هل كان عباس العقاد أديباً
هل كان عباس العقاد أديباً ؟
محمد جلال القصاص
لا أقصد هنا أسلوب الكتابة ، فقد كان عباس العقاد ـ بهذا الاعتبار ـ يحلق عالياً ، فهو ممن مكنهم الله من الكلمة ، وأعتبره من أفضل من خط نثراً . على أن كلماته رغم جمالها وحسن قوامها ثقيلة ذات رائحةٍ كريهة ،وللكلمات المسموعة أو المكتوبة روح ورائحة فتقرأ لهذا ـ أو تسمع ـ فتتخلل الكلمات الأحشاء وتسكن بين الضلوع وتعود إليه مرة بعد مرة لترتوي ، ولا تسمع لمن يجرد العقاد من الأدب فهذا حال كل مبرز في فن من الفنون تجد حوله من يرفعه ومن يدفنه . السؤال : هل كان عباس العقاد أديباً في أطروحاته ، من أهل الأدب ؟!
أبداً .
ومن
يجيب بنعم يستشهد (بمدرسة الديوان) . و (مدرسة الديوان) كانت اندفاعةُ حاقد على
أمير الشعراء أحمد شوقي ما لبثت أن خبت بعدما شفت صدرها من أحمد شوقي مع أنها
أعلنت في بداية عملها ( مدرسة الديوان ) أنها انتفاضة على القديم كله .
وهم كذبة فما تناولوا القديم لا كله ولا جله ولا بعضه . فقد وقفوا بعد شوقي وما
كان شوقي من القديم فقد كان شوقي مجدداً في الشعر . جاء هو والبارودي بعد قرون من
الضعف والرتابة الأدبية فجدد بل أحيا الله بهما الشعر ... أنار شوقي ظلاماً ...
(مدرسة الديوان) كانت نقلاً مباشراً لما عند الأوروبين من مدارس أدبية ، وكان فارسها عبد الرحمن شكري ، وما كادت تبدأ حتى استدار الثلاثة ( شكر والمازني والعقاد ) واشتد صوتهما يقذف بعضهما الآخر بالسرقة ، وعلى الصوت ، واشتد الأمر بين المازني وشكري تحديداً ، ثم توقفت بعد قليل . وكانت امتداداً لما تناثر في كتابات النصارى من أمثال شعر خليل مطران ، ثم أكمل المسيرة في ذات الاتجاه ( النقل عن الغرب ) مدرسة أبوللو ( نسبة لأحد آلهة اليونان ) .!!
انخرط العقاد في السياسة منذ الصغر فقد لازم سعد زغلول ، ودخل البرلمان ، وحبس ، ثم خرج منشقاً على الوفد ، وشارك نفراً من المنشقين وأسسوا حزب ( السعديين ) ـ نسبة لسعد زغلول .
ذهب شباب العقاد في السياسة . بقي في السياسة حتى جاوز الخمسين من عمره ... حتى هزموه .. وتركوه في شرفة بيته يحاول الانتحار تخلصاً من مرارة الهزيمة السياسية .
ثم ركب موجة هادرة كانت تجتاح مصر وقتها ، وهي الكتابة في الإسلام من متأثرين بالثقافة الغربية . كانت مرحلة جديدة في الفكر الإسلامي ، مرحلة إعادة صياغة نظرة الاستشراق للإسلام على لسان مسلمين بدعوى الدفاع عن الدين أو بدعوى صحة ما يقول ( الآخر ) عن الدين ، فكتب طه حسين ، وكتب محمد حسين هيكل ، و(كُتِبت) للحسناء ربيبة القصور أبكار السقاف ، وكَتب كل من كان يكتب يومها . حتى الأعمال الدرامية الإسلامية شاركت فقد كانت أطروحاتها في ذات المضمار تحي القديم متأثرة بنظرة الآخر ... فقد تكلمت عن ( تراثنا العربي ) فجاءت بكثير عزة في أول أعمالها .. يقولون نحي العربية ... وقد كان احياء العربية مقصوداً ، وما درى قومنا يومها ( وقد درينا بعدهم لا فطنة فينا وإنما لانكشاف الأمر ) أن إحياء العربية كان مقصوداً لمزاحمة الصبغة الإسلامية الخالصة ، وللقول بأن الإسلام كان امتداداً للعربية ،أو منبثقاً من مناهج أرضية ، أو ثمة دور لغير الوحي في صياغة الفكرة الإسلامية .. وثمة دور للآخر في صياغة ( التراث الإسلامي ) ، والكلام هنا كثير جدا ومقرف لأبعد درجة يتولى كبره لويس شيخو من النصارى ، وجوزيف قذى ومن نقله عنه من ( المسلمين ) من أمثال خليل عبد الكريم وسيد القمني .
وتستطيع بسهولة أن ترى أنهم جميعاً ـ في هذه الحقبة ـ كتبوا في مواضيع واحدة . تقول ـ ربما ـ أهل الزمان يشغلون بقضية واحدة أو بقضايا متقاربة في الغالب ، وأقول : نعم ، وكانت ـ في هذا الزمان ـ قضايا الآخر حول الفكر الإسلامي .
دخل العقاد في هذه الموجة ولم يأت بجديد ، قرأ الشخصيات الإسلامية بنظارة العبقرية ومن مصادر مشبوهة وقدم فكراً ولم يقدم أدباً . قدم تنظيراً لأفكار ولم يقدم دراسة أدبية كما غيره من الأدباء . فعلم هو أديب ؟؟!!
أنْ
نظم أبياتاً أغلبها ركيك ، مرةً في رثاء النصرانية ( مي زيادة ) ومرة في رثاء صديقه
الكلب (بيجو) وغير ذلك ، وأن تفلت منه بعد مرةً أبياتاً حساناً ؟
إن كل من تعلم العروض ينظم الشعر .وبالممارسة تتفلت منه أبيات حسان ؛ ولكن الشعراء
لهم شأن آخر . ولم يكن منهم واضع علم العروض !!
ولم يترك عباس العقاد السياسة . بل كتب عدة مرات بعد هزيمته المرة في السياسة وتحوله للكتابة في الدين كتابات سياسية أشهرها ترجمته للرئيس الأمريكي ( بنيامين فرنكلين ) ، وكتاباته عن هتلر والألمان ، وكان العقاد يحب المحتل الانجليز جداً ، ويجاهر بذلك ، وغير ذلك فلم يتب الرجل من السياسة .
إن أصدق وصف للعقاد هو أنه كان سياسياً . ووصف الأدب جاءه من أولئك الذين حاولوا تمرير افكاره بيننا .
لستُ هنا للانتقاص من شخص عباس العقاد ، وإنما للقول : بأن الرجل ترك فكراً مغلوطاً وليس أدباً ، وما كان لنا أن نمرر ماتركه عباس العقاد بدعوى : أدب وأديب .
وليس لنا أن نمرر فكرة تغلف بثوب الأدب . فما كان الأدب يوماً للأدب ، بل وسيلة للبيان ، وسيلة لتعاطي قضية من القضايا . وعباس العقاد من أصرح النماذج التي مررت عديد من المفاهيم المغلوطة بدعوى الأدب .