السيرة النبوية في القصة الإسلامية المعاصرة

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

لا غرابة في اهتمام القاص المسلم بالاستمداد من السيرة النبوية ، وتسجيل مواقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته أمام المحن ، وتخطيهم العقبات إلى أن تحققت للإسلام دولته النموذج الأعلى للمسلمين عبر العصور !

لقد كانت السيرة النبوية وما زالت بحراً زاخراً تنبَّه إلى ما فيه من درر تثير كوامن الكثير من الأدباء ، وما يزال فيها كنوزاً لم يتعرض لها الروائيون بعد ، وهي تنتظر منهم أن يعرضوها بأسلوب قصصي شيق يستوفي الشروط الفنية ، فيكونوا بذلك قد سدوا ثغرة ينفذ منها أصحاب الأفكار المنحرفة ، والعقائد الزائفة ، بما يقدمونه لأبناء الجيل من ترهات وخيالات مريضة تحت مسمى الفن القصصي ؟!

ومما يبشر بالخير على الرغم من هذا السيل الطامي من القصص والروايات المنحرفة ، أن أدباءنا استطاعوا بما يقدمون من قصص أن يزيحوا جزءاً لا يستهان به من هذا الركام الذي وقف طويلاً أمام أبناء الجيل في معرفة تاريخنا العظيم ، وسيرة نبينا الكريم والاستمتاع بها ! ولكن تبقى طريقة التناول هي التي تحدد نجاح العمل القصصي بعد أن توافرت الفكرة الصحيحة ، والحدث والشخصيات والغاية النبيلة ولعل من أقدم الأعمال القصصية وأنجحها ما كتبه أمين دويدار تحت عنوان (صور من حياة الرسول) في كتاب تجاوز (600) صفحة ، وقد صاغ الأحداث بشكل متسلسل ، معتمداً طريقة السرد ، جاعلاً الحقيقة التاريخية هي الأساس ، وقد سيقت بأسلوب قصصي يشد القارئ ، ويجعل المشاهد أمامه حية شاخصة ، كأنه يراها رأي عين ، ويدركها بكل مشاعره في حقيقتها الواقعة بعيداً عن اختراع المواقف وحشرها ، وقد نقل المؤلف الأحداث بلغة العصر ، فجاء العمل بسهولة عبارته ، وجمال أسلوبه متلائماً مع روح العصر ، وثقافة جيل الشباب !!

وخص بعضهم قبائل بعينها ، متحدثاً عن بطولة أبنائها في مناصرة الإسلام ، والدفاع عن الدعوة ـ كما فصل عبد الحميد طهماز في (فتيان أسلم) إذ عرض عدداً من مواقف هذه القبيلة وفتيانها ! فتحدث عن ربيعة بن كعب ، وأمنيته في مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وإعراضه عن الدنيا وعن صبوات الشباب ! كما تحدث عن سلمة بن الأكوع ، ومبايعة النبي الكريم له ثلاث مرات ، وعن بطولة عامر بن الأكوع في خيبر ، وعن التائب الصادق ! ماعز الأسلمي . وتطهيره من المعصية ، وعن الألوية التي خصّ بها النبي صلى الله عليه وسلم هذه القبيلة ، وعن موقف صبيانها يوم حنين ، ودورهم في قمع حركة الردة ، وجهودهم يوم وجه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الجيوش لفتح العراق وبلاد الشرق ، واهتمام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بهم وإنزالهم في حيين خاصين بهم في الكوفة . وتأتي هذه المواقف بما فيها من بطولات لتكون نبراساً يحرك نفوس الشباب للسير على خطا هؤلاء الفتية ؟! وأما (فرسان مخزوم) للمؤلف نفسه ، فهي أيضاً مستوحاة من السيرة ، وقد أبرز الكاتب فيها عدداً من أبطال هذه القبيلة ، فتحدث عن بطولة أبي سلمة وهجرته إلى الحبشة أولاً ، ثم إلى المدينة ، وعن جهاده وشجاعته ، وعن جرأة الوليد بن الوليد في إطلاق سراح أسيرين مسلمين والنجاة بهما ؟!

وعن موقف عكرمة بن أبي جهل من الإسلام ، ثم إيمانه وبطولته في اليرموك ! وعن حنكة خالد بن الوليد العسكرية في مؤتة وغيرها .

وقد عرض ذلك كله بأسلوب مبسط يتناسب مع الناشئة وفهمهم بحيث يتعرفون على أحداث صادقة ، وتجارب إنسانية رفيعة لأولئك الذين شهدوا التغيير الكبير الذي أوجده الإسلام في حياتهم !

وقد أفاد الروائي الإسلامي " نجيب الكيلاني " من السيرة وأحداثها في عدد من قصصه القصيرة ، وفي عدد من الروايات ، ونتوقف هنا عند روايتين هما : نور الله التي تجاوزت صفحاتها /500 / صفحة ، وقاتل حمزة . وقد تحدثت نور الله عن الصراع الدامي الذي خاضته الدعوة الإسلامية ضد أعدائها من يهود ومنافقين ، مبرزة انعكاس الأحداث الضخمة على صفحات النفوس المؤمنة والكافرة ، وعن أثر العقيدة في نفوس المؤمنين ، وما أوجدته من مقاييس جديدة للسلوك الإنساني !! ويمتد زمن الرواية من بداية هجرة المسلمين إلى الحبشة وحتى فتح مكة ، ويتحرك ابطالها ما بين مكة والمدينة ومنازل اليهود ، ويظهر منها تآمر يهود وتحركهم بالمال والنساء والكلمة المسمومة ؟! وتحريضهم للمشركين بعد هزيمة بدر ، ثم سقوط أوكار يهود من بني فينقاع ، وانكشاف تآمر بني قريضة ، ووضع حد لأحقادهم في اجتياح حصون خيبر بعد محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لها ، كما تبرز تحقق رؤية صفية بنت حيي بن أخطب ، إذ رأت قمراً وافداً من يثرب يشق الظلام ، ويميل نحوها ، حتى يستقر في حجرها ، فكان أن أسلمت وتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام .

كما صورت نتائج صلح الحديبية ، وتراجع قريش عن شروطها وفتح مكة واختلاط مواقف الناس ، وصعود بلال على ظهر الكعبة معلناً كلمة التوحيد ، وقد اعتمدت الرواية على عدد كبير من المراجع التاريخية والتزمت بأدق الروايات ، ورسمت من خلال أحداثها وأشخاصها ملحمة الصراع بين الحق والباطل ، وأظهرت سماحة الإسلام مع خصومه على الرغم من سوابق تعديهم وتآمرهم ، وقد مزج الكاتب فيها الفن بالتاريخ دون أن يطغى أحدهما على الآخر .

وأما قاتل حمزة فقد استمدت أحداثها من السيرة أيضاً ، وعالجت قضية الحرية التي لا يصاحبها الالتزام ، وأن الحرية الحقيقية للفرد لا يمكن أن تبدأ إلا من داخل النفس بانتصارها على الشهوة والكراهية والهوى والأنانية ، وذلك في عمل فني يمتع الروح والعقل ، فوحشي عبد متمرد يحلم بالحرية ، ويأتي وعد سيده له بعتقه إن هو قتل حمزة ، ليجد هوى في نفسه ، وفي يوم أحد يختبئ خلف شجرة ، ويلقي بحربته لتصيب من حمزة مقتلاً ، ولكنه لم يعش الحياة التي حلم بها ! وأصبح دم حمزة لعنة مقيمة لا تفارقه ، فيبدأ رحلة العذاب والذل من جديد!! ويتحاشاه العبيد أمثاله ، وتزهد به (عبلة) التي استنكرت قتل حمزة ، فيحس بخيبة أمل كبيرة ، ويشي إلى سيدها الذي رفض أن يبيعها له من قبل ، بأنها أسلمت ، فينتقم منها هذا السيد بتسليمها دون ثمن على أن يذيقها العذاب والهوان ، فينقلها وحشي إلى بيته ، وهو يحلم بساعات الوصال ؛ ولكنه وجد منها تأبياً ورفضاً ، ولم تلبث أن تهرب لتلتحق بالمدينة . فيلجأ وحشي إلى الغنية (وصال) لعله ينسى واقعه وأحزانه ، ولكنها تسلم وتدعه ، فيلجأ إلى الخمرة فلا تزيده إلا هلعاً وجزعاً !! وتمضي الأيام به قلقاً معذباً ، ويكون صلح الحديبة ، ثم فتح مكة فتتضخم مأساته ، ثم يلقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ، وتبقى كلمة رسول الله له : (غيِّب وجهك عني) تعذبه ، ولكنه عذاب يفجر الألم والندم ؟ وتبقى صورة حمزة شاخصة كما كانت من قبل .. وتكون حروب الردة ، فيبلي فيها بلاءً حسناً ، ويقدر له أن يقتل مسيلمة الكذاب بالحربة التي قتل بها حمزة من قبل ، ويمضي مع الجيوش الإسلامية ، ليقيم في بلاد الشام ، حيث يلقى منيته وهو على فراشه .

والملاحظ هنا أن الكاتب لم يكتف بالخط العام لشخصية وحشي كما ترجم له في كتب السيرة ؛ ولكنه فرع عنه عدداً من الخطوط ، فاستعان بعدد من الشخصيات إلا أنها لم تطغَ على الشخصية الرئيسية ؛ ولكنها وضحت بعض جوانبها من خلال رحلتها من الكفر إلى الإيمان . وقد استطاع المؤلف بما لديه من أدوات وإمكانات فنية أن يستبطن مشاعر وحشي في مختلف مراحل حياته .

ويقابل هذه الشخصية شخصية أخرى عرفت حياة العبودية والرق ولكنها منذ البداية استعلت على فوارق اللون والجنس ومقاييس الجاهلية ، تلكم هي شخصية بلال رضي الله عنه التي جعلها عبد الحميد جودة السحار ، محور قصته (بلال مؤذن الرسول) التي ألقت الضوء على حياته بدءاً من عمله في تجارة أمية بن خلف إلى وفاته ، فقد استجاب للإسلام لما دعاه أبو بكر رضي الله عنه ، وصبر على تعذيب المشركين له ، إلى أن اشتراه أبو بكر ، فأعتقه ، ولكنه كان إعتاقاً تحرر فيه من سلطة السيد على جسده ، وقد سبقه إعتاق آخر ، حين تحررت روحه وضميره وقلبه من قيود الجاهلية فآمن بمحمد وبدينه ، وقد نال بلال من أصحاب رسول الله كل تقدير ومحبة لما يعلمون من سابقته في الإسلام ، وأقسم عليه أبي بكر الصديق أن يبقى معه حين خرج أسامة بجيشه ، وظل حنين بلال متقداً ، فلحق بأبي عبيدة في الشام على عهد عمر بن الخطاب ، وكانت منيته بعد ذلك في الشام ، وهو يهتف على فراش الموت : غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ..