تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 48

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 48

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "رَسائِلُ الْجاحِظِ"]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قَدْ يَكونُ الرَّجُلُ يُحْسِنُ الصِّنْفَ وَالصِّنْفَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ ، فَيَظُنُّ بِنَفْسِه عِنْدَ ذلِكَ أَنَّه لا يَحْمِلُ عَقْلَه عَلى شَيْءٍ إِلّا نَفَذَ بِه فيهِ ، كَالَّذِي اعْتَرَى الْخَليلَ بْنَ أَحْمَدَ بَعْدَ إِحْسانِه فِي النَّحْوِ وَالْعَروضِ ، أَنِ ادَّعَى الْعِلْمَ بِالْكَلامِ وَبِأَوْزانِ الْأَغاني ، فَخَرَجَ مِنَ الْجَهْلِ إِلى مِقْدارٍ لا يَبْلُغُه أَحَدٌ إِلّا بِخِذْلانِ اللّهِ - تَعالى ! - فَلا حَرَمَنَا اللّهُ - تَعالى ! - عِصْمَتَه ، وَلَا ابْتَلانا بِخِذْلانِه !

عجبا لك أي عجب !

لو كان الخليل مغرورا لم يهمل أفكاره ويدعها لتلامذته يأكلون بها الأموال ويعش في خص تتقاذفه الأرياح !

ثم أما الكلام فلم أعرف له فيه كتابا !

ثمت أما الإيقاع فله فيه كتاب لم يبلغنا نحن - وإن عرفه أهل زمانه - ومنهم أنت الذي أثنيت عليه فيما بعد ثناء سنيا !

ثمت أما الاجتراء على العلوم بما تيسر من التحقق بغيرها ، فعمل مقبول ؛ إذ هي متناهية إلى أصول متآخية متداخلة .

ثمت كيف يستقيم هذا الكلام واصطناعك من قبل الكتب المختلفة نسبتها إلى الخليل شَهْرًا وتَنْفيقًا !

هذا - لا ريب - كلام مدعى عليك !

دَرِّسْهُ الْعِلْمَ ما كانَ فارِغًا مِنْ أَشْغالِ الرِّجالِ وَمَطالِبِ ذَوِي الْهِمَمِ ! وَاحْتَلْ في أَنْ تَكونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أُمِّه ! وَلا تَسْتَطيعُ أَنْ يَمْحَضَكَ الْمِقَةَ وَيُصْفي لَكَ الْمَوَدَّةَ مَعَ كَراهَتِه لِما تَحْمِلُ إِلَيْهِ مِنْ ثِقَلِ التَّأْديبِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حالَ الْعارِفِ بِفَضْلِه ؛ فَاسْتَخْرِجْ مَكْنونَ مَحَبَّتِه بِبِرِّ اللِّسانِ وَبَذْلِ الْمالِ ، وَلِهذا مِقْدارٌ مَنْ جازَه أَفْرَطَ وَالْإِفْراطُ سَرَفٌ ، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَرَّطَ وَالْمُفَرِّطُ مِضْياعٌ !

إنه لمنهج ، وهو قريبٌ منه ما وضعته وسلكته من قبل أن أفرح بكلام أبي عثمان هذا !

أَنْتَ - يا عَمِّ - حينَ تُصْلِحُ ما أَفْسَدَهُ الدَّهْرُ وَتَسْتَرْجِعُ ما أَخَذَتْهُ الْأَيّامُ ، لَكَما قالَ الشّاعِرُ :

عَجوزٌ تُرَجّي أَنْ تَكونَ فَتيَّةً وَقَدْ لَحِبَ الْجَنْبانِ وَاحْدَوْدَبَ الظَّهْر

تَدُسُّ إِلَى الْعَطّارِ سِلْعَةَ أَهْلِها وَلَنْ يُصْلِحَ الْعَطّارُ ما أَفْسَدَ الدَّهْر !

حفظته عن أمالي ابن دريد :

" عَجوزٌ تَشَهّى أَنْ تَكونَ فَتيَّةً وَقَدْ يَبِسَ الْجَنْبانِ وَاحْدَوْدَبَ الظَّهْر

تَروحُ إِلَى الْعَطّارِ تَبْغي شَبابَها وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطّارُ ما أَفْسَدَ الدَّهْر

وَما غَرَّني إِلّا خِضابٌ بِكَفِّها وَكُحْلٌ بِعَيْنَيْها وَأَثْوابُهَا الصُّفْر

بَنَيْتُ بِها قَبْلَ الْمَُحاقِ بِلَيْلَةٍ فَصارَ مَُحاقًا كُلَّه ذلِكَ الشَّهْر " !

كَيْفَ يَرْجو خَيْرَكَ مَنْ رَآكَ تُطاوِلُ أَبا جَعْفَرٍ وَتُحاسِنُه وَتُنافِرُه وَتُراهِنُه ، ثُمَّ لا تَفْعَلُ ذلِكَ إِلّا فِي الْمَحافِلِ الْعِظامِ ، وَبِحَضْرَةِ كِبارِ الْحُكّامِ ، ثُمَّ تَسْتَغْرِبُ ضَحِكًا مِنْ طَمَعِه فيكَ ، وَتُعَجِّبُ النّاسَ مِنْ مُجاراتِه لَكَ ! وَأَشْهَدُ لَكَ بَعْدَ هذا أَنَّكَ سَتُحاسِنُ عَمْرًا الْجاحِظَ وَتُعاقِلُه ثُمَّ تُظارِفُه وَتُطاوِلُه ، وَتَتَغَنّى مَعَ مُخارِقٍ ، وَتُنْكِرُ فَضْلَ زَبْزَبَ ، وَتَسْتَجْهِلُ النَّظّامَ ، وَتَسْتَغْبي قَيْسَ بْنَ زُهَيْرٍ ، وَتَسْتَخِفُّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ ، وَتُبارِزُ عَليَّ بْنَ أَبي طالِبٍ ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْغَلَبَةِ إِلى حَدِّ الْمِراءِ ، وَمِنْ حَدِّ الْأَحْياءِ إِلى حُدودِ الْمَوْتى ! هذا وَلَيْسَ لَكَ مُساعِدٌ ، وَلا مَعَكَ شاهِدٌ واحِدٌ ! وَلا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقِفُ فِي الْحُكْمِ عَلَيْكَ أَوْ يَنْتَظِرُ تَحْقيقَ دَعْواكَ ! وَلا رَأَيْتُ مُنْكِرًا يُخْليكَ مِنَ التَّأْنيبِ وَلا مُؤَنِّبًا يُخْليكَ مِنَ الْوَعيدِ وَلا موعِدًا يُخْليكَ مِنَ الْإيقاعِ وَلا موقِعًا يَرْثي لَكَ وَلا شافِعًا يَشْفَعُ فيكَ !

تأمل كيف أدخل الجاحظ نفسه في البين ، معرفة وثقة !

ولو لم يعرف نفسه لم يعرف غيره !

لَيْسَ دُعائي لَكَ بِطولِ الْبَقاءِ لِلزِّيادَةِ ، لكِنْ عَلى جِهَةِ التَّعَبُّدِ وَالِاسْتِكانَةِ ؛ فَإِذا سَمِعْتَني أَقولُ : أَطالَ اللّهُ بَقاءَكَ ، فَهذَا الْمَعْنى أُريدُ ، وَإِذا رَأَيْتَني أَقولُ : لا أَخْلَى اللّهُ مَكانَكَ ، فَإِلى هذَا الْمَعْنى أَذْهَبُ !

ذكرت بهذه الكلمة ، كلمة بعض أدبائنا في بعض مخالفيه من الغابرين : " رَحِمَهُ اللّهُ ، أَوْ فَعَلَ بِه ما شاءَ " !

هَلْ يَضيرُ الْقَمَرَ نُباحُ الْكَلْبِ ، أَوْ هَلْ يُزَعْزِعُ النَّخْلَةَ سُقوطُ الْبَعوضَةِ !

