المشهد والظل لهيام الفرشيشي

المشهد والظل لهيام الفرشيشي ....

ثورة الشك

فتحي الجلاصي

 يحق لنا أن نشك في الثوابت والتي تزعم ألا يتزعزع ويأتيها الباطل مطلقا ويحق لنا كذلك أن نبطأ مفعول مبدأ " الكوجيتو " الديكارتي " أنا أشك إذن أنا موجود " فقد ذهب "ديكارت" حد الشك في وجوده الملموس و المحسوس و في مشاعره الباطنة و الدفينة لصالح مبدأ "الشك" . 

إن في نصوص هيام الفرشيشي ما يدفعنا لإثبات الشك في هذا "الكوجيتو" و يعاضدنا في رحلة السعي لإبطاله و لعل أبرز عناصر النفي لهذا المبدأ الثابت هي الشخصيات القصصية التي تعلن عن وجودها بقوة و بشدة و تصرخ عاليا و بعنف " انا موجودة، بلا شك" . 

لقد وصفت هيام الفرشيشي "بورتريات" شخصياتها وصفا دقيقا...وصفا ماديا بارزا، و وحفرا سيكولوجيا نافذا...و هذا ما منح الوجوه قوة حضور في مخيلة المتلقي تستعصي على النسيان...و لنا في بعض النصوص شواهد ... 

خطوات القط الاسود ( بارانويا )

 بارانويا،مصطلح سيكولوجي يقصد به السعي إلى الخوف و معايشته و استدعائه أيضا. و قد جسدته هيام الفرشيشي في نصها "خطوات القط الأسود" ايما تجسيد...إذ جعلت من بطلة قصتها حالة عصابية معقدة و مركبة، ثم اشتغلت عليها و طوعت عناصرها السيكولوجية بكل حنكة و اقتدار، فجاءت البطلة "هدى" في ثوب و شكل جديدين لم يألفهما المتلقي و لم يعهدهما من قبل .

و لعل ما يثير الإنتباه في هذا النص هو قدرة منتجته على ترك مسافة فاصلة بينها ككاتبة و بين بطلتها "هدى"..إذ استطاعت الراوية أن تنقل الحداث و ترويها بحياد تام و برؤية مستقلة. و تخلت عن رأيها و رؤيتها لصالح شخصيات نصها...و هذا ما أعطاها مجالا و فتح لها أفقا تحرر فيه شخصياتها و تحركها بسلاسة مذهلة ..

و الملفت أيضا في هذا النص هو ارتقاء الكاتبة بالبعد المعرفي الإبستملوجي إلى مستوى الإستعراض. و قد كان حضور الجانب العلمي واضحا و جليا من خلال استدعاء الجانب التقني التحليلي من مدرسة علم النفس الفرويدي، فتفسير الأحلام و التداعي الحر اشتغل عليهما فرويد بكثافة.. و وضفتهما هيام في نصها بكثافة أيضا ...

و لا يمكن المرور دون الإشارة إلى عنصر مهم في النص و هو تلبيس الزمن للشخصيات و العكس يصح أيضا..فثمة في النص ثلاثة ازمنة...الماضي...الحاضر...و المستقبل...و من ناحية أخرى هناك الأم الغائبة كذكرى نائية و بعيدة...و هناك هدى الحاضر الراهن و المهزوز...و هناك أيضا الطفل المريض بما يمثله من نظرة مشكوكة و مرتابة للمستقبل الغامض و المجهول... 

و من بين هذه العناصر و التيمات التي ابنى عليها النص، تنبثق مكملات و متممات كالريح و الظلمة و القط الأسود و ما يوحي به و يحيل إليه لونه الداكن. و البيت الكبير المهجور و الآثار و الأعمدة القديمة الشاهقة و الشاهدة...كل هذا يجعل حالة " البارانويا" التي تعانيها البطلة مسيطرة على النص من منطلقه إلى منتهاه حيث تنتهي الحرائق المطهرة بموت القط الأسود مصدر الخوف و باعثه ، و بحزن البطلة الشديد عليه..و هي مفارقة عجيبة و غريبة و لا تبررها سوى حالة " البارانويا ".... 

