غريب اللغة في الحديث الشريف (2)

د. نعيم محمد عبد الغني

n.ghany@alarab.com.qa

إذا كان الله قد أرسل كل نبي بلسان قومه كما في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، إبراهيم:4 فإن استخدام النبي صلى الله عليه وسلم لغريب اللغة في بعض أحاديثه لم يكن مخالفا لهذا القول الرباني، فالعرب بطون وأفخاذ، ولهجاتهم متعددة، مما سبب تنوعا في الخطاب، فأنزل القرآن على سبعة أحرف ليُراعى الاختلاف اللهجي في لغات العرب، ومن ثم فالسنة كمصدر ثان من مصادر التشريع الإسلامي بها هذا التنوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ولعل هذا ما يفسر لنا ما يقوله من تكلم في غريب الحديث عن بعض الألفاظ التي قالوا: إنهم لم يعرفوا بها من قبل، ففي كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم الهروي المتوفى سنة 224 نرى هذه الرواية التي يتصل سندها إلى عبد الله بن عتيك الذي قال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله –عز وجل- ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث: الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن وقال: وأين المجاهدون؟ ومات فقد وقع أجره على الله –تعالى- أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله تعالى، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله عز وجل –والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم –(فقد وقع أجره على الله –تعالى-) ومن مات قعصا فقد استوجب المآب) مسند أحمد .

والحديث كما نرى به من الكلمات الغريبة التي تتطلب الشرح وهذا ما كان في كتب اللغة وكتب غريب الحديث، وإن اختلفوا في بعض المعاني كاختلافهم في تأويل (حتف أنفه) فمنهم من فسرها فقال: (هو أن يموت على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا سبع –أي تأكله السباع)، ولا غيره، ومنهم من فسرها فقال: مات حتف أنفه أي مات في الماء. وأما مفردة قعصا فمعناها أن يضرب الرجل بالسلاح أو بغيره فيموت في مكانه من فوره.  

وغريب اللغة في كلامه عليه الصلاة والسلام كان مدعاة لوضع أحاديث تدل على فصاحة النبي وبلاغته، وهو عامل لم أره في أسباب الوضع في الحديث، وأذكر من ذلك ما جاء في تاريخ أصبهان لأبي نُعيم بسند ضعيف أيضا، من حديث ابن عمر، قال: قال عمر: يا نبي اللَّه، ما لك أفصحنا؟ فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: " جاءني جبريل فلقنني لغة أبي إسماعيل" وحَدِيثٌ: " أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي "، الذي  ورد في أكثر من رواية، وكل الروايات ضعيفة،  فعن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ بَنُو نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَتَيْنَاكَ مِنْ غَوْرَيْ تُهَامَةَ، وَذَكَرَ خُطْبَتَهُمْ، وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، وَنَشَأْنَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّكَ لَتُكَلِّمُ الْعَرَبَ بِلِسَانٍ مَا نَفْهَمُ أَكْثَرَهُ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَنِي فَأَحْسَنَ أَدَبِي، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ"، وسنده ضعيف جدا،. وأخرج أبو سعد بن السمعاني في أدب الإملاء بسند منقطع عن عبد اللَّه أظنه ابن مسعود رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه أدبني فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ سورة الأعراف آية 199 . ولثابت السرقسطي في الدلائل، بسند رواه، من حديث جد محمد بن عبد الرحمن الزهري، قال: قال رجل من بني سليم للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: "نعم، إذا كان ملفجا"، فقال له أبو بكر: يا رسول اللَّه، ما قال لك؟ قال: "قال لي: أيماطل الرجل امرأته؟ قلت: نعم، إذا كان مفلسا"، فقال أبو بكر: ما رأيت أفصح منك، فمن أدبك يا رسول اللَّه؟ قال: "أدبني ربي، ونشأت في بني سعد".

فهذه أحاديث وضعت لبيان فصاحته -صلى الله عليه وسلم-، والأحاديث الصحيحة بها من البلاغة والفصاحة الكثير الذي يغني عن مثل هذه الروايات، ولسنا هنا في مقام إثبات فصاحته فقد أثبتها الله تعالى فقال: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى).