أدب "خراف الحمّامات"
أدب "خراف الحمّامات"
الخير شوار
"فتى الشعبة"، ما هو في النهاية إلا "خروف الحمّام"، وتلكم هي خلاصة الكاتب الجزائري – الفرنسي والوزير السابق عزوز بقاق الذي استقال مكرها، وبين "فتى الشعبة" الرواية الأولى في مسيرته الأدبية التي كتبها سنة 1986، و"خروف الحمام"، خيط رفيع رغم مسافة السنين بينهما، يربطه برواية أخرى كتبها جزائري آخر في روما.. إنه "أدب خراف الحمّامات".
رواية عزوز بقاق الأولى (فتى الشعبة)، كتبت في سياق لا يتناول فيه الكتّاب أحوال المهاجرين وأبناءهم إلا "في سياق البؤس أي لإظهار الفقر والمنازل البائسة والمهجّرين وصعوبتهم"، فكان ذلك يحزنه، لكن مع صدور تلك الرواية أحسّ لكاتبها أن شيئا ما يتغيّر مع تلك القصة، التي تروي حياة طفل يعيش في الأكواخ القصديرية في ظروف صعبة للغاية لكنه بمقابل ذلك لم يكن بائسا تماما كما كانت تصوره الكليشيهات الروائية الجاهزة حينئذ وإنما كان سعيدا ويستعيد الكاتب تلك اللحظة قائلا عن ذلك الفتى الذي كان يمثله "ولأنه شخص إيجابي وكان سيربح معركة الاندماج في المجتمع من خلال الثقافة والعلم، كان ذلك كتابا جلب للمجتمع الفرنسي نَفَسا جديدا، كان كتابا خفيفا أعتقد أن الناس في العالم كله بحاجة إلى فسحة أمل وإلى روح دعابة"، وكان بمثابة القنبلة في ذلك الموسم الأدبي، فبيع من الطبعة لأولى أكثر من مئة ألف نسخة، وفي النهاية لم يكن "فتى الشعبة" ذاك سوى عزوز بقاق نفسه الذي نشأ في الضواحي المعدمة في ظروف لا تمت للإنسانية بصلة وهو ابن المهاجر القادم من مدينة سطيف بالجزائر.
عند وصول أهل بقاق إلى فرنسا عام 1949 كان والده هو أول من أتى كعامل مهاجر، فكان يخطط للبقاء في فرنسا لمدة قصيرة من أجل جمع قليل من المال و العودة إلى الجزائر لبناء حياته، لكن المؤقت أصبح دائما وفي لحظة صدق ابن الضواحي المعدمة الذي كان أهله يقتاتون من المزابل وأهله أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، صدّق "فتى الشعبة" ذاك أحلامه في الاندماج حتى يكون نموذجا لأبناء مهاجرين، فتوالت الكتب التي أصدرها بين رواية ودراسة ونال حظا من الأضواء لم يكن يحلم بجزء منه في حياته البائسة الأولى، بل ووصل إلى حد تبوأ مقعد الوزارة في بلد نابليون بونبرت، لكنه في النهاية اكتشف بأنه مجرد "خروف في حمّام" فكيف حدث ذلك؟
في نوفمبر 2003 التقى عزوز بالشاعر دومنيك دوفيلبان في معرض للكتاب وكان دومينيك ساعتها وزيرا للخارجية الفرنسية، وعلى سبيل المزاح كلّمه عن أمنية ليكون سفيرا لفرنسا في إحدى الدول الأفريقية البعيدة، ومرت أيام وعيّن دو فلبان رئيسا للحكومة واقترح عزوز وزيرا لشؤون المساواة، وكان حلم فتى "الشعبة" يكبر إلى أن وقعت "أحداث الضواحي الباريسية" وصعد اسم نيكولا ساركوزي كالصاروخ، الذي لم يتورع في وصف شبان الضواحي بـ "الحثالة" وبدأ الفتى يشعر بالورطة والغربة أكثر في ذلك المحيط إلى أن حدث له ما حدث مع ساركوزي نفسه الذي بلغ به الأمر حد تهديد عزوز قائلا: "أنت مخادع وقذر وسوف أكسّر فمك". وما تأسف له بقاق أكثر هو الموقف السلبي لصديقه الشاعر دو فيلبان المقرب منه والذي أبقى على موقفه السلبي ولم يقدّم شيئا في الأمر، في وقت بدأ عزوز بقاق الذي اعقد بأنه أصبح فرنسيا كالآخرين، يسمع عبارات قمة في السخرية من بعض المحسوبين على النخبة السياسية الفرنسية من قبيل اتهام المهاجرين العرب والمسلمين بأنهم يذبحون كباش العيد في أحواض حمامات بيوتهم، وشعر عزوز الذي نشأ في فرنسا بأن "مذبوح في العيد أو في عاشوراء على أكثر تقدير" ملما يقول المثل الشعبي في الجزائر، وأنه مجرد خروف صغير في حمام مائي ينتظر لحظة الذبح التي يبدو أنها حانت، فجاء كتاب "خروف في الحمام" الذي أرّخ فيه لسنتين من الاستوزار في الحكومة الفرنسية والمتاهة التي وجد فيها كاتب ابن مهاجر نفسه يدور فيها، وكذا تحول "فتى الشعاب" الحالم بالقضاء على العنصرية إلى ذلك الخروف البائس الموجودة في حوض الحمام.