أول الكلمة من مثلهم : " هَلْ يَضُرُّ السَّحابَ نُباحُ الْكِلابِ " ! وآخرها من تكذيبهم : " هبطت بعوضة على نخلة ، ثم لما همت أن تطير قالت لها : استمسكي ، فسأطير عنك ! قالت النخلة : وهل شعرت بهبوطك علي ، حتى أشعر بطيرانك عني " !

إِيّاكَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِجَريرٍ إِذا هَجا ، وَلِلْفَرَزْدَقِ إِذا فَخَرَ ، وَلِهَرْثَمَةَ إِذا أَدْبَرَ ، وَلِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ إِذا مَكَرَ ، وَلِلْأَغْلَبِ إِذا مَكَرَ ، وَلِطاهِرٍ إِذا صالَ ! وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَه عَرَفَ قَدْرَ خَصْمِه ، وَمَنْ جَهِلَ قَدْرَه لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ غَيْرِه !

سبحان الله !

كأنني تكلمت بلسانك ، من قبل أن أقرأ ببيانك !

الْخَطَأُ ثَلاثٌ : خَطَأُ الْحِسِّ ، وَخَطَأُ الْوَهْمِ ، وَخَطَأُ الرَّأْيِ . كُلُّ ذلِكَ سَبيلُهُ التَّنْبيهُ أَوِ التَّذْكيرُ وَالتَّقْويمُ وَالتَّأْنيبُ . وَالْعَمْدُ نَوْعٌ واحِدٌ وَسَبيلُهُ الْقَمْعُ وَالْحَظْرُ وَالضَّرْبُ وَالْقَتْلُ .

وإنما كان العمد نوعا واحدا ، من اجتماع الثلاثة الأخطاء فيه على قلب خطأ واحد متعمَّد ؛ فحين يتعمد الخطأ متعمِّد ، يشترك في هذا التعمد حسه ووهمه ورأيه جميعا ؛ فمن ثم يُسْتَعْظَمُ جُرْمُه !

الْعَقْلُ - حَفِظَكَ اللّهُ ! - أَطْوَلُ رَقْدَةً مِنَ الْعَيْنِ ، وَأَحْوَجُ إِلَى الشَّحْذِ مِنَ السَّيْفِ ، وَأَفْقَرُ إِلَى التَّعاهُدِ ، وَأَسْرَعُ إِلَى التَّغَيُّرِ ، وَأَدْواؤُه أَقْتَلُ ، وَأَطِبّاؤُه أَقَلُّ ! فَمَنْ تَدارَكَه قَبْلَ التَّفاقُمِ أَدْرَكَ أَكْثَرَ حاجَتِه ، وَمَنْ رامَه بَعْدَ التَّفاقُمِ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ حاجَتِه .

هذا الذي يحاوله الآن أصحاب البرمجة اللغوية العصبية ، مؤمنين بأننا لا نكاد نستعمل من طاقة عقولنا أكثر من خمسها ! فنحن بأربعة أخماسها إذن في نوم طويل !

مِنْ أَكْبَرِ أَسْبابِ الْعِلْمِ كَثْرَةُ الْخَواطِرِ ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ وُجوهِ الْمَطالِبِ . ثُمَّ فِي الْخَواطِرِ الْغَثُّ وَالسَّمينُ ، وَالْفاسِدُ وَالصَّحيحُ ، وَالْمُسْرِعُ إِلَيْكَ وَالْبَطيءُ عَنْكَ ، وَالدَّقيقُ الَّذي لا يَكادُ يُفْهَمُ ، وَالْجَليلُ الَّذي لا يَلْقَى الْفَهْمَ . ثُمَّ هِيَ عَلى طَبَقاتِها فِي التَّقْديمِ وَالتَّأْخيرِ ، وَعَلى مَنازِلِها فِي التَّبايُنِ وَالتَّمْييزِ .

الله الله الله !

