تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 41

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 41

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "رَسائِلُ الْجاحِظِ"]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

ذَكَرَ ( الفاخر للسودان على البيضان ) أَبْناءَ الزَِّنْجيّاتِ حينَ نَزَعوا إِلَى الزَِّنْجِ فِي الْبَسالَةِ وَالْأَنَفَةِ ؛ فَذَكَرَ خُفافَ بْنَ نَدْبَةَ ، وَعَبّاسَ بْنَ مِرْداسٍ ، وَابْنَيْ شَدّادٍ : عَنْتَرَةَ الْفَوارِسِ ، وَأَخاهُ هَراسَةَ ، وَسُلَيْكَ بْنَ السُّلَكَةِ ؛ فَهؤُلاءِ أُسْدُ الرِّجالِ وَأَشَدُّهُمْ بَأْسًا ، وَبِهِمْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ .

كأنه شيبوب الذي حدثتني عنه جدتي نعمات - رحمها الله ! - في سيرة عنترة ؟

أَمَّا الْهِنْدُ فَوَجَدْناهُمْ يُقَدَّمونَ فِي النُّجومِ وَالْحِسابِ ، وَلَهُمُ الْخَطُّ الْهِنْديُّ خاصَّةً ، وَيُقَدَّمونَ فِي الطِّبِّ (...) وَلَهُمْ مِنَ الزّيِّ الْحَسَنِ وَالْأَخْلاقِ الْمَحْمودَةِ ، مِثْلُ الْأَخِلَّةِ وَالْقَرْنِ وَالسِّواكِ وَالِاحْتِباءِ وَالْفَرْقِ وَالْخِضابِ . وَفيهِمْ جَمالٌ وَمِلْحٌ وَاعْتِدالٌ وَطيبُ عَرَقٍ .

في هذا نظر شديد ؛ فقد عرفوا بنتن العرق ، حتى حكى لي عماني - والعمانيون بهم أعرف - أن شركة كثيرة العمال الهنود ، كانت تطلقهم من آخر الدوام ، في وقت واحد ، فكانوا إذا اقتربت حوافلهم شمت رائحة عرقهم النتنة على رغم المسافة !

وَبَعْدُ مَتى صارَ اخْتِيارُ النَّخْلِ عَلَى الزَّرْعِ يُحْقِدُ الْإِخْوانَ ، وَمَتى صارَ تَفْضيلُ الْحَبِّ وَتَقْريظُ الثَّمَرِ يورِثُ الْهِجْرانَ ، وَمَتى تَمَيَّزوا هذَا التَّمَيُّزَ وَتَهالَكوا هذَا التَّهالُكَ ؟

أين الفاء الواقعة في جواب " أما " المفهومة من " بعد " ؟

قَدْ كُنّا نَعْجَبُ مِنْ حَرْبِ الْبَسوسِ في ضَرْعِ نابٍ ، وَمِنْ حَرْبِ بُعاثٍ في مِخْرَفِ تَمْرٍ ، وَمِنْ حَرْبِ غَطَفانَ في سَبَقِ دابَّةٍ ؛ فَجِئْتَنا أَنْتَ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَجَبِ أَبْطَلَ كُلَّ عَجَبٍ ، وَآنَسَنا بِكُلِّ غَريبٍ ، وَحَسَّنَ عِنْدَنا كُلَّ قَبيحٍ ، وَقَرَّبَ عِنْدَنا كُلَّ بَعيدٍ !

عندي هذه الأيام صديق عُماني ، في بعض كلامه ذكر أحد تلامذتنا العمانيين ، أنه عمل في مكتب موظفة كبيرة مسؤولة عن ترويج الثمار العمانية ، وأنهم صاروا يكنونه : " أبا مخرافة " ، قائلا : هي وعاء يخرف فيه التمر " ؛ فهي هذي الكلمة غير أنهم أشبعوا الفتحة وأنثوا الكلمة بالتاء !

عَلَّمَهُ الْأَسْماءَ بِجَميعِ الْمَعاني . وَلا يَجوزُ أَنْ يُعَلِّمَه الِاسْمَ وَيَدَعَ الْمَعْنى ، وَيُعَلِّمَهُ الدَّلالَةَ وَلا يَضَعَ لَهُ الْمَدْلولَ عَلَيْهِ . وَالِاسْمُ بِلا مَعْنًى لَغْوٌ ، كَالظَّرْفِ الْخالي . وَالْأَسْماءُ في مَعْنَى الْأَبْدانِ ، وَالْمَعاني في مَعْنَى الْأَرْواحِ . وَاللَّفْظُ لِلْمَعْنى بَدَنٌ ، وَالْمَعْنى لِلَّفْظِ روحٌ . وَلَوْ أَعْطاهُ الْأَسْماءَ بِلا مَعانٍ لَكانَ كَمَنْ وَهَبَ شَيْئًا جامِدًا لا حَرَكَةَ لَه ، وَشَيْئًا لا حِسَّ فيهِ ، وَشَيْئًا لا مَنْفَعَةَ عِنْدَه . وَلا يَكونُ اللَّفْظُ اسْمًا إِلّا وَهُوَ مُضَمَّنٌ بِمَعْنًى ، وَقَدْ يَكونُ الْمَعْنى وَلا اسْمَ لَه ، وَلا يَكونُ اسْمٌ إِلّا وَلَه مَعْنًى . في قَوْلِه - جَلَّ ذِكْرُه ! - : " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها " ، إِخْبارٌ أَنَّه قَدْ عَلَّمَهُ الْمَعاني كُلَّها . وَلَسْنا نَعْني مَعانيَ تَراكيبِ الْأَلْوانِ وَالطُّعومِ وَالْأَراييحِ ، وَتَضاعيفَ الْأَعْدادِ الَّتي لاتَنْتَهي وَلا تَتَناهى . وَلَيْسَ لِما فَضَلَ عَنْ مِقْدارِ الْمَصْلَحَةِ وَنِهايَةِ الرَّسْمِ اسْمٌ إِلّا أَنْ تُدْخِلَه في بابِ الْعِلْمِ فَتَقولَ : شَيْءٌ وَمَعْنًى . الْأَسْماءُ الَّتي تَدور بَيْنَ النّاسِ إِنَّما وُضِعَتْ عَلاماتٍ لِخَصائِصِ الْحالاتِ ، لا لِنَتائِجِ التَّرْكيباتِ . وَكَذلِكَ خاصُّ الْخاصِّ لَا اسْمَ لَه إِلّا أَنْ تَجْعَلَ الْإِشارَةَ مَقْرونَةً بِاللَّفْظِ اسْمًا . وَإِنَّما تَقَعُ الْأَسْماءُ عَلَى الْعُلومِ الْمَقْصورَةِ ، وَلَعَمْري إِنَّها لَتُحيطُ بِها وَتَشْتَمِلُ . فَأَمَّا الْعُلومُ الْمَبْسوطَةُ فَإِنَّها تَبْلُغُ مَبالِغَ الْحاجاتِ ثُمَّ تَنْتَهي . فَإِذا زَعَمْتَ أَنَّ اللّهَ - تَبارَكَ ، وَتَعالى ! - عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها بِمَعانيها ، فَإِنَّما تَعْني نِهايَةَ الْمَصْلَحَةِ لا غَيْرَ ذلِكَ . هذا وَآدَمُ هُوَ الشَّجَرَةُ وَأَنْتَ الثَّمَرَةُ ، وَهُوَ سَماويٌّ وَأَنْتَ أَرْضيٌّ ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَأَنْتَ الْفَرْعُ ، وَالْأَصْلُ أَحَقُّ بِالْقوَّةِ ، وَالْفَرْعُ أَوْلى بِالضَّعْفِ .

هذا المعنى الموجود دون اسم من جملة معان محدودة معدودة ، يجدها الإنسان في نفسها بوسائل مختلفة ، أما عامة المعاني وكبارها فلا تكون - أو لا تخطر ، أو لا تُعْتَبَر - إلا بأسمائها ( ألفاظها ) ، وإلا كانت أرواحا هائمة تحتاج إلى من يُحَضِّرها !

لا يُرْضيكَ إِلّا عَذابُ إِبْليسَ الَّذي زَيَّنَ الْخَتْرَ لِلْعِبادِ ، وَبَثَّه فِي الْبِلادِ ، وَالَّذي خَطَّأَ الرَّبَّ وَعانَدَه وَرَدَّ قَوْلَه ، وَغَيَّرَ عَلَيْهِ تَدْبيرَه ، وَلَمْ يَزِدْهُ إِلّا شَكًّا وَلَجاجَةً وَتَمادِيًا وَإِصْرارًا . ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنَ الْجِدِّ في مُخالَفَةِ أَمْرِه ، وَخَلْعِ الْعِذارِ في شِدَّةِ الْخِلافِ عَلَيْهِ - إِلّا بِأَنْ يَحْلِفَ عَلى شِدَّةِ اجْتِهادِه في ذلِكَ بِعِزَّتِه ، فَجَعَلَ الْعِزَّةَ الْمانِعَةَ مِنْ إِسْخاطِه سَبيلًا إِلى إِسْخاطِه ، وَالْقَسَمَ الْحاجِزَ دونَ إِغْضابِه وَسيلَةً إِلى إِغْضابِه ، حَيْثُ قالَ : " فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ " !

فكفر كما كنا نقول ، من حيث آمن ، وآمن من حيث كفر !

ولكننا لا نقبل أن يوصف شيء من خلق الله - سبحانه ، وتعالى ! - بتغيير تدبير الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ! ولكنه اعتزال أبي عثمان ، عفا الله عنه !

أَمّا قَوْلُهُمْ : إِنَّ الْغَرارَةَ مَقْرونَةٌ بِالْحَداثَةِ ، وَالْحَنَكَةَ مَوْصولَةٌ بِطولِ التَّجْرِبَةِ - فَإِنَّ الذِّهْنَ الْحَديدَ وَالطَّبْعَ الصَّحيحَ وَالْإِرادَةَ الْوافِرَةَ ، يَنالُ في الْأَيّامِ الْيَسيرَةِ ، وَيُدْرِكُ فِي الدُّهورِ الْقَصيرَةِ ما لا تُدْرِكُهُ الْعُقولُ الْمَخْدوجَةُ وَلَا الطَّبائِعُ الْمَدْخولَةُ وَالْإِرادَةُ النّاقِصَةُ ، فِي الْأَيّامِ الْكَثيرَةِ وَالدُّهورِ الطَّويلَةِ .

هي " الحُنْكَة " ، فأما " الحَنَكَةُ " فالرابية المشرفة .

قالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ :

وَلَنْ تُصادِفَ مَرْعًى مُمْرِعًا أَبَدًا إِلّا وَجَدْتَ بِه آثارَ مَأْكول

قد عايَنْت هذا وعانَيْتُه أيام كنت أتتبع أفعال الطير بالنخل المثمرة بحدائق جامعة السلطان قابوس ، حتى كتبت : " منذ أيام طربت إلى أن أحكي لكم طرفا مما أعيشه في هذه الجامعة البديعة على رغم ما ربما آذانا به بعض الموظفين . أحببت أن أحكي لكم عن ليلة تصحيحي أوراق اختبارات فصل الصيف ، التي جُعتُ فيها وأنا في مكتبي ؛ فلم أشأ أن أذهب إلى فيلتي لكيلا أكسل عن إتمام عملي ، ثم لم يكن فيها ما يستحق الذهاب ! خرجت في الحادية عشرة ، ثم لم أعد إلا بعد نصف ساعة ؛ فأين ذهبت ؟ لقد تسربت إلى واحة نخيل لم أطأها من قبل ، كنت قد لمحتها بعقب صلاة مغرب سلفت ، فرأيت فيها خيرا كثيرا . ولكن مصيبة هذه الرؤية أنها تعمى أحيانا ؛ فربما رأيت النخلة من بعيد مثمرة أعظم الثمر ؛ حتى إذا ما حاولتها ، خابت رؤيتي وكان ثمرها فجا حصرما . لكنني لما ذهبت إلى واحتي البكر ، جلت في نخيلها ، حتى وجدت علامة الجودة المضمونة ! أتدرون ما هي ؟ إنها اسوداد حملها وخفة شماريخها . أما الاسوداد فدليل عدم الفجاجة ، وأما الخفة فدليل النضج ؛ فطيور الجامعة الكثيرة المختلفة لا تفتأ تصيبه ؛ فهي رائدي إلى ما أختار ، حتى صرت أحب ما أَبْقَتْ ؛ فربما وجدتموني ألقف ثمارا مأكولة جوانبها ، فاعجبوا كيف أعف عن ذلك من ابن آدم بل أكره أن أراه يأكل ، ثم أبش لطير الله الطاهر الذي لم يفطره إلا على الخلق الجميل ؛ فلا ينفس ولا يفسد ولا يغش ! ثم لما عدت مفعما ، بقيت ببركة أسآر الأطيار ، إلى الثانية ليلا ، حتى أنهيت عملي في يومه ، وهو ما لا يفعله أحد ، إلا أن يهمل الإتقان ، وما كنت من المهملين . كنت أحب أن أفيض وأنا المغرم بالقَصِّ ، ولكن هذا أمر يطول ، وأنا الآن مشغول " !

