تأمل جمالي موسيقي في قصيدة (ليالينا عقيمات ولكن)
تأمل جمالي موسيقي في قصيدة
(ليالينا عقيمات ولكن)
للشاعر الكبير يحيى السماوي
يحيى السَّماوي |
د. قصي الشيخ عسكر |
تأمل جمالي موسيقي في قصيدة
للشاعر الكبير يحيى السماوي
د . قصي الشيخ عسكر
مقدمة
عندما كنت في جامعة دمشق أحضر للدبلوم بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي ناقشت فكرة الموسيقى الجمالية والكتابة الجمالية لبعض النصوص مع بعض الأصدقاء حينها[1]، وقد طبقت هذه الفكرة في بعض أبحاثي[2] وها أنا اليوم أعود إليها بدافع الحنين إلى النقد ذلك الحنين الذي تستفزه في أعماقي بعض النصوص الرائعة التي أجدها منشورة في بعض الصحف الألكترونية ومنها قصيدة الشاعر الكبير يحيى السماوي التي وردت بعنوان " ليالينا عقيمات ولكن "
المقال:
التناسق الأفقي:
ونقصد به اختيار الشاعر لكلماته المناسبة المتكونة من حروف موحية تحقق التوازن الموسيقي،مع البحر الأساس وتفعيلاته فالبحر الاساس للقصيدة هو الوافر وتفعيلاته هي:
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
تأمملني طويلن ثم قالا أظننك تش تكي دائن عضالا
إن الذي ينعم النظر في الكلمات يجد أن الشاعر اختارها وفق مواصفات خاصة تحقق الانفتاح الموسيقى الذي اراده حين وقف بقافيته عند اللام المفتوحة مع ألف الإطلاق، فالحرفان في القافية "لا" يمثلان أفقا مفتوحا يدل على الطول لاسيما إذا كان الشخص المعني يعاني من مرض و داء إذ يرى الزمن طويلا والمسافات طويلة. إن الفعل تأملني جاء مفتوح المساحة عبر الياء في نهايته ثم كلمة طويلا التي احتوت على ياء أيضا بعدها كلمة ثم التي تدل على الترتيب فالتأمل أولا ثم القول أي الصورة يأتي بعدها الصوت ولو حذفنا كلمة ثم وجعلنا مكانها حيث لاختل المبنى الموسيقي كليا مع أن حيث وزها وزن ثم " فعل"
الياء في تأملني - التأمل يتطلب استغراقا معنويا غير محسوس يقابله المد في " قالا"
الوقت في ثم
لذلك يمكن أن نوزع الكلمات توزيعا موسيقيا غير عروضي آملين أن يستفيد من هذا التوزيع شعراء قصيدة النثر:
تأملني مفاعيلن
طويلا فعولن
ثم قالا فاعلاتن
أظنك مفاعل
تشتكي فاعلن
داءً فعلن
عضالا فعولن
التناسق العمودي
إن التدفق الموسيقي الدال على الانفتاح الزمني استند إلى مفردات قصيرة ربطت الفواصل الزمنية الطويلة تلك المفردات هي: ثم، يد ، إن.
المعروف إن بين التأمل والقول فترة احتلتها كلمة ثم وبين الشحوب والميلان فترة عبرت عنها يد. إن اليد التي تحتوي على الاصابع الخمسة هي رمز القوة والخميس هو الجيش القوى والمخمس أو الـ
pentagon
تلك اليد التي تصبح رمزا للمستقبل القاتم البارد الثقيل عند الشاعر الرائد السياب:
ويداك باردتان مثل غدي وعلى جبينك خاطر شحب
ينقلها الشاعر الكبير يحيى السماوي إلى صورة أخرى من صور الزمان البطيء الثقيل فتأتي قبل امتدادات موسيقية طويلة متناغمة مع الأجواء النفسية للنص:
دا...ءً عضا...لا شحو...ب ارتجا...ف يدن وخطون
وتأتي بعد إن الشرطية امتدادات صوتية كما حلت قبل يد:
سا..ر ما..لا
للأهمية أقول إن فهم اللغة العربية يمكننا من فهم لغة الشعر وموسيقاه فأجدني أذكر نون التوكيد الثقيلة حين نخاطب المفرد المذكر نقول: تضربنَ بفتح نون التوكيد ولو خاطبنا المثنى لقلنا والله أنتما تضربان ِ بكسر نون التوكيد والسبب كما يقول اللغويون لعل أحد العرب يمط كلامه فتتحول الفتحة عند مخاطبة المفرد تكتبن َ إلى الف فيلتبس على السامع الخطاب بين المفرد والمثنى[3]. لذلك السبب لايمكن فهم صور قصيدة من دون الوقوف والتأمل عند موسيقاها وفتراتها الصوتية بالضبط كما نحتاج إلى بعض الفترات في الموسيقى الكلاسيكية المسمات بـ
interval
ومن الأمور التي يجب مراعاتها هي التأمل في بداية القصيدة وختامها. كلمة تأملني بداية البيت وختام الصدر صرَعه الشاعر بكلمة تدل على الصوت " قالا"، وقفاه بكلمة تدل على المعنى " عضالا" البيت الأخير بدأه الشاعر أيضا بكلمة معنوية" تقنط " وختمه بصورة تجمع بين التصوير المعنوي وفن النحت " الرجالا" أي إن آخر كلمة جعلتنا نرسم في أهاننا رجالا أو رجل اوفن النحت هو من الفنون الزمنكانية لأننا نحتاج إلى زمن لكي نتأمل أي تمثال مع العلم أنه مكان، أما كتابة البيت جماليا فتكون على الشكل التالي:
فلاتقنط مفاعيلن مفردة استقلت موسيقيا
هي الأرحا...م حتما مفاعيلن فعولن كلمة
ستنجب مفاعل مفردة استقلت موسيقيا
للملما تر...رجالا فاعلاتن فاعلاتن
لكني قبل أن اختم حديثي أود أن أبين أن بعض الأبيات يمكن أن تتشكل من كلمات يدعو تتابعها الموسيقي ونفسها أن نكتبها جميعها بشكل أفقي ولانفصل بينها مثل البيت:
ويابن الغربتين سل الرمالا إذا غضب ابن دجلة والجبالا
فالمفردات تجمعت بنسق واحد لايمكن الفصل بينها والسبب هو ليس التصريع بل تصوير حالة الغضب التي تتطلب سرعة فالشطر الأول دمجه الفعل الصارم " سل" والثاني الجملة المعترضة إذا غضب، فيكون الرسم الجمالي الموسيقي للبيت كما هو:
ويابن الغربيتين سل الرمالا
إذا غضب ابن دجلة والجبالا
الخاتمة:
إن قراءة القصيدة تختلف عن إلقائها ولعل القراء الأفاضل قرؤوا القصيدة وتفاعلوا معها لكن قراءتها موسيقيا وجماليا تكشف عن جوانب مهمة أضف إلى ذلك أن مهمة الناقد هي كشف الجمال والبحث عن الصور الجديدة التي يستشفها من النص وأذكر القاريء الكريم أني كشفت اللغز الجمالي عن أربعة أبيات من هذه القصيدة الأبيات الثلاثة الأول والبيت الأخير. إني أوجه خطابي إلى الإخوة شعراء قصيدة النثر ليجربوا كتابة القصائد العربية المعاصرة الرائعة وكذلك قصائد التراث[4] ليحققوا تقدما أكبر في تجربتهم الجديدة[5].
[1] الحق إني ناقشت وقتها مجمل أفكار منها: لاأقر مطلقا أن تكون كلمة " استعارة" مشتقة من كلمة " عور" كما يشير إلى ذلك النقاد القدامى بل أنا أميل إلى أن تكون مشتقة من سعر أيدني في هذا الرأي أستاذي العلامة البروفيسور أسعد علي وأستاذي الدكتور المرحوم فهد عكام وممن عارضه الدكتور رضوان الداية من سوريا والمرحوم الدكتور الوائلي من العراق، والرأي الآخر هو أننا عندما نريد أن نرجع كلمة في القاموس مثل صادق نقول لسان العرب:راجع صدق فالبصريون يرون أن أصل الكلمة المصدر والكوفيون يرون الفعل للتخلص من هذا الإشكال اقترحت أن نقول: جذر وممن لم يرق لهم هذا الرأي الدكتور الداية.وكذلك رأيي الذي استحسنه أستاذي الدكتور عبد الكريم الأشتر في كتابة إذن وقبل به الكثيرون.
[2] مثل بحث" التشبيه والاستعارة في نهج البلاغة الصادر عن دار البلاغ"
[3] راجع شرح قطر الندى، ألفية بن مالك، باب التوكيد
[4] ذي المعالي فليعلون من تعالى هكذا هكذا وإلا فلا لا
ذي المعالي فاعلاتن
فليعلون مستفعلن
من تعالى فاعلاتن
هكذا ففاعن
هكذا فاعلن
وإلا فعولن
فلا لا فعولن
[5] في عالم الغرب بدأت القصيدة قبل أكثر من 150 عاما