وغير بعيد عن فرنسا يوجد عمارة لخوص في إيطاليا، وهو روائي جزائري من الذين بدؤوا الكتابة والنشر بعد أكتوبر 1988، يعيش منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين في روما، وهناك أصدر روايتيه "البق والقرصان" (بالعربية والإيطالية)، ثم "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" التي أعاد كتبتها بعد ذلك بالإيطالية بكثير من التصرف ونشرها بعنوان مختلف، ونال بها جائزة إيطالية مرموقة، وعمارة لخوص الذي ذهب ناضجا إلى إيطاليا وهو ابن ثقافة جنوبية، لم يجد صعوبة كشخص في الاندماج في المجتمع الإيطالي، فهو صحفي نشيط هناك، وكاتب حقّق الكثير من التميّز، لكنه ككاتب بقي مهوسا بمشاكل الهجرة والاندماج وأنجز أطروحة جامعية انثروبولوجية في ذلك السياق، ولئن غاصت روايته الأولى (البق والقرصان) في المشكل الذي عانت منه الجزائر عند هجرة الكاتب عمارة لخوص، فإن الرواية الثانية (كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك) التي يحيل عنوانها إلى أسطورة نشأة مدينة روما والشقيقين روموس وروميلوس اللذان رضعا من ثدي ذئبة وكان لبنها سببا في نشأة تلك المدينة عاصمة الإمبراطورية التي أصبحت كل الطرق تؤدي إليها على مدار التاريخ، وعلى طريقة الكاتالوجات الجاهزة والكتب الدعائية التي توهم الزبائن أنها تعلمهم الطهي في دقيقتين واللغة الانكليزية في ثلاث أسابيع وغيرها، أراد السارد أن يعلم الناس كيف يرضعون حليب ذئبة روما دون أن تعضهم، فمن خلال تلك الرواية الصغيرة الحجم في طبعتها العربية والمحكمة البناء يقدم الكاتب عمارة لخوص مقاربة في الهوية، والرواية التي تدور في قلب روما في عمارة فيها أشخاص من جنسيات مختلفة من إيران إلى بنغلاديش، إلى البيرو وألمانيا،
تعالج كيفية اندماج تلك الهوايات المختلفة وانصهارها في بوتقة واحدة من خلال شرب حليب الذئبة الإيطالية، لكن أميديو الذي كان نموذجا للاندماج والذي تشرب قيّم الحضارة والتسامح، أكتشف في الأخير أنه جزائري وأسمه أحمد وراح ضحية اتهامه بجريمة قتل وانهار الحلم فجأة وكأني بأميديو- أحمد ذاك مجرد خروف، كخروف عزوز بقاق القابع في حوض الحمام، وكان الخروف ضحية الذئبة التي حاول أن يرضع منها فعضه في النهاية العضة التي قد تكون قاتلة.
وقد يكون أبو حيان التوحيدي في الأخير مخطئا عندما قال أن أغرب الغرباء من كان غريبا في وطنه وبين أهله، فلا غربة مثل غربة من فقد صلة بمكانه الأصلي، فهو في النهاية مجرد خروف أعزل بعيدا عن قطيع الخراف، ولا يهم إن كان هذا الخروف قابعا في حمام مائي وسوف يذبح بعد حين، أو ضن لمدة من الزمن أن بإمكانه أن يتخذ من ذئبة مثلا أمّا له، من شأنها أن ترضعه حليبها وتتخذه ولدا، لكن من المؤكد أنها ستعضعه في النهاية العضة القاتلة والخروف هالك في النهاية في صحراء غربته، بكل الطرق.