السياق وفهم الحديث الشريف (3)
د. نعيم محمد عبد الغني
السياق يقصد به الملابسات التي يفهم النص في ضوئها، وهو ينقسم إلى قسمين: لغوي وغير لغوي، فاللغوي يكون نابعا من داخل اللغة ويتعلق بالجملة التي في النص من حيث معرفة بنائها النحوي ودلالة المفردات في هذا السياق، وأما السياق غير اللغوي فيقصد به معرفة أحوال القائل والمتلقي للنص أو الجملة، ولتبسيط هذا الكلام نقول مثلا: ضرب عيسى موسى، فهذه الجملة نفهم منها: أن عيسى هو الضارب أو أنه المضروب وكذلك الأمر بالنسبة لموسى، لأن المفردتين لا تظهر عليهما علامات إعراب؛ فنعرف المرفوع من المنصوب، أو أن نفهم حدث الضرب نفسه على أن مفردة (ضرب) إما فعل ماض (ضَرَبَ) أو مصدر (ضرْب). والسياق الخارجي غير اللغوي يفسر لنا من الفاعل ومن المفعول به في هذه الحالة، فالنحاة يقولون في حالة اللبس في مثل هذا المثال يكون الفاعل مقدما والمفعول به مؤخرا، لكن لو علمنا من خلال السياق الخارجي أن عيسى مثلا أستاذ كبير وموسى تلميذ صغير، أو أن عيسى له بأس وقوة وموسى ضعيف، لفهمنا أن عيسى هو الضارب وموسى هو المضروب، وهذا هو السياق الخارجي الذي أقصده.
وعلماء أصول الفقه نظروا إلى نصوص الشريعة من القرآن والسنة هذه النظرة، فحللوا الجملة القرآنية أو النبوية في ضوء السياق اللغوي وغير اللغوي، فمثلا ورد في مصنف ابن أبي شيبة من حديث رويفع بن ثابت الأنصاري أنه خطب في الناس فقال: إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فينا يوم خيبر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرعُ غيره)
يفهم من هذا الحديث أن الزارع لا ينبغي أن يسقي زرع جاره، وهذا يتنافى مع مبدأ الإسلام الذي يحض على التعاون، والمقصود بالحديث أن الرجل لا يتزوج المرأة إلا بعد انقضاء عدتها فلو كانت حاملا بانقضاء حملها، أو بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام إن كان زوجها متوفى، أو بمرور ثلاثة قروء إن كانت مطلقة، وذلك لاستبراء الرحم من ماء الزوج السابق حتى لا تختلط الأنساب.
وهذه الكناية لا يمكن أن تفهم أبدا إلا في سياق خارجي؛ إذ بعد غزو خيبر كانت هناك سبايا، وكانت هناك من توفي عنها زوجها، وهذه حالات تتطلب تشريعا، وتأكيدا فجاءت كناية الرسول تذكيرا للمؤمنين بأن زواج المتوفى عنها زوجها أو المطلقة لا يكون إلا بعد انقضاء العدة.
وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (إِذَا أَقْبَلَ الليلُ مِنْ هَهُنا، وَأَدْبَرَ مِنْ هَهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) ففي هذه الجملة يتضح السياق اللغوي حيث يتحقق فطر الصائم بمجموع الشرطين، وهنا قد يظن أن هناك ترادفا بين الشرطين، وأنه من الممكن اختصار العطف في الشرط إلى عبارة واحدة، هي: (إذا غربت الشمس)، والجواب ما ذكره الإمام النووي في قوله: "قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين، ويلازمهما، وإنما جمع بينهما؛ لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس؛ فيعتمد إقبال الظلام، وإدبار الضياء" انظر: صحيح مسلم بشرح النووي4/194
ووصف السياق نراه كثيرا جدا في الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يسرد الكلام سردا، بل كان يتمهل في إلقائه، ويستعين بوسائل مساعدة لتوضيح ما يقول، من إلقاء صوتي، وحركات جسمية تساعد على الإفهام، فهو إذا خطب علا صوته فكأنه منذر حرب، وإذا أراد أن يشرح شيئا استعان بوسائل مساعدة، كأن يخط خطا في الأرض وحوله خطوط ليبين الطريق المستقيم من الطرق المعوجة، بل كان يعرض المعلومة في أسلوب قصصي أو أسلوب تمثيلي أو استفهامي، وكل هذه الوسائل من فنون البلاغة، ومن ثم نرى رواة الحديث الشريف نقلوا لنا أقواله –صلى الله عليه وسلم- مصحوبة بهذه الوسائل التي تسمى السياق غير اللغوي، ففي حديث شهادة الزور يقول الراوي: (وكان متكئا فجلس وقال ألا وقول الزور يكررها حتى قلنا ليته سكت)..وبعضهم يقول رأيت الرسول على برد له أحمر، أو قول عمر بن الخطاب بأن النبي نام وأثر الحصير في جنبه الشريف، كل هذا الوصف لحالات النبي أثناء قوله الحديث من سياق غير لغوي يساعد على الإفهام، ويعطي الحديث نبضا وحياة، ليتخيل كل مؤمن أنه يشاهد النبي وهو يوجهه ويعلمه، فتكون النصيحة أوقع في النفوس.
وهذا ما قال عنه البلاغيون القدماء: (البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال) وما قال عنه اللغويون المحدثون كالدكتور كمال بشر في كتابه (علم اللغة الاجتماعي) المسرح اللغوي، ويعني به الإشارات والوسائل المساعدة من الحركات التي تساعد على الإفهام؛ حتى إن بعضهم قال مبينا أهمية هذه الحركات فقال: (لا أستطيع أن أتكلم في الظلام).
وما سبق باختصار حديث عن دور السياق في فهم الحديث النبوي الشريف مستعينا بما قاله الدرس اللغوي قديما وحديثا، وإلى لقاء إن شاء الله.