كلمة عن الشعر
وعن الشاعر قاسم بن علي الوزير
د. راشد المبارك
أستاذ كيمياء الكم سابقاً بجامعة الملك سعود
ليس ما يأتي في هذه السطور دراسة لشعر الشاعر ولا ترجمة لصاحبه فلذلك مقتضيات وأدوات لم اقصد إليها، وإنما هي كلمة عن الشعر وانطباعات عن الشاعر أملتها معرفتي الطويلة به وأسرته وخلطة سعدت بها به وإخوته وفي مقدمتهم أخوه الجليل إبراهيم ذو التميز في عقله وفضله ومكانته، ومثله أخوته الإجلاء ، وهي ليست تعريفاً به فهو علم في دائرة معارفه وأولاّفه وهي دائرة تمتد على أطراف الوطن العربي وتتسع لتشمل العالم الإسلامي وخارجه ، فالشاعر وأسرته ينحدرون من دوحة تضرب في أعماق تاريخنا بما يحويه نسيج هذا التاريخ من علم وثقافة و جهاد ، ومن يعرف قاسم بن علي الوزير يعرف أنه يصعب إن لم يتعذر أن يكتب عن شعره منفصلاً عن الحديث عن ذاته ذلك أن شعره مرآة صافية لذاته وانعكاس لهذه الصفات في خلالها و سجاياها، وهي سجايا يمكن أن تلخص في ثلاث مفردات هي العطاء والصفاء والوفاء .
عن الشعر :
والشعر ألصق الخصائص الإنسانية بالإنسان .
قد يبدو هذا القول غريباً من حيث كونه يجعل مما هو ألصق خصائص الإنسان ينفرد به بعضهم عن سواه.
الواقع يقول نعم :
الإنسان يشترك مع سواه من الأحياء مما يأتي متخلفاً عنه تخلفاً بيناً في سُلِّم تصنيف الأحياء
النبات والحيوان يشتركان مع الإنسان في كثير من صفاته
كل من النبات والحيوان يتغذى ويتنفس ويتكاثر ويتحرك ويحس بل وينفعل وكذلك الإنسان.
الحيوان يشارك الإنسان في التفكير على درجة من درجات هذا النشاط من مناشط الكائن الحي.
لعل الشيء الوحيد الذي لم يظهر – حتى الآن – مشاركة غير الإنسان للإنسان فيه هو ( الطرب ) بجناحيه الحزن والفرح.
ملامح الإنسان قد تبدي ما هو عليه من حزن أو فرح، و لكن اللغة أقوى وسائل التعبير عنهما.
اللغة ألصق الأشياء بكينونة الإنسان من حيث كونه مخلوقاً اجتماعياً، "لولا اللغة لما كان للإنسان علم ولا فن ولا أدب، بل لم يكن له تاريخ".
الشعر أنغام اللغة مصوغة في كلمات وهو المنفذ الأقوى والأفعل تعبيراً عن ( الطرب ) ودفعاً إليه.
لو اطردت الطبيعة البشرية لكان الشعر لازمة من لوازم الإنسان وكانت مفردة (إنسان) تعبيراً مرادفاً لمفردة (شاعر).
لو أتفق البشر في طباعهم لكان الشعر الواحة التي يستظل فيها كل فرد عن وهج الشمس ويستريح فيها من عناء السفر ويستروح منها أنفاس الشجر.
من الصحيح أن القدرة الشعرية – مهما علت – ليست مقياساُ وحيداً للعبقرية والتفوق، ولو كان الأمر كذلك لما وجدنا نماذج من النبوغ والتفوق لا يربطها بالشعر رباط.
على أنه من المؤكد أن الإبداع في الشعر أكثر أنواع النبوغ قرباً إلى القلوب.
إذا كان القادرون علي إجادة الشعر قلة من الناس فإن نسبة كبيرة منهم تُصغي إليه وتنفعل به وتجد فيه أبهج نشواتها لما سبق من أسباب.
مما يميز النص الشعري في وقعه على النفس وتأثيره فيها ما يحمله من موسيقى بما يضعه الوزن والقافية من إيقاع.
تجريد الشعر من الوزن والقافية ، أي تجريده من إيقاعه سلب لأهم عناصر مقوماته وعناصر جماله.
في عالم المادة توجد مقاييس كمية تتعلق بالموضوع ولا صلة لها بالذات التي تقوم بالتقويم أو القياس أو إظهار الصحة والخطأ عن طريق الانشقاق الرياضي، هذه الوسائل تحدد وتكشف طبيعة الموضوع ، ومقدار التوصيل الكهربي والحراري لمعدن ودرجة غليان وتجمد مادة والنشاط الإشعاعي لعنصر مشع وعمر النصف له أمور تبين عنها التجربة ولا صلة لها بالمجرب.
في تقويم الشعر وتمييز جيده من رديئة لا توجد مثل هذه المقاييس فى دقتها وصرامتها إذ هي علاقة تفاعل بين المرسل والمستقبل. ما يذكره النقاد الأقدمون والمحدثون من المحسنات البديعية وديباجة اللفظ وأثر الصورة الشعرية وغرابة المعنى أو جدته أو طرافته، وكذا الموسيقى الداخلية التي يضعها النسب بين الكلمات وما للغموض والرمزية من قيمة لدى بعض النقاد أمر له مكانته عند النظر إلى النص الشعري علماً أنه – مع ذلك – أمر مختلف في تأثيره ووقعه وبالتالي تقدير أثره باختلاف المتلقين لذلك النص.
على أنه يبقى قبل ذلك وبعده حد مشترك بين الناس متى توافر في النص الشعري أمكن تصنيفه وهذا ما جعلهم يصلون إلى إجماع أو شبه إجماع في وضع الشعراء في مراتبهم .
عن شعر الشاعر :
لعل أول ما يستوقف القارئ لشعر الأستاذ قاسم هو طابع الحزن الذي يسربله لأنه إلى الحزن صار ومن الحزن انبعث ولا نجد ذلك غريباً من شخص مثل المتحدث عنه ذلك انه إذا كان الشعر هو ألصق بطبع شاعر وأقوى العوامل المشعلة لمشاعره وأكثر ما يلح الحزن ويفيض عندما يرزأ المرء بفقد حبيب أو الثكل في قريب أو انهيار مجد وتضعضع تاريخ، ولأن شاعرنا محب ومحبوب اتسعت دائرة خلصائه ومحبيه واتسعت – تبعاً لذلك – دائرة فقده جاء أكثر شعره قصائد رثاء أو إشارة لتاريخ قد شاخ و اتسع ذلك باتساع دائرة هذين الباعثين ، لقد عشق تاريخه فأشجاه و أبكاه و أحب آلافه في حياتهم ووفي لهم بعد مماتهم ، غابوا عن ناظره و احتفظ بهم ذكرى لا تغيب عن مشاعره، يشعر بذلك شعوراً عميقاً حتى ليجعل هذا الشعور الحزين بعض مواهبه:
حزين ..؟ نعم! والحزن بعض مواهبي فلا تسألي عني سلي عن مصائبي
تجرعتها طفلاَ صغيراً و يافعاً وكهلاً لقد أتعبت حتى متاعبي
وتجرعه المصائب في طفولته وشبابه ليس حديث استعارة أو كناية، بل واقع وممارسة، لقد عرف السجن وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره وعرف البعد عن الأهل والوطن ولا يزال أكثر سنيّ عمره، عرفته الحركة ولم يعرفه الاستقرار، وصرفه الترحال ولم ينعم بهدوء بال ومع ما تقدم فقد تميز شعر الأستاذ قاسم بميزات عديدة لعل أبرزها التالي:
الأول :
تميز في الرثاء بحيث يمكن أن يعد هو وبدوي الجبل – رحمه الله – شاعري الرثاء في ديوان الشعر العربي لما يتميز به رثاء كل منهما بكونه شجي الجرس، صادق النبرة متوهج الالتياع .
الثاني :
قدرة ظاهرة على توظيف المفردات توظيفاً جديداً وفريداً لتؤدي وظيفتها أقوى أدى وكأنه جعل مفردات لغته تمرُ من خلال غربال يختار لكل غرض ما يلائمه من المفردات .
الثالث :
ابتكار لمعاني أجاده وبرز فيه.
الرابع :
تأمل فلسفي واستنباط لم يفطن إليه كثيرون.
الخامس :
كلف بوطنه ووله إليه وحنين لا ينطفئ إلى ما يذكره به من صبابات ولبانات وهو وله تتمنى والهة أن تصوغه رسائل إلى حبيبها.