رُبَّما أَلَّفْتُ الْكِتابَ الَّذي هُوَ دونَه في مَعانيهِ وَأَلْفاظِه ، فَأُتَرْجِمُه بِاسْمِ غَيْري ، وَأُحيلُه عَلى مَنْ تَقَدَّمَني عَصْرُه مِثْلِ ابْنِ الْمُقَفَّعِ وَالْخَليلِ وَسَلْمٍ صاحِبِ بَيْتِ الْحِكْمَةِ وَيَحْيَى بْنِ خالِدٍ وَالْعَتّابيِّ وَمَنْ أَشْبَهَ هؤُلاءِ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ ، فَيَأْتيني أُولئِكَ الْقَوْمُ بِأَعْيانِهِمُ ، الطّاعِنونَ عَلَى الْكِتابِ الَّذي كانَ أَحْكَمَ مِنْ هذَا الْكِتابِ ، لِاسْتِنْساخِ هذَا الْكِتابِ وَقِراءَتِه عَلَيَّ - وَيَكْتُبونَه بِخُطوطِهِمْ ، وَيُصَيِّرونَه إِمامًا يَقْتَدونَ بِه ، وَيَتَدارَسونَه بَيْنَهُمْ ، وَيَتَأَدَّبونَ بِه ، وَيَسْتَعْمِلونَ أَلْفاظَه وَمَعانِيَه في كُتُبِهِمْ وَخِطاباتِهِمْ ، وَيَرْوونَه عَنّي لِغَيْرِهِمْ مِنْ طُلّابِ ذلِكَ الْجِنْسِ ، فَتَثْبُتُ لَهُمْ بِه رِياسَةٌ ، وَيَأْتَمُّ بِهِمْ قَوْمٌ فيهِ ، لِأَنَّه لَمْ يُتَرْجَمْ بِاسْمي ، وَلَمْ يُنْسَبْ إِلى تَأْليفي !

يعني الخليل بن أحمد الذي مات وهو صغير , وهو الذي يُوازَنُ عادة بينه وبين ابن المقفع ، فتُرَجَّح كفةُ الخليل . ولكنني لا أعرف الخليل بتأليف الكتب . وما بقليل ما خَلَّفَ الخليل يُعَدَّ في مؤلفي الكتب ؛ فقد كان أعرض عنه وفي عقله علم الدنيا والآخرة ، اشغالا بالتأمل وتأليف التلاميذ !

وعلى رغم ذلك لا أنكر صحة فكرة أبي عثمان ، بل كثيرا ما أعانيها ؛ فمن ذلك أنني جالست طائفة من الأساتذة القادمين إلى جامعة السلطان قابوس للمشاركة في أسبوع جامعات مجلس التعاون الخليجي بمسقط ، فتَمَلَّحْتُ بما يسُرُّهم ناسبا شيئا إلى حفظي ، وشيئا إلى حفظ الدكتور محمود محمد الطناحي أستاذي وصديقي - رحمه الله ! - على ما كانت الحقيقة ، فأدهشهم شيء دون شيء ، وإذا أستاذ لم يكن قد انكشف بعدُ وَجْدُه الشديد عليَّ ، يأبى إلا أن ينسب إليَّ أنا ما لم يدهش الجماعة - وكان لأستاذي - وإلى أستاذي ما أدهشهم - وكان لي - فأثنى علي من حيث لم يَدْر !