الوطن والثورة في روايات العشري

محيي الدين إبراهيم

محيي الدين إبراهيم

رئيس تحرير جريدة صوت بلادي

بالولايات المتحدة الأمريكية

لم أتقابل مع المبدع الشاب محمد العشري شخصياً وان كنت من أوائل المعجبين برواياته وخاصة بعدما تم نشر جزء كبير منها على موقع جريدة صوت بلادي المصرية بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2002 وكانت تلاقي ردود أفعال مليئة بالحب والتقدير من معظم قراء هذه الروايات في جميع أنحاء العالم.

واليوم وقع تحت يدي روايتين جديدتين للعشري هما " تفاحة الصحراء " ورواية أخرى هي " خيال ساخن "، وقد حصلت عليهما وأنا متوجس من أن يكون العشري قد تغير منهجه هذه الأيام ونحن على مشارف الانتهاء من عام 2008 عن منهجه عام 2002، أو أن يكون قد فقد حماسته الأولى كما كانت أول ما قرأت له لكن على العكس وحين شرعت في قراءة الفصل الأول من رواية تفاحة الصحراء حتى وجدتني انتهي في نفس الليلة من قراءة روايته الثانية خيال ساخن وهي حالة لم تنتابني منذ زمن وربما كانت تلك الحالة بسبب ما وصل إليه العشري اليوم من حرفية عالية في كتابة الرواية  التي أصبحت فناً نادرا لا يقبل على كتابته الكثير من المبدعين لصعوبتها أو ربما لقله القراء لها اليوم بعد انتشار وسائل النشر الحديثة كالانترنت والفضائيات وخلافه وحيث تحدى العشري كل ذلك وخرج علينا ببساطة وعمق ليثبت لنا أن فن الرواية باق وحي ولن يموت.

وبداية لا نستطيع تصنيف العشري كاتباً رومانسياً كما أوحي لي البعض من عشاق قلمه وكذلك لا نستطيع أن ننعته بالكاتب الباحث عن الشذوذ في شخصياته بغية الحصول على أحداث ساخنة تخاطب غرائز القارئ أو تدعم من حالات الغضب عنده إما بتفريغ شحنة أو دفعها للانفجار وإنما أراه – إذا جاز لي وصفه - كاتباً من النوع غير التقليدي حيث يمسك بمعاقد مثلث الإبداع وهو الفولكلور والتاريخ والواقع ويمزج بينها مزجاً حقيقياً من خلال أحداث مثيرة تدفع عقل القارئ  بفانتازيا جميلة لان تتوالد عنده الرغبة في عناق الوطن وكأنه محبوبة كانت غائبة وعادت من جديد على أعتاب سطور هذا الروائي المحترف الذي لم يترك تفصيلة صغيرة إلا ووصفها أدق الوصف حتى رمال الصحراء المصرية وصفها أدق الوصف وكأنه يحمل كاميرا سينمائية وليس قلما يكتب به.

وخيال ساخن هي ثورة ساخنة وليست خيالاً على الإطلاق يبحث فيها العشري بأبطال روايته مع القارئ عن المخلص أو المسيح أو ربما عن أبو زيد الهلالي أو عنترة أو حورس أو ادهم الشرقاوي في رغبة شديدة لان ينتشل هذا الفارس  مجتمعه وأهله وناسه من أنياب الخوف والفقر ومشاعر الضعف أمام الديكتاتوريات الحاكمة وعبودية البشر الذين صاروا بها مجرد سلع تباع وتشترى في أسواق النخاسة، ولعل من ابرز التصاوير لهذه الفكرة والتي جسدها العشري في روايته خيال ساخن هو مشهد سوق الحمير بالقرية الذي يعبر عن مشهد حلم الحرية ومحاولة الثورة التي تحلم بها الحمير التي اعتبرتها هنا رمزاً للمقهورين وحيث تقرر الحمير قرار التحرر والخلاص بنفسها من سيطرة رأس المال وعبودية الحاكم، بعد أن يئست من انتظار المخلص والفارس الذي صار وهماً يعبث بمشاعر الضعفاء كما جاء ذلك على لسان بطلة الرواية، التي ظلت تبحث عنه وحين اصطدمت به في إحدى التلال لم تجده ألا ظلاً ساخناً لفارس منهك لم يكن له وجود إلا في عقلها المجهد ومشاعر مجتمعها البسيط والمحبط والغارق في الضعف والفقر والقهر، وربما من هذه النقطة يحاول أن ينبهنا الكاتب إلى حقيقة مفادها أن الفارس المخلص هو أنت، يكمن بداخلك، بكل جرأته وعدله ولكن إذا أدركت أنت ذلك وآمنت به، وانه لا وجود لمخلص خارجي على الإطلاق ينشلك مما أنت فيه من قهر سواك أنت وأنت فقط، وان لم تؤمن بذلك فعليك الحياة كما تعيشها الحمير في سوق القرية الكبير تباع وتشترى، ويجدد العشري إيحاءاته للقارئ في إما أن يكون البشر واحداً صحيحاً أو يرضوا بكونهم صفراً، وبمناسبة هذا الصفر الذي يخشاه العشري ويخشى أن تركن إليه أمته ووطنه، ينبهنا أن لهذا الصفر معطيات وبناء موجودا وقائما في وعي الناس الخفي ( اللا شعور الجمعي للقبيلة والمجتمع ) ويفاجئنا برمز اعتبرته غاية في القسوة على مشاعري - كقارئ على الأقل – ولكن رآه الكاتب سبباً رئيساً للمعوقات التي تمنع الناس من التغيير وأشار لهذا الرمز بنهر النيل ورغم وجيعتي من قسوة هذا الرمز الذي أشار به العشري إلى الجانب السلبي في المجتمع إلا أنني لاحظت أنه أتى بذلك الرمز تحديداً ليسبب لي حالة من الصدمة ( كصفعة قوية ) ربما حتى أتبين عظمة ما يكمن بداخلي من ظلام يدفعني للسلبية، فهو يقول في صفحة 40 من الرواية أنه : " لولا النيل لتغير الناس وربما انتشروا في الصحراء الواسعة وربما تغيرت طبائعهم إلى غبر ماهي علية الآن من فتور بسبب رضاهم بالأمر الواقع وانحشارهم في ذلك الشريان الضيق الملاصق له على ضفتيه "، وكما قلت لولا قراءاتي المتفحصة للرواية لاتهمت العشري انه يسئ للنيل، ولكني لاحظت إسقاط العشري للنيل بكل جبروته وعظمته كرمز كبير يدلل به على جبروت العادات والتقاليد والعرف السائد في وطننا المبني أحيانا على الجهل حتى أصبح هذا المثلث ( عادات - تقاليد - عرف ) له قوة وقداسة الدين والعقيدة في وجدان هذا الوطن وأصبح اتوماتيكياً من صميم السلوك الإنساني أيضاً.

أن رواية خيال ساخن ثورة على كل مناحي الإثم والضلال والسلبية التي اعترت هذا الوطن ولا عاصم منها اليوم إلا الإيمان بأن الفارس المخلص يوجد بداخل الإنسان ذاته في أعمق نقطة في قلبه .. الفارس حي وموجود لكنه ينتظر إشارة الخروج حتى ينفجر وينطلق ويقوم بالتغيير الايجابي لكل ما يحيط بنا من سلبيات واحباطات.

خيال ساخن رواية لا تستحق القراءة فقط ولكنها رواية تستحق المشاهدة لكونها اعتمدت على سيناريو وصف الصورة كأنها مشاهد سينمائية أكثر من اعتمادها على الحوار الضيق وتراكم الأسطر.