قراءة في مجموعة الشاعر "علي الامارة"
حواء تعد أضلاع أدم
قراءة في مجموعة الشاعر "علي الامارة"
عبد الزهرة لازم شباري
تتجلى الصور الشعرية عند الشاعر (علي الإمارة) في نصوصه هذه ،من مجموعته (( حواء تعد أضلاع آدم ))المتكونة من ستة عشر نصاً بتشكيلات درامية ، من الأنساق التي تنطوي على الحياة الاجتماعية اليومية التي يحياها المرء ، في هذا المجتمع الصاخب ، والمليء بالمعوقات الحياتية والحروب الدامية التي شّلت إلى حد ما مقومات الإنسان الطبيعية ، وجعلته يلجأ إلى الغربة من جهة ، والعيش في جو من التوتر والانقباض من الجهة الأخرى، وفي كلتا الحالتين تغرقِ القصيدة ومفرداتها في الحالة المسندة لها ، لكي تعيش ضمن هذا النسق لأن الشعر كما نعرفه ويعرفه الجميع يجب أن يستوعب تفاصيل الحياة التي نعيشها ، إلى جانب هواجس الشاعر أو المفكر ، وهنا تتجلى لديه الصيرورة والتحليق في فضاءات القصيدة ليعيش لحظته الراهنة في الإبداع وخلق صوره التي تبحث عن الحياة من جهة والرومانسية والمعنى من الجهة الأخرى !!
وهذا بالتأكيد يخلق جواً من الانسجام والشفافية بين القارئ الذي يبحث عن النص الجيد ، والذي ينقله إلى الأجواء التي يرغب ، وبين الشاعر الذي يعيش هذه الإرهاصات وهذه الخلجات ! ومثل هذا الموقف من الإبداع ينقلنا معاً إلى الفضاءات الجميلة المعلن عنها ، وإلى روح القصيدة التي تمور بلهيب الإبداع!!
وهنا يبرز النفس الشعري واضحاً لدى الشاعر ويعكس الوجه الآخر لديه ، حيث مشاعر الغربة والضياع والهجرة من الوطن وبياضاته وأنفته الشخصية التي يتمتع بها قومه هنا ،وإن كانت هذه اللمحات الحياتية المفعمة بالغربة والبعد يعيشها الشاعر بصورة غير مباشرة ولكنه يراها ويقرأها في عيون الآخرين ، هذه اللمحات التصويرية الخاطفة التي يصورها بآلته الفكرية المبدعة جعلت هذا التناغم الموسيقي والإيقاع يزامن الصور التي يجسدها بهذه المقاطع الشعرية الجميلة ، وأنت تتجول مع لقاءات الإمارة في قصيدته ( مدينة بلا أمكنة ) التي كثفها بشجون مدينته التي إنطلق منها من حضن دافيء إلى صخب هذه اللقاءات وتنوعها فتراه يرسم لقاءه الأول مع النار جيل الذي صوره على مدى الألم الذي يعانيه في بصرته الجنوبية المتسكعة على رماح وشظايا أعدائها ، ولقاءه مع الليل وشجرة البمبر الكبيرة وتمثال السيّاب الذي يقف على جرف شط العرب مثقوب الجيب والقصائد التي أستنفر عمره المكدود من أجل أن يرسم للقادمين اجيالاً تمخر في عباب الأيام ! ومن ثم يختم الإمارة لقاءه الأخير مع القصيدة المحببة إليه والتي جعلها مسكنه العاري من التشائمات والتسكع في دروب التيه والغرور !
أين نلتقي ؟)
في مقهى النار جيل ،
الله نار جيل .. ونار أجيال
نتنفس الأحلام والترانيم
نسحب هواء المدينة النقي
دخاناً وشظايا !!)
ويستمربلقاءاته مع الأمكنة الأخرى إلى أن يظفر بلقائه الخير وهو القصيدة :
إذن أين نلتقي ؟
تعال نلتقي هنا
في القصيدة !!
وينطلق الشاعر المبدع بتجلياته التي يخاطب بها الجسد في قصيدته ( حواء تعد أضلاع آدم ) ، هذا الجسد المسجون بالفراغ والعزلة والصمت الأزلي الذي يلفه وهو في حالة من الإرباك والخوف ، حيث يستنفر الشاعر كل طاقاته بمخاطبته العنيفة مهدداً بجلده بالرغبات والكلام والسنين السريعة التي غلفته بالضياع والموت الجماعي ، ويستمر مخاطباً إياه ومهدداً بالسياط تارة وتارة أخرى يذكره بأن المنافي وكل الأرض الواسعة لن تكفي للبوح ، ولا الأفق للأنهمار فيقول :
سأجلدك بالرغبات )
حتى تعترف،
أيها الجسد المسجون بالفراغ
سأجلدك بالكلام
والسنين السريعة
حتى تصبح ليلاً مطيعاً )
ويستمر بمخاطبة هذا الجسد عاداً أضلاعه كل ليلة ناعتاً إياه بكافة الأسماء التي تراود الحنين بينهما من ماء التفاحة التي أخرجتهما من الجنة ، إلى خشب السفينة ورفيف الكهوف والملاذات الأخرى في قصيدته الطويلة المبدعة !
فالنفس الشعري الطويل والصور الشفافة الذي يتميز بها إلى حد الرومانتيكية أحياناً ، جعلته في مجمل قصائده وصوره يخيل للقارئ والمتتبع الجيد أنه يذيب خلجاته وإرهاصات فكره عن شيء ما ، حيث يدخل التفكير الجدي لدى القارئ بأنه يتحدث عن حبيبته أو عن وطنه أو قومه أو عن الحرية التي باتت صور على ورق مهمشة بين جدران عالية لا ترى إلا من خلال الظلال الذي تحدثه أو عن الأرض أو أنه يتحدث عنهن جميعاً ، وبالتالي يدرك المرء بأن الشاعر يذيب نفسه بين سطور صوره وقصائده حتى يخيل له بأنه يريد أن يسمعها العالم كله ، ويضع هذه الديباجة الملونة بأشعة قوس قزح ليضيء من حوله هذا العالم المظلم ! فهو يقول في حواره مع زميل أيامه الشاعر عبدالرزاق الربيعي في قصيدته ( عصفور على الشجرة ...) مذكراً إياه ومسمياً بعصفور الشعر ونشيد العلم وخفقة قلب الكلام ونداءات البراعم الخفية ، بهذه التجليّات التي يسطرها الإمارة بألته الفكرية معاتباُ زميله :
فاليد يا عبد الرزاق هو نهاية الكلام)
واليد قفص وكلمات متقاطعة
أنظر كيف تفرقنا في
تفرع أناملها
ثم يقول :
رهاننا على الكتابة
وموعدنا مع القمر )
وهكذا مع صور قصيدته العذبة مذكراً صديق العمر بأن أطفاله في المدرسة ما عادوا أطفالاً ولكنهم تجعدت رؤسهم مع الأيام وانحنت ظهورهم مع الزمن ، ومنذ أن رحلت عنهم ومدرستهم أصبحت أرملة وصفوفهم بلا سبورات !
والإمارة يمتاز شعره بالبحث الدائم والمستمر عن الإختلافات التي قد يراها ظاهرة في تراث الشعر ومساره التأريخي ضمن سياق جيله الشعري ، وأعني هنا بالإختلاف هو الفارق الفني والجمالي الذي يؤطر القصيدة الشعرية ويلبسها ثوبها الزاهي لما له من ميزات خاصة يسيّر القصيدة إلى عمق الذوق الإنساني لدى السامع أو القاريء ، وأراه في هذه الحالة قادراً على حبك مسار القصيدة وأقحام الأثر التأريخي فيها لتبرز بوجهها الجميل لدى المتلقي ، كما أنه ينظر إليها على أنها مخلوق بشري يحمل الوفاء والصدق والحالات الإنسانية الأخرى !! لعلاقتها مع تفاصيل الحياة وواقعيتها ، وعليه يتفرد الأمارة بتنوع الخطاب لديه حاملاً معه مفرداته الجميلة لبناء صرحه المبدع !!
لقد أمتاز الشاعر (الإمارة) بأنه يبتكر له صوت خاص تعرفه من خلاله عندما تسمعه وهو يتلو أحد قصائده وكأنه يغزل لها خيوطاً بإيقاعات وجدانية متناغمة مع جمال الطبيعة الذي ينشده في هذه الصور ويذيب بها فكر القارئ أو السامع ليهيم معه في فضاءات واسعة وخيال دافئ يحمل معه معترك الحياة القاسية ، ولعله يؤنسن واقع الحال الذي نعيشه معاً !! فقوله في قصيدته (أغنية القتلة ) :
( أغنية القتلة .. أنا
صوتي الذي كان يركض
في الوصولْ ،
بحثاُ عن شمس سوداء
كان فؤاد قصيدتي فارغاً
مفتوحاً للداخلينْ ،
ومتسعاً للعواصف )
ولأن الشاعر أو كل شاعر يبحث عن مفرداته من بين عيون العابرين ومن الهموم اليومية المرسومة على تفاصيل الوجوه التي تحمل البؤس وتعب الحياة وشقائها ، فهذه الخطوط البيانية المعبرة والتي يستشفها من الوجوه تشكل المادة الرئيسية في صور القصيدة الشعرية ، فيقول في قصيدته المهداة إل منذر عبد الحر :
كنزي الحب المزروع)
في تراب الغيب
كنزي الكلام
على شفاه الأيام الصامتة
كنزي الحياة المستعادة
في عيون أطفالي وأطفال العالم
كنزي الإنسان
أو ما تبقى منه
كنزي القبور التي تملأ سكتي
بالحكمة والوصول )
و الشاعر عندما يمتطي صهوة الشعر والأدب يجب أن لا يدير ظهره للتراث وأن يتجه بفكره نحو المستقبل ، وعليه كانت رؤيته واضحة تعبر عن انغماسه في لجة الواقع الاجتماعي داخل معترك الحياة بقسوتها وشفافيتها ، وما هذا التناغم الذي يلمسه القارئ لدى متابعته لقصائد هذه المجموعة الجميلة ، يقف عند حد الخطاب والحوار الذي يبديه بمخاطبته الروح والوجدان الإنساني بشفافية تكاد تكون تنقل روح المتتبع إلى فضاءات واسعة وجميلة ، وتنقله كذلك إلى معالم من البهجة والسرور !
