من أنباء القرى لجمال الصليعي

"من أنباء القرى" لجمال الصليعي

فوزي الديماسي – كاتب من تونس

[email protected]

للغة النفخة الأولى ، و للماء سحر التكوين ، صلب الوجود من الكلمة قدّ ، و ترائبه من الماء نحتت ، ومن بين متاخمة الحرف للقطرة على أديم المودّة و السكينة يبزغ الوجود خلقا سويّا ربّما … أو لعله ينبجس ثوبا نقيّا … أو شبّه لنا ... ربّما ، تلك هي نواميس الطوفان ، و كذا طقوس الكلمة ، فالخلق .
سليل الكلمة ، و في رحمها كان ، و بها يكون الكون و الكينونة و الكائن و الكيان ، فكل شيء كان خلقا لغويّا من قبل أن يكتسب كنهه و ماهيته . فباللغة أقيم عمد الديوان ، وهي طريقه الملكيّ إلى كهوفه وقيعانه ، ولقد مثّل بيت المتنبّي " ولكن للفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان " فاتحة القول وعتبته ، ولخّص مناخات الكتابة التي تجاذبها على امتداد القصائد قطبان ( الماء / اللغة ) ،  ليحيل بذلك على عوالم تلبّست بالرمز لتكشف عن الوجه السريّ لفعل القول ومستنداته في ديوان " من أنباء القرى "  لجمال الصليعي . الماء هو سبب الحياة ،وباعثها ، وبه تحيا الأرض الموات من بعد جدبها ، واللغة هي مخزن الوجود ، وبداياته الأولى ، فباللغة خرج الإنسان من طور العدم بكلمة " كن " إلى حيّز الوجود ، والماء واللغة في الديوان وجهان لعملة واحدة ، فهما سرّ الوجود وسببه ، وصورة الإنسان المنشود وصفته ، هذا الإنسان الذي أخبر عن غربة وجهه ويده ولسانه  المتنبّي في بيته آنف الذكر ، والديوان على خطى الأوّلين يسير ، أولئك الذين عانقوا الرحلة واعتنقوا الترحال بحثا عن الماء والكلأ والقول القويم ، واختزلوا حياتهم في ( الماء / اللغة ) ، أليس الشعر ديوان العرب  حيث عقدت له المجالس والأسواق والنوادي ؟ أليس الماء صنو الحياة وقادح ترحال القبائل وسببه ؟  أليس المتنبّي عنوان فتوّة ورمز رحيل ؟ كلّ هذه الصفات مجتمعة مثّلت أثافي الديوان ، ولخّصت فنّ القول فيه ، وكشفت عن مصادره ، فكانت القصائد رحلة في بداوة اللغة ، ومحدّثة عن غربة الشاعر في بني جلدته ، على مذهب المتنبّي ، إذ فقدت وجوه القوم ملامحها ، وفارقت الأيادي الحسام والفتكة البكر ، وأصيب اللسان منهم بالعيّ ، وغلبت عليه العجمة ، لذلك كان التوسّل بالماء الذي بدّل الله به من بعد الطوفان قوم نوح أقواما أخرى ، لعلّ الزمان يجود بأقوام تعدّ الهنا والآن من قبيل الرجم بالغيب ، وضرب من الخيال المحموم ، حيث يقول الشاعر من قصيدته " من أنباء القرى " :   

كنّا ...

والصحراء هنا

كنّا نعرف وعد الماء

هيّأنا الألواح له

حضرت قبل الماء سفينتنا

ضحك الغرقى

سخروا  ملء الصحراء

جاء الماء

ويهيئ القول راحلته وأسباب رحيله ، ليضرب في شعاب اللغة ، وقفارها ، بحثا عن لغة غير لغته ، لعلّه يجد لغة يرتضيها له لغة ، إنّه كوجيتو شعريّ قوامه اللغة ، فهي الوسيلة ، والمنطلق ، والمنتهى  ، لغة جبلت على الرّحيل بحثا عن الأصيل ، تتوسّل بالماء / الطوفان  لتمخر عباب الذاكرة القرائيّة والتراث على متن فلك التّناص ، والتضمين ، لتنحت لها فيما بعد مدائن تسكن إليها بعد طول رحيل  كما جاء على لسان الشاعر من قصيدته " لغة القبائل " :

ملنا إلى لغة القبائل بعدما خبت اللغات

لغة بعرض الروح

أرحب من خراب الوهم

دلّتنا على بيت ببادية الكلام ...

هناك ...

خلف مدائن العرب الأواخر

خلف ما زرعوا من الأسباب

كي يتنكّروا لوجوهنا

لم نرتكب لغة تضاجعها اللغات

وتنحني بخوائها للعابرين

لغة سمتها الترحال ، وصفتها التسآل ، مضطربة في لجج البحث ، يحرّكها سؤال مركزيّ جاء في شكل جمل فعليّة قصيرة وبسيطة تحكي حجم الحيرة وتحاكيها ، وتصوّر حركة الشاعر وتحرّكه في فضاء اللغة / الشاعر ( أبحث عن خلق يجدر بالخلق /  أسأل كيف انقرض الإنسان ؟ / أبحث عن ريحان الخلق الأوّل / عن عبق الفطرة )  أسئلة وحركة وفعال ... صخب هو النصّ في جوهره ، مزدحم بالأسئلة ، لا يكاد يستقرّ على حال كأنّه البحر في اضطرابه ، ديدنه بلوغ  صورة رسمها باللغة في الخيال للإنسان ، ولقد أدخلت كثافة الجمل الفعليّة على النصّ ضجّة وضجيجا ، وصوتا باعثا للحياة في الأنام النّيام ، وتراوح الأفعال مكانها بين أزمنة ثلاثة ( حاضر ومستقبل وماض ) في حركة عود على بدء ، لعبة الوجه والقفا ، مسرحها لغة تنشد عذريّتها وصفاءها وفحولتها وتوهّجها على مذهب النخلة كما جاء على لسان الشاعر من قصيدته الموسومة بعنوان "وشاح  " :

نهيئ من  خفقة الروح تعويذة للبلاد

نجمّع أسماءنا

ثمّ نقرؤها في صفحة من كتاب مجيد

على نخلة طاولتها الرياح

وحاولها الليل

وانصرفوا متعبين

فمدّت إلى النجم عرجونها

سحبت من بهائه وشاحا

أضاءت به صوتنا

ثمّ مرّت بكلّ بكلّ وقار

لتشمخ في جذعنا