الميزة الأولي :
كثر في ديوانه، مثل قوله :
حزين .؟ نعم! والحزن بعض مواهبي تـجـرعـتـهـا طفلاَ صغيراً ويافعاً بـكـيـت الـرفاق الذاهبين فلم أدع | فـلا تـسألي عني سلي عن مصائبي وكـهـلاً لـقـد أتعبت حتى متاعبي دمـوعـاً لـعـيـن أو وجيباً لنادب |
وقوله :
يـكتب الموت كل يوم من بـعـض أوزانـه النواح وبعض مـا وضـعنا يدا على الجرح إلا كـل يـوم مـودع لـحـبـيب | الشعرفـنـونـاً تـهـمي أسى مـن قـوافـيه في القبور ضجيع سـال جـرح عـلى الشفاء منيع بعض نفسي يمضي وبعض جزوع | وتروع
بكاء الرفاق الراحلين بكاء لا يدع دموعاً لعين أو وجيباً لنادب وثيقة لا تدحض على مدى الإحساس ببلاغة الجرح وعمق المصاب ، ولا يخفى ما في البيتين الأولين من معنى مبتكر عن نوع الشعر الذي يجيده الموت ، أما البيت الرابع فهو تكثيف للحزن شديد يذكر بقول الأول :
دفنت بنفسي بعض نفسي فأصبحت لنفسي منها دافن ودفين
الميزة الثانية :
شائعة في شعره كشيوع الأولى وهي القدرة على توظيف المفردات توظيفاً جديداً ومن قوله :
الـعاكفون على السلاح الـقارئون الموت رتل بعضه الـثـابتون على العتاق كأنها | عبادةالـراكعون على الجهاد نـاج وجـود بعضه مستشهد في بدر ترتجل الحتوف وتنشد | السجد
أحسب أن مثل هذا الشعر نمط قل أن يرقى إليه شاعر، والاعتكاف والسجود على الجهاد والسلاح نوع من العبادة فريد، كما أن قراءة الموت وترتيله – جهاداً – إسباغ للقداسة على الجهاد لا أعرف أن شاعراً تحدث عنه.
الميزة الثالثة :
ابتكار المعنى، وديوانه روض تورق فيه المعاني المبتكرة وتزهر ومن ذلك الأبيات السابقة في وصفه للجهاد، ولمعاني المبتكرة التي مرت في هذا المعنى موهبة لا توجد إلا في قلة ممن يقول الشعر فيحسنه، واعتبار صليل السيوف صلاة و مواضع الجراح مساجد أمر لا يعرفه إلا قلة من القائمين والصائمين والركع السجود، على أنه قوله :
بعض دمعي مزن وينبت منه في حقول الأحزان وشي الورود
صورة شعرية تستدعي إلى سرادق الحزن مفاتن الجمال، وكأن الشاعر يريد أن يكشف من ظلام الحدث ما تراكم من أحزان .
الميزة الرابعة :
وهي التأمل الفلسفي واستنباط معاني لم يفطن إليها الكثيرون فمن ذلك قوله :
يجادل فيك الموت معنى حدوثه وفيك رأى معنى الخلود المصاحب
فهذا البيت زفرة أسى و احتجاج إشارة إلى ما لا يفهم من الحكمة والغايات وهي زفرة لا يجد المرء ملاذا عنها إلا في الإيمان بالغيب مما لا تزاح عنه الستور، ومن المؤكد أن من الأفراد ما يكون خلوده في رحيله ومن يكون ذكره نبات تتعاقب على سقيه وإحيائه القرون.
الميزة الخامسة :
وهي الحنين إلى ماض لم يبقى من مجده إلا تذكره وبناء لم تبق من مقاصيره إلا أطلال، وهو حنين يملأ عليه جوانح نفسه يسامره في يقظته ويساهره عند هجعته.
الـخـيـول الـمـطهمات والسيوف التي استضاء بها التاريخ أيـن منا الأقصى ويبكي المصلون | سبايافـذلـيـل بـذلـهـا أزرى بـهـا الـوريـث الجبان ونــعـى عـنـد الأذان الأذان | المهرجان
الذي يقرأ هذا الشعر يسمع قعقعة أللجم وصليل السيوف وبكاء المصلين وهذه الأبيات تستدعي رائعة شوقي (قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا) والتي قال فيها عن دمشق إبان الاحتلال الفرنسي لها.
وقـفـت بـالمسجد المحزون أسأله فاستعجم المسجد المحزون واختلفت فـلا الأذان أذان فـي مـنـارتـه | هل في المصلى أو المحراب مروان عـلـى الـمـنابر أحرار وعبدان إذا تــعــالـى ولا الأذان أذان |
مع اشتراك هذه الأبيات مع سابقتها في الدواعي والمعنى وشحنة الأسى فإنه من الواضح أن نبرة الأسى أشد حده في أبيات الأستاذ قاسم إذ أن أشد وقع المأساة أثراً حالة يكون فيه الأذان نعياً.
