وديع سعادة وإعادة تركيب عالم من الدعابة

د. حمزة رستناوي

[email protected]

"إذا كانتِ الدعابةُ طبقاً لتعبيرِ بروتون " تمرُّداً أعلى للذهنِ " بإزاءِ عبثيَّةِ الأشياء, و تأكيداً  كما يقولُ فرويد أيضاً " لحصانةِ الأنا الذي يرفضُ أنْ يُمس أو أنْ تُفرَضَ الألم َ عليه الحقائقُ الخارجية" فلا يمكن  أنْ تكونَ  إلا فعلَ ذهنٍ مستيقظٍ للغاية ""1"

و" ينبغي ملاحظة أنَّ الخياليَّ و الدعابةَ  بعضُهما لا يحطِّم البعضَ الآخر , و لكنهما يتآزرانِ لتحريرِ الإنسانِ من سيطرةِ العالمِ الذي يعيشُ فيه, كي يسمحا له بتخطّيهِ و الحُكم ِ عليهِ ,فبينما يصفُ لنا الساخرُ سُخْفَ العالمِ كما هو عليه, يصف لنا الفُكاهيُّ بكثير ٍ من الطبيعيَّةِ عالماً عبثيّا لا وجودَ له ""2"

عند قراءتي لنصوصِ الشاعر وديع سعادة أجدني أمامَ عالَم ٍ  مُتَخَيَّل ٍ  يوظِّفُ الدعابةَ بكثيرٍ من الطبيعيَّةِ, و بما يذكّرني بعالم الشاعر الفرنسيّ هنري ميشو

" وبنقرةٍ صغيرةٍ على طاولتي تولدُ فراشاتٌ غريبةٌ وتَحُوْمُ عليها.

لا قَدَمٌ  بيننا بل عطرٌ يمشي

ليس بيننا كون، فقط هواءٌ أُشكّله كوناً جديداً""3"

فنحن هنا أمام عالم افتراضيٍّ غرائبيّ, أمامَ  كونٍ يشكِّلهُ الشاعرُ , في سخريةٍ واضحةٍ من العالم ِ الحقيقيِّ جدا ,ً ولكن ربمَّا إلى درجةِ الملل!

الشاعر هنا تُغويهِ مُتعةُ الخلق ,  ليسَ فقط خلقُ القصيدة,  و لكنْ خلقُ عالم ,

 و الشاعر هنا في خلقة هذا يَلعبُ بالكلماتِ و يستهزئ بها , و عبرها من عالمنا

فكما يقول بيرتليه "بالدعابة  يحقِّقُ المرءُ  حريَّته"

إنيِّ ألعبُ الآن/ ألعبُ مع الكلماتِ وأغُشََّهَا/ لعلي اربحُ شوطاً معها/ هذهِ التي خسرتُ معها في الماضي كلَّ الأشواط../ ما بيني وبينها اليومَ هوَ غيرَ ما كانَ بالأمس/ سقط َ وَقَارُها,  وفقدتْ جِدّيَتَهَا وصارتْ مُجرَّدَ لُعبة.""4"

يركِّزُ الشاعر سعادة كثيراً  في تجربتهِ الشعريَّة على  كلمتي " الهواء"  و "الخلق", حيث تشكلُ هاتان الكلمتان ِ بؤرةً  دلاليَّةً لكثير ٍ من نصوصهِ

و هذا يحتاجُ لدراسةٍ مسحيَّةٍ تفصيليَّةٍ مستقلة  , لسنا في صددِها الآن.

الهواءُ هنا لا يحضرُ بصفتهِ عنصراً و أكسجينا ً ضروريَّاً للحياةِ , و فضاءً للحريَّة

بل هو الهواءُ العَماءُ خميرةُ الخلقِ و أصلهِ

فقدْ وردَ في الأثرِ النبويّ  أنَّ أبا رزين قال :

يا رسول الله، أينَ كانَ ربُّنا قبلَ أنْ يخلقَ خلقهُ؟

قال: (كانَ في عماءٍ ما تحتَهُ هواء, وما فوقَهُ هواء, وخلقَ عرشَهُ على الماءْ)"5"

فالهواءُ مادّةُ الخلق, و انشقاقُ الهواءِ بدايةُ تمرُّدِ المخلوق, و انعتاقهِ من قوانينِ الخلق, و السعيُ إلى رَتْقِ الهواء,   هوَ بمثابةِ أُمْنِيَةٍ للحنينِ إلى أرومة الخلق

فقد ورد في الأثر القرآني " إنَّ السماءَ و الأرضَ كانتا رتقاً  ففتقناهما".

في تجربة الشاعر سعادة نجدُ هاجسَ لمِّ الشملِ, و الرَتْقِ , و الخياطة بين الموجودات. و لنلاحظَ عناوينا ً لنصوصهِ  من قبيل:

محاولةُ لَحْمِ أحرف، محاولةُ إكمالِ كلمة

و كذلك "محاولة ِ  وصلِ  ضفَّتين ِ بصوت"

يمكن أن نضعَ  كثيرا من  نصوص الشاعر سعادة في باب الرؤيا , بما يذكِّرنا برؤيا الإسراء و المعراج,  وكذلك رؤيا القديس يوحنا و غيرَها.. و لكنّها تمتازُ بكونها رؤيا ليست مقدَّسة,  و ليست جدّية ً بما يكفي لتحنيطِها و تبويِبها في إطارِ التجربةِ  الصوفيَّة العربية

هي رُؤيا بنكهةِ الدعابة

رُؤيا بنكهةِ السخرية , و لكنها سخريةٌ رفيعةٌ  تحلمُ  بلمِّ شمل ِ الخلق ِ, و توقن بالهباء

و العدمية؟

رؤيا تتيح ُ إمكانية ً للمقارنةِ  بين َ كونين ,  بين َ كائناتٍ جديدة,  و أخرى قديمة

"كائناتٌ جديدة ٌ أُطْلقها في الساحات ِ، وكائناتٌ أُلغيها

وأُغيّرُ وظائفَ الأعضاءِ، ووظائفَ حامليها.

أرضٌ بلا مسافاتٍ ، وليس عليَّ أنْ تكونَ لي قَدَمٌ لأمشيها""6"

"قالَ  ستمطرُ، ستمطرُ كثيراً

ومذْ قالَ وهوَ جالسٌ ينتظرُ المطر

عينٌ على الفضاء

وعينٌ على التراب

حتَّى انفصلتْ عيناه

واحدةٌ في الأرض,  وأخرى في السماء, ولم يعد يرى

لا غيماً ولا فضاءً

ولا تراباً."7"

 فلا يمكنُ أنْ يكونَ النصُّ الأخيرُ سوى نِتَاج ِ ذهنيّةٍ مستيقظة ٍ للغايةٍ  

" وُلدتْ

هكذا سهواً

في نقطةٍ غريبة

بين الحقيقة والوهم""8"

               

&q"1" قصيدة النثر –سوزان برنار- ترجمة د.زهير مجيد مغامس- مؤسسة الأهرام للنشر و التوزيع القاهرة 1999ص227

"2" نفس المرجع ص228

"3" من مجموعته تركيب آخر لحياة وديع سعادة / موقع الشاعر على النت

"4" من مجموعته رتق الهواء/ موقع الشاعر على النت

http://wadihsaadeh.awardspace.usspan>/

"5" رواه الترمذي

"6" من مجموعته تركيب حياة أخرى لحياة وديع سعادة/ موقع الشاعر

&q" 7" نفس المرجع

"8" نفس المرجع