى العزيز منهم بالذليلة، والكثير منهم بالقليلة، والشريف بالدنية، والنبيل بالرزية، فيطول في عشقها سهره، ويكثر في أمورها فكره".

وهذه الفكرة نجدها في قصص كثيرة من أدبنا العربي؛ فيذكر صاحب العقد الفريد أن أحدهم عشق فتاة كان لها أصحاب، ولكنه تتركهم إذا رأته، وتبسط لها يدها، وتضحك في وجهه دونهم، فحسب أنه ملك قلبها من دونهم، ثم إنه غاب عنها قليلا، فتزوجت بغيره،فقال فيها هاجيا:

أتيت فؤادها أشكو إليه

فلم أخلص إليه من الزحام

فيا من ليس يكفيها صديق

ولا خمسون ألفا كل عام

أراك بقية من قوم موسى

فهم لا يصبرون على طعام

أما العشق في الأدب الغربي فإن فكرة الخيال فيه مسيطرة، وهي فكرة نجدها على أية حال في كل الآداب خاصة أدب العرب، وقد تكلم عنها كثير من الأدباء، مثل وردز ورث وكوليردج وغيرهم، غير أن الخيال في الأدب الغربي يرتبط بتحليل نفسي لشخصية الرجل والمرأة، ففرانسوا جونت يرجع العشق إلى أن في صفات الرجولة بعض الأنثوية التي يتوافق بها مع الأنثى التي تملك بدورها صفات أنثوية وأخرى رجولية تتفق مع صفات الرجل، وكل من الرجل والمرأة يرسم صورة للآخر هي ما نعبر عنه في ثقافتنا العربية بفارس الأحلام أو فتى الأحلام، أو فتاة الأحلام، وهناك من الرجال ذوي المخيلة المتيقظة من إذا عثر على امرأة تتلاءم مع الصورة الأنثوية التي يحملها فإنه يضفي عليها ذلك الجزء من ذاته، وراح يؤدي لها عبادة حب متدله، والواقع أن المحبوب الذي يعبده ذلك العاشق الواله ليس امرأة حقيقية، بل تلك المرأة التي ابتدعتها مخيلته، أو قل ذلك النموذج الأنثوي الذي يحمله في طيات كيانه.

وهكذا نجد أن تحليل الناس للعشق في مختلف الثقافات يحظى من الأهمية التي تجعل منه شعورا لذيذا قال عنه الإمام الشافعي: غذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ..قم فاعتلف تبنا فأنت حمار، واعتبره كثير من الفلاسفة رقا لذيذا وعذابا يستعذبه الإنسان، يقول جنس: "العاشق عبد رق إنما يعز عليه أن يعتق نفسه، أو يتحرر من مظالم مستعبده" ويقول عنه هوميروس: "يقضي العاشق شبابه وهو لا يدري، ثم يصرف طور الرجولة في الندم على ضياع الشباب، وفي الكبر يفتي نفسه في العزلة والاحتقار".

وهكذا عزيزي القارئ حاولت أن أطوف معك في هذا الكتاب حول الأفكار التي تثيرها غريز العشق أو الحب في نفوس الناس في الآب العالمية وقد شفعتها ببعض مثيلاتها في الأدب العربي والغربي مما ليس مذكورا في مختارات المؤلف في هذا الكتاب، وسلام على المحبين والعشاق.