الميزة السادسة :
ظمأ لا يرتوي إلى مرابع لهوه ومراتع صباه ووله إلى سماره و إلى صبواته ونشواته وقد صاغ ذلك في كثير من شعره وأبدعه رائعته في صنعاء التي جاءت من عيون الشعر في ديوان الشعر العربي ، والصورة التي نسجها تجعل قارئها يتسائل أذالك واقع معاش أم منى متخلية، وسواء كان هذا أو ذلك فقد أتحف الشاعر قارئه بأنضر اللوحات تموج بالصور والألوان وأنضر ما تجود به الحياة من نشوات .
صنعاء هل في الندي السمح وهـل رخـي الـعشايا مثل عادتها تفدي الحسان الجميلات التي التحقت صـنعاء أغفت على الأزمان فتنتها إذا مـشـيت على حصبائها همست تندى الأصائل من شعر ومن طرب يـنـسـاب كالبرء من عالي مآذنها | أسماركـمـا مـضـى من ليالينا شـعـر وأشـواق عشاق وأسرار بـمـئـزر الـليل أرواح وأبصار فـدونـهـا من وراء السور أسوار شـعـراً وبـاح بسر الشوق قيثار وتـنـشـي بـرحيق الذكر سمار فـي هـدءة الـليل تسبيح وأذكار | وسمار
يمضى الشاعر مكملاً قصيدته التي تبلغ الخمسين أو نحوها من الأبيات وكلها مما يسميه القدامى الديباج الكسرواني، يجد القارئ فيها تلك النسمات الرخية من رياض البحتري وصياغات بدوي الجبل وقدرته على استدعاء جواهر من مفردات اللغة تكون بانتظامها عقداً فريداً لا تملك عقود اللؤلؤ نضارته، فجمع الندي السمح ورخي العشايا والشعر والعشاق والأشواق والسمار والأسرار في بيتين من الشعر منظومة نظماً فريداً في عقد جميل يشعرك بالنسب بين هذه المفردات بمعنى أن كل واحدة تستدعي قرينتها بحيث لو أردت أن تحذف أي مفردة لتضع مكانها سواها لذهبت من العقد نضارته، وأحسب أن القارئ سيشعر من قرأة هذه الأبيات بما تشعره به لمسات النسيم وأنفاس الشجر، أما اختياره لمئزر الليل غطاءاً لحسانه كناية عن التخفي فهو تناول لذلك المعنى من ذوق شاعر مرهف، ولعل ربة العشق والغزل تلك الأموية من سلالة الخلفاء فقد كانت أكثر وضوحاً وربما جرأة من حسان الشاعر وقد سبقهم بأكثر من تسعة قرون عندما كتبت لابن زيدون تقول :
تـرقـب إذا جـن الظلام وبي منك ما لو كان بالنهر ما جرى | زيارتيفـأنـي رأيـت الـليل أكتم وبـالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر | للسر
أما قوله :
إذا مشيت على حصبائها همست شعراً وباح بسر الشوق قيثار
يجعلني لا أخال مدينة أخرى لا تتمنى أن تكون صنعاء ليقال فيها ذلك الغزل أرسله ناسك من محراب عشقه، أما قوله :
ينساب كالبرء في عالمي مآذنها في هدءة الليل تسبيح وأذكار
فهو يستدعي إلى الذهن قول أبي نواس:
وتمشت فى مفاصلهم كما تمشي البرء في السقم
على اختلاف في الغرض والموضوع .
في هذا البيت يلاحظ القارئ أن الشاعر لجأ إلى الإضمار قبل الإظهار، إذ جعل التسبيح و الأذكار فاعلاً للفعل ينساب ولم يجعله منصوباً ولا ضير في ذلك .
وبعد فقد سبق لي أن قلت في حديث لي عن المتنبي أن الأدب العربي خسر مرتين، مرة حين لم يعشق المتنبي عشقاً يملأ عليه أقطار نفسه وترك هذه النفس محبوسة على (أطراف القنا) كما خسر الأدب مرة أخرى إذ لم يتعرض شوقي لصروف وظروف تستثير أحزانه، وظني أنه لو تعرض شاعرنا للواعج العشاق ولوافح الهجر ونسمات الوصال لجاء في ذلك بما يوقظ الغافي من الأشواق، ولعل ذلك يفسر أن ما جاء من شعره متعلقاً بالغزل هو أقرب إلى الصنعة منه إلى اللوعة وإلى المحاكاة منه إلى المعاناة، ومع ذلك يبقى قاسم بن علي الوزير شاعر المعنى المعجب والسبك المطرب الناقد لشعره مشترطاً له لا مشترطاً عليه في مقاصده وغاياته، واعتقادي أنه ظلم عشاق الشعر ومتذوقيه عندما حجب أو حبس عنهم مدة طويلة هذا النبع الرقراق.