و قد شئت أن أصنف هذا النص ضمن مناخات المدرسة الواقعية السحرية التي ابتدعها "قابريال قارسيا ماركيز" حيث يمتزج الواقعي و الذهني و الخيالي في تركيبة عجيبة و مدهشة في آن...

 و مما يميز شخصات هيام الفرشيشي كذلك هو حراكها و اعتراكها الداخلي...فهي شخصيات إشكالية ضاجة بشدة...حائرة و محيرة...باحثة و مدعاة للبحث...ثائرة و مثيرة...اثبتت وجودها داخل النصوص...و اثبتت وجودها خارج النصوص أيضا ، من خلال استفزازها لاطمئنان الفارئ و تحريك سواكنه و إثارة شواغله..و لعل الشخصيات البسيطة و الواضحة و الوديعة و المستكينة ظاهرا، هي الأشد تعقيدا و الأكثر إشكالا و الأكثر مدعاة لنبشها و استقصاءها و ولوج عوالمها...اما الشخصيات المعقدة و المركبة فهي تعلن عن نفسها بوضوح و دون عناء و دون حاجة لتشخيصها أو تتبعها...و لنا في نص "غياهب الوهم" حالة تمحيص و تشخيص ...

غياهب الوهم ... شيزوفيرينيا الذات الحائرة

  عذراء حياة الريف، الهواء نقي و الأرجاء رحبة، و السماء لوحة ضاجة بالحياة ...هكذا ينطلق النص بنظرة شاملة إلى الآفاق الرحبة حيث يمتد البصر إلى منتهاه، فلا يصده صاد و لا يعترضه معترض ... 

من هناك، من بين الروابي و الهضاب و الأعشاب الندية و الأغصان الغضة، تتشكل الطبائع و ينمو السلوك على الفطرة و السليقة...كأول الخلق...كالبدايات الأولى...و تستمر البراءات هكذا...و طهر الأحاسيس أيضا هكذا...هناك حيث لا أصنام و لا طابوهات تقيد الحركة و توجه المسارات....هناك بين الروابي و في الأودية العميقة حيث يمكن للكائن البشري أن يستجمع شتات صوته و يطلق ما شاء له من الصرخات فلا يرتد إليه سوى صداه ...

 هكذا إذن، في تلك المناخات الحالمة حيث الطبيعة البكر، كانت البطلة مشدودة بعنف و بشدة....لم تكبر الطفلة في داخلها، رغم تخطيها الرابعة عشر....لا، بل كبرت الطفلة في داخلها.....الرابعة عشر يبدأ الجسد في التشكل، و تتحرك الهرمونات الفاصلة بين الجنسين لتحدد لكل منهما معالمه ... 

 بهذه الثورة و الفورة الجسدية و بالوعي الآخذ في التشكل تجد " عربية " نفسها متورطة و مدفوعة قسرا لخوض تجربة أخرى مغايرة تماما لما كانت عليه و تعودت به...تجربة غريبة و مختلفة .. 

هناك ، في عالم المدينة الوافد بكل مظاهره و ظواهره و تناقضاته و تحولاته، ثمة طقوس أخرى و سلوك مغاير و غريب...و ثمة متاهات يسهل ولوجها بيسر و يتعذر النفاذ منها و يستعصي منها الخروج....ثمة أعين كثيرة ترصد و تراقب و تتقصى و تلتقط الأحداث و تسجل ما يجري و تخزن المعلومات بدقة متناهية و بتطفل غريب .. 

