احتفالية باريس بإبراهيم العريض في مئويته 2008

احتفالية باريس بإبراهيم العريض في مئويته 2008

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

سيداتي سادتي.

يسعدني ان اشارك معكم اليوم في هذه الأحتفالية الرائعة احتفاء بمرور ستين عام على تأسيس منظمة اليونسكو. منظمة متميزة قامت للحفاظ على اغلى ما يمتلكه المجتمع البشري : ميراثه وابداعه في الثقافة و الفنون.

 و مثل اليونسكو كان والدي متميزا في علاقته بالثقافة والفنون وابداعه على عدة جبهات .

 من الصعب ان يتحدث المرأ عن حبيب ويحافظ على الحيادية في التقييم. و لكن تقييمي لابراهيم العريض جاء من تطابق آراء من يعرفوه شخصيا و حبهم له. و لعل في تكريم البحرين و المؤسسات الثقافية في الخليج له و لعطائه ما يدعمني في ما أشهد به.

و كان أسعد حدثبن في حياته يوم سلم مسودة الدستور لحاكم البحرين عام 1973 الشيخ عيسى بن سلمان بعد ان ترأس المجلس اتأسيسي رحمهما الله ؛ ويوم بشر بمشروع تحويل منزلنا المتواضع الى معلم ثقافي تحت مسمى بيت ابراهيم العريض للشعر حيث تقام المناسبات الثقافية بانتظام . و انتهز الفرصة لأدعوكم لزيارته عند زيارة البحرين .. وأشكر الشيخة مي الخليفة على اقتراح وتنفيذ هذا المشروع الجليل ضمن المشاريع الأخرى الرائعة التي قامت بها .. وهي التي وقفت روحيا ورياديا وماديا مع كل تميز ابداعي في البحرين في السنوات الأخيرة.

 

كان والدي يقول دائما " أن المبدع شاهد على عصره ".

وتلك المسؤولية؛ مسؤولية الشهادة على واقع العصر كانت تمثل له التزاما غير هين. ما كان يلقي الكلمات و لا يعلن الشهادات جزافا.

و ها أنا أتذكر ذلك وأنا أقف في موقف الشاهد ليس على العصر فقط بل وللأستاذ وللشيخة مي ولحكومة البحرين ومنظمة اليونسكو .

 ولأعد الى البدء:

مع مطلع الربيع في عام 1908 ولد أبي لأبوين عربيين في مدينة بومباي تاجر اللؤلؤ البحريني, الذي استقرت به متطلبات تجارة العائلة في تلك البلاد البعيدة وقد توفيت أمه متأثرة بحمى النفاس, فاحتضنته جارة هندية طيبة. تربي إبراهيم الصغير يتيما في غربة عاطفية ولغوية وجغرافية تبلورت إلى شعور محتدم بالغربة الحضارية. و كان الصغير متوقد الذكاء و موهوبا في التعبير وقد استطاع أن يدجن اللغات ويخضعها لفنه ولكنه ظل يعاني من شعوره باليتم والغربة المعنوية مدى حياته العامرة.

تعلم الصبي في مدرسة " أنجمن إسلام" الإسلامية الخاصة حيث كان يتعلم أبناء الطبقة القادرة من الجالية المسلمة وكان متفوقا في دراسته موهوبا في الفن والاستعداد العلمي و الأدبي و ظل مشغوفا بمتابعة العلم. في البدء كان ميله الفطري للرسم كما عشق القراءة و أغرم بالرياضيات و أتقن الإنجليزية والفارسية والأردية, إلى جانب عدد من اللغات الهندية المحلية الأخرى, ومن بدأ اهتمامه يتركز في جانب ممارسة الكتابة الأدبية.

أما اللغة العربية فلم يعرفها إلا حين زار وطنه البحرين وهو في الرابعة عشر من عمره, و حين عاد نهائيا عام 1926 بعد التخرج من الثانوية اتخذ قراره بدراسة لغته الأم بصورة جادة و سرعان ما أتقنها لحد نظم الشعر بها .

وربما كان من آثار حياته دون ضغوط عائلية في مطلع حياته في الهند أنه اعتاد اتخاذ قراراته المصيرية بنفسه, وأنه يتمتع بمرونة ذهنية و فكرية. ولم يكن قابلا للقولبة مما جعل شخصيته تتسم بالاستقلالية, وميله الطبيعي في اتخاذ قرارته في حياته الخاصة و العامة كان دائما للعودة إلى قناعاته الذاتية لا إلى سلطة خارجية تملي عليه تصرفاته. ولذلك كان رائدا بالسليقة يشق الطريق التي يعبرها بعده الآخرون بسهولة .

ولا أشك من محاوراتي المتعددة معه حول مرحلة طفولته وصباه الأول في الهند أنها كانت مرحلة ذات أثر جوهري في نشأته و انفتاح أفقه.

و لم تكن اللغة هي الصعوبة الأكبر في استقرار والدي بالبحرين بل كانت النقلة من أجواء الهند المتحضرة نسبيا إلى أجواء الخليج البسيطة نقلة حضارية ضاغطة المتطلبات على اليافع العائد إلى أحضان أسرة لا يعرفها إلا عن بعد ومجتمع لم يعتد أعرافه ومتقبلاته. وكأنما أيقظت هذه النقلة الحضارية حسا مبكرا بالنضج والمسؤولية الاجتماعية.

و كانت أول قناعة توصل إليها أن هذا الوطن الجديد يفتقد الكثير مما يتوفر للفرد في بلاد الله الأخرى.

وكان أول ما قرره أن وطنه الجديد بحاجة إلى تعليم

التعليم

كان أول قرار اتخذه أن يحمل على عاتقه مسؤولية إنشاء مدرسة حديثة يلبي أكثر من حاجة ماسة, ويجذّر وشائج الفنان القادم غريبا بتربة وطن أجداده.

وقتها لم يكن هناك في الخليج أية مدرسة غير الكتاتيب المحلية لتعليم القرآن. ولم يكن تأسيس مدرسة مشروعا سهلا في مواجهة صعوبات وعقبات متعددة لم يكن أقلها عدم توفر السيولة المالية المطلوبة. هذه وجد حلا لها في الدعم المادي من تبرعات بعض القادرين من أولياء أمور الطلاب الذين اقتنعوا بأهمية مشروعه و كما وجد الدعم المعنوي في المتطوعين المتعاونين معه من فئة المتعلمين من الجاليات العربية الأخرى سوريين وعراقيين. أما العقبات الأصعب فكانت تجاوز رفض المجتمع للتغيير ليتقبل إرسال أبنائه ليتعلموا من الأمور ما لم يكونوا يرونه ذا أهمية في حياتهم.

كانت مدرسة متطورة الرؤية و المناهج لم تدم طويلا و لكنها دامت بما يكفي لأن تعطي نتاجها الطيب وتقنع المجتمع بتغيير موقفه من التعليم الحديث حيث تخرج منها العديد من أبناء أعيان البحرين والمقيمين فيها من أبناء الجيرة الخليجية وقادة نهضتها الاقتصادية مستقبلا.

 و حتى حين ترك والدي مجال التعليم ليلتحق بوظيفة تؤمن متطلبات عائلته النامية , ظل مؤمنا بأهمية المدارس و التعليم في كل خطوة من حياته.

الشاعر الذي آمن بحقوق الجميع

من المهم لفهم ظاهرة "ابراهيم العريّض" أن نراه ضمن إطاره الزمني و المكاني. و هو إطار شديد الانحصار جغرافيا في جزيرة محدودة المساحة وشديد الانحصار حضاريا في اقتصاديات عالم البحر من صيد و غوص.

لم يكن ابراهيم العريض حين عاد صبيا يافعا إلى البحرين مصلحا اجتماعيا بوعي كامل ولا كان أيضا مغامرا طموحا يطلب الظهور الشخصي بأية طريقة.

كان مجرد إنسان صادق تتوقد جذوة الفن في أعماقه و يؤمن أن هناك عالما أفضل يمكن الوصول إليه متى ما أصبحت المثاليات هي ما يؤمن به و يتمسك به الجميع.

و كان يحترم انسانية الإنسان و هي ما يؤهل ذلك الفرد لأن يستحق حياة أفضل مبنية على المعرفة و الإدراك.و لذلك جاهد ضد الممارسات المتعارف عليها و المتقبلة اجتماعيا في ذلك الإطار الضيق ليكسر طوق الجهل الذي يبقي الفرد في قبضة الواقع الضاغط .

 لم يكن خروج الوالد عن متقبلات المجتمع تمردا لمجرد إعلان التمرد وإبراز الاختلاف بل كان يرى أن تلك المعتقدات ضرورية للرقي العام و التطور.

هكذا كان والدي عاملا مهما في إدخال التطور والتغير الاجتماعي في النظرة العامة للتعليم الحديث, بحيث حمله خارج نطاق التعليم الديني إلى حيث هو شامل لكل المهارات بما في ذلك العلوم و الفنون وكل ما يتعلق بشمولية ارتباط احتياجات الإنسان لكل ما يتطلبه وجوده المعقد جسدا وعقلا و روحا.