رحمك الله !

أيَّ نِقابٍ كُنْتَ !

إنني لجَذِل بتنازع الخواطر ، والبِدَع التي يأتي بها ؛ فلا يكاد يَسْلَم عليها منهج تالد ، ولا يَمْتَنِع منها منهج طارف !

مِنْ أَنْفَعِ أَسْبابِهِ ( العلم ) الْحِفْظُ لِما قَدْ حُصِّلَ ، وَالتَّقْييدُ لِما وَرَدَ ، وَالِانْتِظارُ لِما لَمْ يَرِدْ ، وَأَلّا تُخْلِيَ نَفْسَكَ مِنَ الْفِكْرَةِ إِلّا بِقَدْرِ جَمامِ الطَّبيعَةِ ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنْ مَكانَ الدَّرْسِ مِنَ الْحِفْظِ كَمَكانِ الْحِفْظِ مِنَ الْعِلْمِ ، وَأَنْ تَعْرِفَ فَصْلَ ما بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلْمُنافَسَةِ وَالشُّهْرَةِ وَبَيْنَ طَلَبِه لِلرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، وَتَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ لا يَجودُ بِمَكْنونِه وَلا يَسْمَحُ بِسِرِّه وَمَخْزونِه إِلّا لِمَنْ رَغِبَ فيهِ لِكَرَمِ عُنْصُرِه وَفَضَّلَه لِحَقيقَةِ جَوْهَرِه وَرَفَعَه عَنِ التَّكَسُّبِ وَصانَه عَنِ التَّبَذُّلِ ، وَأَنَّه لا يُعْطيكَ خالِصَ الْحِكْمَةِ حَتّى تُعْطِيَه خالِصَ الْمَحَبَّةِ ؛ كانَ يُقالُ : مَنْ شابَ شيبَ لَه !

كنا نرى أن الحفظ ثلاثة : حفظُ ظاهرٍ ، وأنه التقليد - وحفظُ باطنٍ ، وأنه الفهم - وحفظُ ظاهرٍ وباطنٍ ، وأنه الاستيعاب . ونصدق ابن المبارك في كلمته : " طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيا ، فَأَبى أَنْ يَكونَ إِلّا لِلّهِ " !

خَصْلَةٌ يَنْبَغي أَنْ تَعْرِفَها وَتَقِفَ عِنْدَها ، وَهُوَ أَنْ تَبْدَأَ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُهِمِّ ، وَتَخْتارَ مِنْ صُنوفِه ما أَنْتَ أَنْشَطُ لَه وَالطَّبيعَةُ بِه أَعْنى ؛ فَإِنَّ الْقَبولَ عَلى قَدْرِ النَّشاطِ ، وَالْبُلوغَ فيهِ عَلى قَدْرِ الْعِنايَةِ .

ينبغي أن يقسم طالب العلم مطلوباته على ثلاثة أقسام : صعبة ، وسهلة ، ووسط - وأوقاته على ثلاثة أقسام كذلك : قوي ، وضعيف ، ووسط - ويجعل المطلوب الصعب في الوقت القوي ، والسهل في الضعيف ، والووسط في الوسط .

الْكَيْسُ كُلُّ الْكَيْسِ وَالْحِذْقُ كُلُّ الْحِذْقِ أَلّا تَعْجَلَ وَلا تُبْطِئَ ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ السُّرْعَةَ غَيْرُ الْعَجَلَةِ ، وَأَنَّ الْأَناةَ خِلافُ الْإِبْطاءِ ، وَأَنْ تَكونَ عَلى يَقينٍ مِنْ دَرْكِ الْحَقِّ إِذا وَفَّيْتَه شَرْطَه ، وَعَلى ثِقَةٍ مِنْ ثَوابِ النَّظَرِ إِذا أَعْطَيْتَه حَقَّه .

لم يكن أبو عثمان ليقدر على شيء من تشقيق هذه الأفكار الجليلة ، لولا قدرته في الوقت نفسه على تشقيق موادها اللغوية !