وهذا إيمان منه بأن الشعر حالة إنسانية خلاقة تواجه الخراب الذي يدخل روح العصر وينهش في قوامه وصلابته ، وعليه يجب أن نحصن أرواحنا كمبدعين من جهة ومتابعين من جهة أخرى ، كلما اشتدت ظلمة الخراب واتسعت رقعة البشاعة والعزوف عن الإنسانية في متابعة الثقافة وأهلها ، وإلا ما فائدة الشعر ، وما هو دوره إذا كان هو الآخر يدخل في قاع التلوث والإسفاف والتشرذم والتحلل !!
فالشاعر على ما أعتقد هنا يدرك تماماً وهو في حلمه أن باستطاعته أن يترجم الأحاسيس الفاعلة والمتمثلة في جسد النص أو الخطاب الأدبي ويحيله إلى حلم يقظة ليعشه في لحظاته المفرطة والمتخمة بالحسية العالية ، والصور الفنية الجميلة ، وعليه نرى جل قصائده مليئة بالأحلام الجميلة والمفعمة بالمجاز اللغوي الشعري الحالمْ !! كما يقول في قصيدته ( المؤنث والمذكر):
أنت الهاوية)
الكارثة
الحرب
العاصفة
الخيانة
وأنا الأمان
التطمين والسلام
النسيم والوفاء )
وكذلك في قصيدته الأخرى ( قبعة حميد المختار) :
السفر حزام أخضر)
يحصّن القلب من غبار الوقت
وقبعتك الحميمة
تشبه جبل قاسيون
تمر من أمامنا
فنشم رائحة الأعالي )
وهكذا في جل قصائد مجموعته الجميلة (( أوسمة التراب ، نص في الغراب ، قصائد المعنى ، جسر الصرافية ، تكبيرة الحجر ، وغيرها من الصور الأخرى ))
وقد تطغو الصورة الشعرية عنده بشكلها الحقيقي ، بحيث يريد أن يصل إلى هدفه السامي بإيصال فكرة القصيدة ذات الصور المتجمعة في رياض أزهاره إلى ذهن المتلقي بدون عناء يبذله لمعرفة هذه الصور التي قد تكون تحمل أختلافات كثيرة ومتنوعة باختلاف اهتمامات الناس الثقافية والقومية والمعاشية وتعب الحياة وبؤسها وحلوها ومرها وحربها وسلمها !!
فهذا الهاجس الذي يلم بالشاعر ويحرك ذائقته الشعرية يظهر واضحاً في صور القصيدة التي ينشدها ، فيكون هذا الحضور واضحاً في فكرته الاجتماعية والقومية حيث تتشبع بها روح الشاعر المبدع وهو يبدو لي أنه واثقاً من المستوى والثوب الذي تلبسه القصيدة عنده من حيث دلالتها المكانية والاجتماعية والعاطفية أياً كانت تسير عليه فكرة القصيدة ، لكن يبقى الشعر عنده بحاجة إلى أبعاد خيالية واسعة ، لأن الخيال والمجاز أداتان مهمتان في العملية الشعرية ويساعدان المتلقي على فهم ما يصبو إليه دون أبداء أية مغامرة للفهم والتحليل كما يبديها الناقد الحاذق في تشريح الدلالات غير الواضحة في جسد القصيدة الشعرية أو الموضوع المراد تحليله !
فالشعر عند الشاعر المبدع (الإمارة) سهل وقريب من ذوق المتلقي والقارئ من ناحية الأسلوب والمعنى ، والفكرة الدلالية الواضحة المعبرة عن الواقع الذي يعيشه نفسه في هذه الحياة !!
وبذلك أرى في خطاب الشاعر الإمارة الشعري نماذج إبداعية تعني بضرورة زواج حالات الفنون البصرية من الكتابية وهذا ما يعنيه أغناء لحظة التذوق والإنصات للأبداع بكل صورة من صوره المؤطرة ضمن مجموعته الجميلة ، وهنا يتلمس القاريء وبوضوح على أن الشاعر لم يكتب الشعر ويختار هذه الصور وهو متكيء على مناضد من حرير ولا مطلاً من برجه العاجي كما يعتقد البعض ، لكنه كتبه وهو يستل من أعصابه المتوترة والملتحمة بالواقع الإجتماعي المرير الذي يعيشه وشعبه في هذا الزمن المتردي عصباً بعد عصب عاجاً بروحه التي تحمل هذه الآلام وهذه الخلجات التي أستنفر لها كل طاقاته التعبيرية ليواجه هذا الواقع المر!
وتبقى كلمة أخيرة في تحليل قصائد هذه المجموعة وجلب أنظار القراء لها ، صور جميلة ومبدعة وأحساس خالد يفلت من قيد الزمن ليطل بوجه على خلجاتنا ويبدد متاعب الحياة التي رسمتها السنين المريرة !!