و مثلما كان له تأثيره في تغيير النظرة المجتمعية بالنسبة للتعليم كان له دور كبير في تغيير النظرة المجتمعية للمرأة و دورها ومساهمتها في المجتمع بصورة خاصة.

و كان له دوره الريادي في عدم الخضوع للضغوط المرسخة للفروق بين الفئات الاجتماعية والمذهبية حين جعل المواطنة تحتم الانتماء إلى وطن هو نفسه جزء من أمة , و ليس الى فئة بعينها من المواطنين. رؤية غير معتادة في تلك البدايات القبلية أن يكون الانتماء إلى أمة شاسعة الآفاق و المنجزات.

و لأنه كان مخلصا فقد بدأ بنفسه و الأقربين. عودنا والدي تقبل التعددية في هذا الوجود والبحث عن المشترك الإنساني الذي يجمعنا و الآخرين بدلا من الاختلاف الذي يفصلنا في فئة مكتفية بخصوصيتها ورافضة لحقوق الآخرين في التعبير. وعلمنا تقبل اختلافات الذائقة وتذوق فنون الآخرين وخصوصيتهم .

 كان رجلا واسع الأفق . لم يؤمن بالانتماء الضيق سياسيا في حدود قطرية ولكنه آمن بضرورة المواطنة الواعية والالتزام بالقانون الساري لحفظ النظام. آمن بالانتماء الأوسع, بالقومية العربية الواعية وليس بالأحزاب الضيقة المفهوم سياسيا فقط : وبالحضارة الإسلامية بكل جوانبها الفنية والأدبية و افتخر بها و بتميز منجزاتها في إطار الحضارة العالمية المستمرة. واستطاع أن يمتاح من خلفيته التاريخية ويستمد روافد محيط إبداعه من حركة التاريخ العربي و الإسلامي في الأندلس وفلسطين و آسيا و الشرق.

حتى في علاقاته الثقافية و الشخصية كان أوسع مجالا من انحصار المحيط الخاص. ظل يحارب الغربة و يردم الفجوة بين الناس ويرفض مبدأ الأسوار التي تقيمها المبادئ الفئوية.

 و كان رفضه إيجابيا يقوم على البناء لا الهدم و استطاع أن يطوع شعوره بالغربة ليؤسس للقادمين من المواطنين والمبدعين رجالا و نساء وطنا يتقبل الجميع .

الدعاء الأخير

لا يجد من عرفوا والدي صعوبة في الحديث عنه.

 أما أنا فأجد في ذلك صعوبات جمة حيث لي مع والدي علاقة أخرى متداخلة الجوانب والروافد تستعصي على التبسيط والاختزال.

 في البدء كانت علاقة عفوية تلقائية لا تختلف كثيرا عن علاقة أي وليدة بوالدها ثم تنامت الوشائج مع مسيرة العمر وتداخل منعطفات التجربة إلى علاقة فردية تجمع اثنين بينهما تكامل الجذر بالفرع ماديا وذهنيا وعاطفيا.

عبرت معه مرحلة الأسئلة الطفولية تلاحق بها طفلة تفتقد المعرفة أباها الذي تراه عالما بكل شيء , إلى مرحلة اختزاله للإجابات في اقتراح مصادر المعرفة وعلى الصبية أن تبحث عنها بنفسها, حتى مرحلة الحوار شبه المتكافئ بين اثنين متفقين على ضرورة البحث عن حقائق الأمور وأبعادها المتداخلة .

ثم .. في المرحلة الأخيرة في زياراتي له كانت حواراتنا تحمل تناولات أدبية وانفعالات وعنفوانا فكريا وأبعادا تاريخية وقومية تبدو في سرعة حركتها وشموليتها متناقضة جدا مع واقع انحصار حركته الجسدية في كرسي بين جدران البيت المتواضع. ومع ترامي آفاق تفاعلاته الذهنية السريعة بين مخزون ذاكرته الشاسعة ونظرته المستقبلية البعيدة المدى كان تقبُّل فكرة أنه ماضٍ حتما إلى غياب لابد منه, فكرة متعبة جدا , مرة الطعم و صعبة الابتلاع.

وبعد انتقاله إلى بارئه كان من الصعب بالنسبة لي شخصيا تقبل فكرة غيابه كحقيقة لا يمكن نقضها.

ووجدتني, في حرقة توجعي عاجزة عن التعبير.

 القليل الذي استطعت كتابته وقتها جاء بصورة قصيدة قصيرة من وحي آخر حوار لي معه سميتها " الدعاء الأخير". ربما جاءت تسجيلا لموقفه ومشاعره في آخر أيامه أكثر مما هي تعبير عن مشاعري الخاصة التي كانت أشد شجنا من أن أستطيع تسجيلها في كلمات.

الآن بعد أن تهادنت مع فكرة غيابه أدرك أن حزننا على فراق الأحبة هو في النهاية تعبير عن أنانيتنا وحبنا لأنفسنا إذ نود الاحتفاظ بهم أبداً رغم علمنا بأن ذلك مستحيل.

 الدعاء الأخير

قلتَ لي – إذ تمنيتُ أن يطولَ بك العمر-:

" لا يا ابنتي ..

سوى أنه أجل بقضاء من الله

لا رغبة أن أؤجل يوميَ عن موعدٍ مسبقٍ

و انتظرُ الارتحالَ الأخير إلى رحمةٍ و فضاء

***

قلتَ لي يومَها:

" أمَّتي وجعي يا ابنتي

قارب العمر قرناً و ما

شارفت أمّتي وعدَها,

دربُها انحدارٌ عن العنفوان

و لا أملٌ واعدٌ بارتقاء

و ينعقد الدرب حتى ثمالة علمي به

و حلمي يرتدُّ في الحلق لا يتحقق نصرٌ ولا أمّتي

تتوضَّح رؤيتها تستعيد الرجاء ".

***

قلتَ لي:

" يا ابنتي سأموتُ و قلبي منفطرٌ

يحاصرني الاحتشاد بأحزانها

و ما زلتُ في حسرتي

أمّتي تتناوبُها صفعات الرياح

حاصرت أفقَها الرازحاتُ ولم نستوِ بعد

كل الصفوف فلولٌ

و غضبتُنا خارجَ الاحتواء".

***

قلتَ لي:

" هو دربٌ يسير إلى حتمهِ

لا يعود إلى بدئه الغضّ

لا يترفق بالواقفين,

لا يتسامح و الغائبين عن الوعي,

لا خيارَ لمن يكتفي باختيار الوراء"

***

قلتَ لي: " قد تعبتُ

من الوقفة المستديمة عند الكلام الأخير

و لا شيء بين السطور واعدٌ بانجلاء.

***

يتساوى هنا وجع الليل أو وجعٌ في النهار

لا جسدٌ يتحامل كي يتجمّل

و لا الروح راضية بالبقاء

فادعِ لي يا ابنتي ألا أطيل المكوث هنا

-         دار حزنٍ طويل-

أن أعود إلى رحمة الله حين يشاء".

***

قلتَ لي يا أبي

و ها أنا افتقد الصوت إذ أستعيد الدعاء

إلى رحمة الله يا أبتي ودار البقاء

الحمد لله على كل شيء ..

 لقد عاش الوالد عمرا طويلا حافلا بالعطاء. وكان خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة يكرر: " إنه الفصل الأخير يا ابنتي " وكأني به قد ضاق ذرعا بطول امتداد "الفصل الأخير" هذا, وما حمل معه من معاناة فردية و قومية عامة.

 هذا الفصل الأخير كان شاقا جدا على الوالد رحمه الله جسديا و معنويا و ربما كانت المعاناة المعنوية أشد عليه من المشقة الجسدية التي تحملها مرحلة تقدم السن. ولا كان الوالد من أولئك الأفراد القصيري حبل التحمل الذين يعلنون شكواهم بأعلى الأصوات أو يطلبون التعاطف من كل من يحيط بهم, فقد ظل حتى النهاية شديد التجمل ومحافظا على صورة "الأستاذ" المتمالك لكل انفعالاته حتى في وجود المعاناة.

وما كان يخفف من تلك المعاناة إلا تكاثف محبيه حوله وبقاء تواصلهم معه مستمرا في زياراتهم ومهاتفاتهم .

والحقيقة أن ضيق والدي بواقعه الخاص وواقع الأمة العام كان ألما مزدوجا, فهو في أيامه الأخيرة افتقد قدرة الحركة الجسدية بحرية, ولكنه ظل متقد الذهن متابعا لتطورات أحداث العالم العربي والإسلامي وانعكاسات تلك الأحداث وتأزماتها في أصقاع الأرض, خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر وما جنت على أبناء الأمة من استعداء وتضييق خناق. ضاق ذرعا بالواقعين المتدهورين , واقعه, وواقع الأمة التي أحبها ولم يكن هناك في الأفق الزمني القريب ما يتطلع إليه .. سوى رحمة الله.