رحلة أودوسيوسية
رحلة أودوسيوسية
نمر سعدي
تهويمات في رواية "هل تريد أن تكتب رواية"
للكاتب ناجي ظاهر
الكتابة الروائية كما يقول الكثيرون عمل ملزم أكثر من كتابة أي نوع أدبي آخر كالشعر ,والمقالة والقصة. ومشروع بحاجة الى جهد والى مثابرة وتضحية فعلية وإمتزاج الذات بالواقع.وأيمان جميل بالفكرة والكلمة كأيمان كاتبنا .كي يخرج بصورة لائقة كما خرجت رواية الكاتب والقاص النصراوي
ناجي ظاهر."هل تريد أن تكتب رواية" والتي نحن بصددها الأن.
الرواية في رأيي الذي استخلصته من قراءتي الممتعة لها .نشيد أناشيد الكاتب ,هي ملحمة واقعية ذاتية هادئة راح الراوي فيها يتحدث عن همه الحياتي من خلال التركيز على بؤرة الضوء الكامنه في روحه وهي فتاة في العشرين من عمرها دخلت عالمه الخاص وأراد أن ينصت الى هم تجربتها من خلال علاقتها به .وصياغتها في عمل إبداعي . زاحمه في حلمه هذا شاب آخر في مثل سنها فهم الحداثة بصورة خاطئة ولم يستطع أن يصل الى جوهرها.
في هذه الرواية يتجلى لنا دخان الكلمة التي حلم بها الكاتب وحاول أن يقولها .تماما كما حلم جبران بكلمة كتابه النبي المتراقصة في سكينة روحه كالضباب. وإذا كانت الرواية تذكّر نوعا ما بكتاب جبران الساحر "الأجنحة المتكسرة "من حيث صياغة الحلم والهروب الى عالم مثالي فسيح حاشد بالرؤى وبالقيم النبيلة وحتمية الحب فهو تعانق أجواء لا غير . فهي منزوعة من لحم الواقع .
وترابية الحياة .رغم حملها البعد الرمزي أو بعد ألأنا/ الآخر الميتافيزيقي .ومشحونة بغيبيته وتوتره ومفاجآت كثيرة داخل السيلق السردي, وهذا ما نلمحه في مسحتها البرجوازية المستمدة من عوالم بلغت حد الروعة في كتابات بلزاك ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
رغم سيكولوجية النص الناعمة والحوار الداخلي الرائع المنطلق الى الكون الخارجي . ورغم النشيج الخفي والتراكم الزمني والرغبة المكبوتة والسريالية الخافتة والظاهرة إلا ان قوة التشويق وفنية السرد عاليتان ومبطنتان في أحيان كثيرة بمرارة وخيبة
وإسترجاع ماض تهدم .ومكابدة حنين غير نمطي الى ذكريات بيضاء بعيدة وغائمة .يصيب الراوي المسكون بقريته سيرين بجوها وترابها وأشيائها الغاربة الى الأبد .سيرين الأم والتراث الروحي الجمالي .ذات الجرس والوقع الأسطوري .
وكأنها منزوعة من عالم ألف ليلة وليلة . أو ربما هي تداعيات شوق الى الأمس الضائع .أو ربما هي المرأة/الحلم التي راحَ يحدثنا عنها ويقارب ما بين زمنه وزمنها بوجع متفلت .ويحلم بكتابتها في لا وعيه الصافي طيلة ثلاثة عقود.بلغة ثائرة متمردة محتشدة بالشوق الى الحرية والكمال . تليق بجمالها وتحرّقه الأبدي .
هي الأنثى الموعودة التي ملأت عالمه الخاص وحواسه بالأطياف الزاهية وذهب خلالها يبحث عن فتاته الأخرى ومعناه المجرّد وعن أجوبة لأسئلة وجودية كثيرة أضنته كما أضنت جلجامش.
