رجال لهم آثار

صالح أحمد البوريني

للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

صالح أحمد البوريني/عمان

[email protected]

عن دار الفاروق للنشر والتوزيع في عمان صدرت الطبعة الأولى لكتــــاب (رجال لهم آثار )، من تأليف الأديب الكبير والباحث النحرير الأستاذ عبد الله الطنطاوي، جمع فيه ترجماتٍ ثريةً لِسِتٍّ وعشرين شخصية من كبار شخصيات العلم والفكر والجهاد والأدب والدعوة الإسلامية من شتى بلاد العرب والمسلمين.

 وقد جاء الكتاب في ثلاثمائة وثمان وخمسين صفحة من القطع الكبير، يَطوي القارئُ رحلتَه معها في متعة غامرة، ولذة مدهشة، وتفاعل حار، وهي تنقله من قمة إلى قمة، ومن شموخ إلى شموخ، تحلق به في أجواء العبقرية والطموح والرجولة والكفاح والصبر والمثابرة، تُفَيّئُه ظلالَ العلماء، وتَسْلُك به سبل المجاهدين، وتُصْعِدُه قمم التضحية، وتُشهِدُه مشاهدَ البطولة، وتُعيدُ إلى ذاكرته رجالًا؛ طابت الأرضُ بضم أجسادهم الطاهرة، واستبشرت السماءُ بعروج أرواحهم الطيبة،  وزكا النسيمُ بعبيرهم، وزها المجدُ بذكرهم؛ أعلامًا في تاريخ الأمة، وقادة في مسيرة الحياة، ونمـــاذجَ للاقتداء، ورعاةً ودعاةً وهداةً وأساةً وبناةً للأجيال، وصُنّاعا لمستقبل مجتمعاتهم وأوطانهم وأمتهم، فمنهم ـ كما يقول الطنطاوي في الصفحة الأولى من مقدمته ـ، وأنقل عبارتَه بتصرفٍ يسير : العالمُ الجليلُ الذي كان ينير عقول الناس وقلوبهم، ويأخذ بألبابهم بمواعظه، وبالعلم الذي جعله كالشمس للدنيا والعافية للبدن، على حد وصْفِ الإمامِ أحمدَ شيخَه الشافعي رحمهما الله تعالى، ومنهم: المجاهدُ في سبيل الله تعالى، الذي نشأ على الجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله، لنصرة دينه، وإعلاء شأن أمته، وتحرير أرضه من الغاصبين، والذياد عن حياض القيم التي تغلغلت في أعماقه، والمبادئ التي كانت توجهه وتتسامى به.

ومنهجُ الطنطاوي في الترجمة لشخصيات كتابه منهج موضوعي اختياري مختصر، وهو منهج يتناسب تماما مع الغاية التي وُضع من أجلها الكتاب، كما استقر في فهمي من قراءته، وهي شحْذُ الهمم، وإشعالُ العزائم، وتوجيهُ عناية الناس إلى عظائم الأمور، وجلائلِ الأعمال، وصرفُهم عن سفاسفها، وإيقاظُ الحس البليد، وحفْزُ الإرادة النائمة في الأمة، لتنهضَ إلى مسؤوليتها، ولتبادر إلى دورهــا في إدارة شؤونها بنفسها، وتحقيق ذاتها، وامتلاك حريتها، وصنـع قرارها، وتشكيــل وحدتها، وبنــاء قوتها، واستعــادة أوطانها، وتحرير مقدساتها، وشق طريقها إلى العزة والكرامة؛ على هديٍ من كتاب ربها عز وجل، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وسِيَرِ أسلافها الصاحين، وعلمائها العاملين، وقادتها المجاهدين. وهذه الغايُة الجليلة العظيمة لا يناسبها الإغراق في التفاصيل، والاسترسال في السرد التاريخي الطويل، فمَحَلُّ ذلك هو دراسةُ السيرة الذاتية المفصّلة؛ التي تتناول كل شخصية في كتاب مستقل. وهي لا شك دراسة لازمة، ومطلب مهم؛ وخاصة حينما تكون الشخصية المعنية بمستوى القامات السامقة التي تناولتها ترجماتُ الطنطاوي.

ولذلك جاء اختيار الأديب الطنطاوي لشخصيات كتابه اختيارا  مدروسًا، وليس انتقـاء عشوائيا. إنه معني باختيار الذيـن تركـوا بصمات واضحة في الحياة :"من المتميزين الذين ماز الناسُ حياتَهـم، من حيوات الآخريـن، وسبـروا أغوارهم، فوجدوها مليئةً بجلائل الأعمال.."(1).

 وأولئك نَمَط من الناس فريد، وطرازٌ عزيزُ الوجود، كأنما هم الملح في الطعام، قليلُ الكمية، عظيمُ الأهميـة؛ "مناراتٌ يهتــدي بها السارون في العتمـات، بجهودهم الوضاء، وتضحياتهم بالنفس والنفيس.. هؤلاء الهداة سوف يقتدي بهم سائر الخيرين في هذه الحياة، ليشكلوا ـ مع الأيام ـ تيار الإنقاذ من هذه المهامه والمتاهات.."(2).

وهناك خصوصية أخرى تميز اختيار الكاتب لأعلام كتابه، ذكَرَها في مقدمته فقال:"وأكثر هؤلاء لم يُكتب عنهم إلا لماما، لأسباب معروفة، فالأعداء والخصوم يهملون الحديث عنهم عمدًا، حسدًا وكراهيةً من عند أنفسهم، والأصدقاءُ والإخوانُ والتلاميذُ يَصْدِفُون عن الكتابة عنهم كسلًا، في أحسن أحوالهم، وبعض آخر حسدًا وغيرة، وسوءَ تقديرٍ لما ينبغي أن يكونوا عليه.."(3).

والطنطاوي في مقدمته يُصرِّح بذكر أسباب هذا الاختيار فيقول:"كان اختياري لهؤلاء دون غيرهم لأسباب أراها وجيهة، منها تميزهم من أقرانهم في كثير من الأمور، ومنها إنصافهم بعد تعرضهم للتنقص أو الإهمال، وعدم الإنصاف، لأنهم قادة أحرار، ومفكرون مبدعون، ومجاهدون أصلاء..ثم إنهم ممن رحلوا عن دنيانا"(4)، وهو يعني أنهم ثبتوا على الحق حتى نهاية حياتهم ولم ينحرفوا عن الجادة.

يبدأ الطنطاوي أول ما يبدأ بوضع عنوان يختاره بعناية، ويحــاول فيــه اختزال أبرز ما يدل على الشخصية فيثبته، وربما بدأ حديثه بتمهيد قصير، حسبما يرى أنه يلزم، وهو في الكتاب قليل، ثم ينتقل إلى الحديث عن مولد المترجَمِ له ونشأتِه، ثم يختار للحديث عن الشخصية ما يرى أنه الأبرز فيها، أو الذي امتازت به، أو اشتهر عنها. يقول في الصفحة العاشرة من المقدمة:"ولم أتوسع، بل اقتصرت على أبرز ما يميز الشخصية المترجمة من ذات الدلالة، مما يهم إنسان عصرنا من حياتها، فإن كل شخصية من هؤلاء تستأهل كتابا عنها، وربما أكثر من كتاب..".

ونظرا لاختلاف أعلام الكتاب بعضهم عن بعض؛ فإن الترجمة لم تلتزم ترتيبًا واحدًا مضطردًا في الحديث عنهم، بل أفرد الطنطاوي لكل علَم من الأعلام  ما يتناسب ـ من الحديث ـ مع شخصه وزمانه وتخصصه وموقعه، كالحديث عن  زواجه  أو شخصيته أو اتجاهاته أو مواهبه أو المؤثرات التي أثرت في تكوين شخصيته أو مؤلفاته أو صفاته وأخلاقه أو الوظائف والمناصب التي شغلها، أو المجالات التي عمل  فيها، والعلوم أو الفنون التي برع فيها، ودوره في الحياة والمجتمع؛ دوره  السياسي أو التربوي أو الدعوي أو الإصلاحي أو الإعلامي، وعمله الجماهيري، والمؤسسات التي أنشأها، أو الجمعيات التي أسسها، ثم صراعه مع خصومه، أو بعض المحن التي تعرض لها؛ كسَجْنه أو اعتقاله أو نفيه أو محاولات قتله، وكالحديث عن رحلاته وأسفاره ورؤيته ونظراته وأفكاره وآرائه ومنهجه ومشاركاته ونشاطاته، وقد يستشهد ببعض أقواله أوتصريحاته أو مواقفه، وقد يذكر الجوائز التي فاز بها أو مُنِحها. ثم يتحدث عن وفاته، وقد يصف جنازته، وربما ذكر شيئًا عن أصداء موته أو  استشهاده، وربما وضع للترجمة خاتمة، أو كلمة أخيرة،  يسجل فيها رأيًا، أو يدفع شبهة، أو يؤكد حقيقة، أو يلفت إلى حكمة، أو ملْمَحٍ مهم، ثم يذكر المصادر والمراجع التي اعتمدها في ترجمته.

واقتصر الطنطاوي في (رجال لهم آثار) على اختيار الرجال دون النساء، لأن خطته في هذا السفر الجليل ـ كما وضح في مقدمته ـ أن يكون في ثلاثة أجزاء، صدر منها هذا الجزء، وسيجعل الجزء الثاني إن شاء الله للحديث عن نخبة أخرى من الرجال العظماء، وسيكون الجزء الثالث للحديث عن نخبة من النساء العظيمات، والمجاهدات المسلمات الكريمات، اللواتي تركن بصمات ظاهرة في حياة مجتمعاتهن وأمتهن؛ مثل زينب الغزالي وأمينة القطب، وسواهن من الماجدات الخالدات.

وكما راعى الكاتب التنوع المكاني في شخصيات هذا الجزء من مشروعه الموسوعي المبارك، فإنه قد وعد بأن يستأنف هذه المراعاة في الجزئين القادمين بإذن الله تعالى، وفي ذلك ما فيه من دلالة على الإنصاف والحيادية، وفيه ما فيه من عمق الدلالة وسطوع البرهان، على أن الخير مبثوث في كل فئات هذه الأمة، وأن كل مجتمع من مجتمعاتها، أو صقع من أصقاعها؛ تشرق فيه شموس العلماء العاملين، والهداة المهديين، وتسطع فيه أنوار المجاهدين والمصلحين، من الرجال والنساء على حد سواء.  

وأخيرا ؛ مع (رجال لهم آثار)، تتحفز الهمم لبلوغ شأوهم، وتشرئب الأعناق إلى منازلهم، وينشط القارئ الحصيف في اجتناء ثمار علمهم وحكمتهم، واقتباس الدروس والعبر من تجاربهم، وتطيب النفوس بمعرفة هؤلاء الأئمة الأعلام، ويجمل الدعاء لأديبنا الفذ عبدالله الطنطاوي بطول العمر وحسن الختام.

              

(1)  المقدمة ص5.

(2)  المقدمة ص6.

(3)  الالمقدمة ص9.

(4)  المقدمة ص9.