... 
ما وجدته البطلة في محيطها الجديد من عادات و تصرفات و سلوك و علاقات مستجدة ولد فيها حالة من الغربة و الرعب و الخوف...كل هذا دفعها للإنبتات و العزلة و الإنزواء..الكابوس امتطى صهوة الحلم...الوعي تداخل باللاوعي..الحقيقة و الخيال تلونا بلون واحد...النظرة إلى الجسد صارت دونية، و هو منبع الشبق و الدافع للشهوة...و مبعث الغرائز الملتهبة...صار مبتذلا و دنيئا و عفنا...صار مبعثا للإشمئزاز....لم تكن تدرك أن المدينة بهذا العفن و بهذه القذارة و بهذا القبح...ربما كان في حسبانها البعض من هذا...اما أن يكون معلنا بهذا الشكل من السفور و الرشح، فهذا ما لم يخطر على بالها أبدا ...

 و لعل ما أسهم في مضاعفة حالة ال"فوبيا" عندها من المدينة هو ما وقع الترويج له في مخيلتها الصغيرة و استقر في عقلها الباطن...إن الأفلام التي صورت المدينة العربي أو العتيقة هي افلام موجهة إلى مستهلك أجنبي و متفرج سائح الغاية منها كشف المستور و رفع الستائر و الحجب عن الخلوات و التلصص على حمامات النساء و رصد ما يجري في أزقة و حارات المدينة الضيقة .. 

أضحت المدينة العربي مجرد قضبان تسجن احلامها البكر، فلم تعد تتراءى لها غير الكوابيس..و لم تخط كلماتها غير معاني الإزدراء و الكآبة ...هكذا استبد بها الإحباط و الإنهيار..و اعتصرها الألم و عبث بها التصدع...و كان لزاما و وجوبا استدعاء الطبيب...حضر الطبيب و وصف لها العلاج...مكان هادئ و آمن ترتاح فيه ... 

 الريف...الريف...ذلك المرتع الواسع الشاسع، حيث السماء رحبة و حيث الأفق ممتد إلى ما لانهاية...حيث يمكن للمرء أن يستجمع شتات صوته و يصرخ بملئ رئتيه ...

  
الريف...الريف...الذي غادرته كفراشة مرحة...كزهرة يانعة...تنط و ترتع بين الروابي ببراءة ساذجة ...تعود إليه الآن في حالة من الذهول و الضياع ....

 و لكن ثمة أمل في العودة إلى حيث البدايات الأولى...كأول الخلق...حيث البراءات و طهر الأحاسيس...حيث لا يوجد للصرخة سوى صداها....."علها تستعيد المعنى بعد الضياع ..."

 و مما تجب الإشارة إليه أن النبرة الصوتية لدى هيام الفرشيشي تختلف من نص إلى نص فقد تمضي في تسريع وتيرة الحركة الداخلية و الخارجية او تهدئتها و ذلك بما يقتضيه و يتطلبه الإيقاع و الإطار المناخي العام لكل نص..و حركة الشخصيات النفسية و مستوى وعيها و رصد و توصيف الإطار المكاني..و كذلك توظيف المعجم اللغوي حسب ما يقتضيه المقام...فنجدها تتشدد في انتقاء و تخير مفردات اللغة و تحتفي بها أيما احتفاء في نصوص معينة"خطوات القط الأسود" كمثال... و في أحيان اخرى تنحدر بالمعجم اللغوي إلى مرتبة البسيط و السائد وذلك بما تقتضيه ظرورات السياق العام ..فهي لا تحمل النص الذي لا يحتمل أكثر مما يحتمل...و رغم هذا فإن النصوص لا تفقد انسجامها و تناسقها و تآلفها في معزوفة واحدة بنوطات متعددة ...

 و بهذا تكون هيام الفرشيشي قد نجحت في باكورة تجربتها القصصية هذه من نقل رؤيتها و هواجسها إلى الفارئ الذي انساق في مسايرتها و مشاركتها حالة إبداعها ...

 و في ثورة إثبات الوجود هذه و التي لم يعد الشك معها مبررا، و قد فقد مقومات وجوده و ثبت العكس...لينزاح السيد "كوجيتو" و يختفي و لو مؤقتا ...