انَّ أروع ما في رواية كاتبنا هو هذا المونولوج الداخلي مع الطبيعة أولا ومع نفسه ثانيا ومع فتاته أخيرا .حوار يبدأ من خصوصية حميمة وينطلق الى أرجاء العالم الفسيحة محللاً وكاشفا ومسلطاً النور على مناطق معتمة داخل النفس البشرية والذات المبدعة تحديدا من خلال أستشهادات وفلسفة راقية عميقة لكتاب وروائيين كبار مثل ساراماغو وتوفيق الحكيم الذي أحسست تأثر الكاتب بأسلوبه.
وأفكار استقاها الكاتب من قراءاته المختلفة .وكانت حصاد ثقافة عميقة واسعة زينّت المشهد الدرامي بصور رائعة ودقيقة بعيدة كل البعد عن المباشرة والتقريرية والأنفعالية .بل تتخذُ المجاز والأيحاء البليغ والأستعارة .لباساً قشيبا وشفافا لدلالات ومعان ظاهرة ومضمرة مبعثرة هنا وهناك في حنايا الرواية. حيث يأخذنا بمهارة عالية من حالة الى أخرى مع زخم تعبيري واضح لخفايا نفسيّات أبطاله
ولواعجهم الى حرقة الإنتظار كل هذه السنين ليكتمل الحلم .أو النبوءة .أو الأمل الذائب في نفسه لتحقيق ما فاته وهو في شبابه الغض.بواسطة تمثلّه تجربة فتاته وأحتضان حاضرها وماضيه وجعل الناصرة مدينته التي أحب شوارعها وحاراتها وأزقتها مركز هذا العالم وبؤرة ضوئه .
يحاول الكاتب أن يستعيد أحلامه المفقودة وماضي مجد الحضارة العربيه التي ينتمي اليها معنويا في مواجهته الشاب المتأورب أو المتأمرك ربيب العولمة الداعية الى طمس الهوية الانسانية التي تؤثث حياتنا بالغنى الروحي والتطلع الى غد اكثر اشراقاً وجمالا من الأمس. غد مغسول بالطمأنينة
ترمز اليه نهايه الرواية المعلّقه والمفتوحة على الأنعتاق .
ولقد نحسُّ أن الكاتب جعل من هذه الفتاة العشرينية صدى هائما للحياة التي يبحثُ عنها .كمن يفتشُ في سادوم الجديدة عن فردوس مفقود .أو ربما كانت تذويب لحظات الحريّة والأنفلات داخل نفسه الحزينة الصارخة في عالم فوضويِّ قاسٍ معذّب .نصاب فيه بقلق وجودي عظيمْ.فالشوارعُ يصفها الكاتب بالقسوة في لهجة طافحة بالمرارة.واليأسْ .
كذلك الحياة أيضا تريدُ أن تفترسه وكأنها تنين ضارٍ
مرعب,حتى في مناجاته للشجرة التي تحمل عدة أبعاد ,لا يخفى هذا الحس بالضياعْ وبالأزمة المصيرّيه الملحة على نفسه وعلى كيننونته كأديب,
حتى في حواراته نلمسُ التمزقَ الروحي يقف كالشبح خلف الكلمات وثنايا النص الموغل في الكشف عن سحرية الحياة والحب.المصاغ بشعرية عالية لا نسمع الاّ رفيفها ,وبكثافة رائعة.تختزل قصر الرواية أختزالا جميلاً ,وتتركها مشرعة ومقنعة وموجعة في الآن معا .
" هل تريد أن تكتب روايه" فاتحة خير في أدبنا المحلي وخطوة جريئة الى الأمام ,وقنديلٌ فضيٌّ
جريح في مملكة الظلام .أتمنىّ لحامله الكاتب الأخ ناجي ظاهر أن يستمرَّ في طريقه تلك. المحفوفة بالتحدّي الأكبر ويتحفنا بروائع أخرى كهذه علّه يجد فيها ضالته ُ أو يصل الى شاطئ مجهول بعد رحلة ٍ
أودوسيوسيه أرهقته كثيرا ً . فله الحياه ودوام الأبداع الجميل كروحه.