الأنا والآخر

والامتلاء والخواء

في شعر حسان بن ثابت الإسلامي

د. كريم الوائلي

تثير القصيدة في صدر الإسلام معضلات ومشكلات متنوعة ، يتصل بعضها بالعقيدة الجديدة وكيفية تعبيرها عن مضامينها من ناحية ، ويتصل بعضها الآخر بخصائصها الفنية بعد التحول الذي أحدثه الإسلام من ناحية أخرى ، وأعني بالخصائص الفنية : إيقاع القصيدة ، ولغتها ، وبنيتها، وصورها. ويكتنف كلا البعدين تصور أشمل طرحه الإسلام ، ولذا فإنَّ فهم القصيدة ووعي مشكلاتها لا يتأتى باجتزائها عن سياقها التاريخي والاجتماعي ، أو اجتزائها عن طبيعة الرؤية التي عبرت عنها.

ويمكن تمثل العقيدة الجديدة في ضوء المحورين التاليين :

الله  الكون

الله  الإنسان

ويمثل الطرف الأول « الله » ، سبحانه وتعالى ، بوصفه فاعلاً واحداً ، ويمثل الطرف الثاني «المنفعل» بالخلق من ناحية ، و« الخضوع » للناموس الذي حدده له الله من ناحية ثانية ، إذ خلق الله الكون والإنسان ، وحدد لكل منهما قانونه ، الأول : في كيفية حركة الكون ودورانه ، والثاني : في شريعة تنظم للإنسان حياته.وتنسجم الشريعة وتتناغم مع طبيعة الناموس الذي يحكم حركة الكون ، ومما لا ريب فيه أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون والإنسان والقانون ، وما دام الخلق والقانون يصدران عن واحد فإنه من الطبيعي أنْ يحدث بينهما هذا التماسك الذي تؤكده الشريعة وتدعو إليه ، فإنْ حبذَّ مجتمع ما قانوناً بشرياً على القانون الإلهي حدث التعارض بين نواميس الكون والقانون الإنساني ، وهذا من شأنه أنْ يبعث على تغاير وتعارض بين حركتي القانونين.

ولقد نقلت العقيدة الإسلامية المجتمع من التعدد إلى التوحد ، الانتقال من تعدد الرؤى والأرباب ، إلى توحد في رؤية ورب أحد ، والانتقال من التعدد القبلي والعرقي إلى التوحد في أمة ، وتجاوزت العقيدة الإسلامية الطروحات التي تمايز بين الناس على أساس العرق واللون إلى التمايز على أساس العمل.

إنَّ العقيدة الإسلامية أحدثت كل هذا التغير من جهة تفسير الكون والمجتمع والإنسان ، وأحدثت تغيراً في رؤية الإنسان على المستوى الاجتماعي ، فهل أحدثت تغيراً في تحديد مفهوم جديد للأدب ووظيفته ؟ وإن كان هذا صحيحاً فما هي طبيعته ؟.

ولو توقفنا عند الآيات القرآنية الكريمة التي تعرضت لقضية الشعر لألفيناها على النحو التالي :

المجموعة الأولى :

آيات قرآنية تدافع عن الرسول والرسالة ، وتنفي عنهما صفة الشعر ، وهي : « وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ » [1] و « بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » [2] و« وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ »[3] و« أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » [4] و«وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ»[5].

المجموعة الثانية :

آيات قرآنية تؤسس مفهوما جديدا للشعر ، وهي :«وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ،أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ،وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ،إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»[6]

 فالآيات القرآنية في المجموعة الأولى: كانت في موضع دفاع ، فهي تنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الشعر، وتنفي عن القرآن الكريم أنْ يكون شعراً ، ومن الجدير بالذكر أنَّ بعض هذه الآيات جاورت بين الشعر من ناحية والافتراء وأضغاث الأحلام والجنون من ناحية ثانية ، وإن هذه الأخيرة جميعا لا تقدم معرفة يقينية ، وليس هناك من تطابق لها مع الواقع.

أما الآيات القرآنية في المجموعة الثانية فإنها تميز بين الشاعر الصالح والطالح

فالأول : ملتزم بتعاليم الإسلام وقادر على التعبير عنها أدبياً من غير ازدواج بين التصورات الفكرية والأداء الفني ، والثاني : لا يؤدي هذا الدور ، وقد قلل القرآن الكريم من شأنه وأهميته، فهو مصدر غواية ، وإنه يقول ما لا يفعل ، وهذا من شأنه أنْ يدلَ على رفض لنمط من التعبير الأدبي ، وتبنٍ لنمط آخر. ويؤكد من ناحية أخرى أنّ القرآن الكريم كان له موقف خاص من الشعر واضح الملامح والأبعاد ، بخلاف من يرى « أنّ القرآن الكريم لم يصدر حكماً بعينه على الشعر، ولم يتخذ منه موقفاً خاصاً» [7]ويدعم هذا التصور الديني والأخلاقي أحاديث نبوية ، كما أنّ بعض الصحابة كانوا يفضلون شعراء بعينهم [8] لتأديتهم معاني أخلاقية ، أو تعبيرهم عن دلالات تتوافق مع بعض القيم الدينية. وهذا يعني أنَّ الأديب لا يعيش بمعزل عن عصره وواقعه الاجتماعي ، ولكنه يقدم تصوراً لمفهوم التزامي معين ، بمعنى : « مشاركة الفنان في شئون عصره ومجتمعه ، ولا بد أن تكون هذه المشاركة فعالة ونابعة من وعي تام ، أي أنَّ الأدب الملتزم يجب أن يحمل في طواياه رؤية الفنان لقضايا عصره ، وأن تكون له رسالة وغاية»[9].

إنَّ الالتزام مصطلح فلسفي  نقدي وفد إلينا من الآخر ، وقد ظهر كما يقول ماكس إديريث ««نتيجة لتأثير الأيديولوجيات الحديثة على الأدب... ومن أجل ذلك فإنَّ هذه الأيديولوجيات تجبر كل امرئ منا على أن يعيد فحص موقفه نقدياً من العالم ومسئوليته نحو الآخرين ، وتحت تأثيرها ينظر الكاتب  بصفة خاصة  إلى عمله من منظور جديد ، أي أنه يلزم نفسه على اتخاذ موقف » [10].

ولسنا نسعى إلى إسقاط مفهوم الالتزام المعاصر على تراثنا الشعري ، ولكن من المؤكد أنَّ بعض مكونات الالتزام لها حضورها في تراثنا الشعري منذ زمن الرسالة الأول  ومروراً بالأحزاب السياسية وتوظيفها للأدب في معاركها الأيديولوجية في المرحلتين الأموية والعباسية ، وسواء التقت مكونات الدفاع الأيديولوجي في تراثنا الشعري مع مفهوم الالتزام بمفهومه الغربي العام أم لم تلتق فإنَّ هذا لا يمنع أن نتحدث عن نوع محدد من الالتزام.

وقد أدرك حسان بن ثابت أنَّ هناك تغيراً فكرياً وحضارياً أحدثه الإسلام ، وأن هناك تغيراً في الواقع الاجتماعي تأسس عليه ، وكان لا بدَّ أن يتخذ موقفاً من هذين التغيرين المتلازمين ، فانحاز لهما على حساب ثوابت الرؤى الجاهلية ، إذن فهو صاحب موقف على مستوى الاعتقاد ، وهو منحاز إلى رؤية محددة المعالم والملامح.

وقد أثار شعر حسان من البداية معضلة العلاقة بين الأيديولوجي والفني ، ولذا فنحن إزاء مفهومين : الإلزام ، والالتزام ، أما الإلزام فإنه يفصل بين الفني والأيديولوجي  ويجعل الأيديولوجية متحكمة في الفني ، أي أنَّ الأيديولوجية تتحكم في العمل الفني من الخارج ، وأما الالتزام فإنَّ الأيديولوجية « يجب أن تنبع من ذات الفنان وأن تكون ججزء اً لا يتجزأ من شخصيته » /b> [11]بمعنى أنَّ هناك جدلاً وتفاعلاً بين الأيديولوجي والفني ، بحيث يكون الأيديولوجي والفني وجهين لعملة واحدة ، ولا يوجد أحدهما إلاّ بحضور الآخر.

ويثير ديوان حسان بن ثابت اشكالات عديدة ، منها ما يتصل بتاريخية النص الشعري ، من حيث نسبته إليه ، ووضعه عليه ، ومنها ما يتصل بخصائص القدسية التي أضفيت على الشاعر الذي قدمه الرسول مدافعاً عن العقيدة بقصائده الشعرية التي تضارع

السهام في القتال ، إن لم تكن أكثر فتكاً منها ، حتى إنَّ الرسول قال مخاطباً إياه بأن روح القدس تشاركه الفعل أو معه في هجاء أعداء الدين. ومن الاشكالات التي تعترض الدارس أيضاً ما إذا كان النص الشعري الذي أبدعه حسان بن ثابت نصاً شعرياً جديداً تنسرب في ثناياه روح الإسلام شكلاً ومضموناً ، أو أنه عانى ازدواجية في الإبداع الأدبي ، بمعنى أنه قدم مضامينه الإسلامية في ثياب جاهلية.

 إنَّ ديوان حسان بن ثابت كثر فيه الوضع ، ويدل على ذلك موقف اابن سلام الجمحي ، الذي أدرك أثر العوامل السياسية والقبلية في وضع الشعر ، ويعي أنَّ قريشاً قد وضعت على حسان بن ثابت قصائد عديدة لم يقلها ، لدرجة يصف ذلك بأنه « قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد ، لما تعاضهت واستتب، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لاتنقى» [12]  كما أن دارسين معاصرين ينحون المنحى نفسه ، ولعل مما يؤكد ذلك التفاوت الواضح في الأداء الفني لقصائد حسان بن ثابت التي وردت في ديوانه ، مما تبعث على الاعتقاد بأن شعره قد وقع فيه وضع كثير ، ولذا ينبغي على دارس ديوانه أن يتحرز كثيرا في درسه كي لا يجاور بين الأصيل والموضوع ، ومما لاشك فيه أنَّ هناك قصائد صحت نسبتها إليه  ومنها قصيدتان ومطلع الأولى  [13] :

تَبَلَتْ فؤادكَ في المنامِ خَريدةٌ

تسقي الضجيعَ بباردٍ بسامِ[14]

ومطلع   الثانية  :

 عفت ذات الأصابع فالجواء

إلي عذراء منزلها خلاء [15]

ويمكن لهاتين القصيدتين أن تضيئا جانباً من الإبداع الشعري لحسان بن ثابت ، وبخاصة أنَّ إحداهما قيلت بعد معركة بدر ، والأخرى قيلت بعد فتح مكة ، فهما تواكبان تطور نمو الرسالة في الفكر والواقع ، وتؤرخان للحدث وللفن على السواء.

القصيدة الأولى

تَبَلَتْ فؤادكَ في المنامِ خَريدةٌ

تسقي الضجيعَ بباردٍ بسامِ /span>

ويمكن تأمل هذه القصيدة في ضوء ثلاث دوائر متلاحقة ، وتحكمها جميعا العلاقة المتغيرة بين «الأنا والآخر » ففي الأبيات من 1  7 يمثل الأنا الشاعر ويقابله الآخر المحبوبة ، والأبيات من 8  10 يمثل الشاعر الأنا ويقابله الآخر العاذلة ، والمقطع الأخير من 11 إلى آخر القصيدة يمثله الأنا الشاعر ويقابله الشاعر الآخر وال « نحن » المسلمة وال « هم » المشركة.

المقطع الأول :

1- تَبَلَتْ فؤادكَ في المنامِ خَريدةٌ

تسقي الضجيعَ بباردٍ بسامِ

2- كالمسكِ تخِلطُهُ بماءِ سحابةٍ

أو عاتقٍ كدمِ الذبيحِ مُدامِ

3- نُفُجُ الحقيبةِ بَوصها متنضَّدُ

بلهاءُ غيرُ وشيكةِ الأقسامِ

4- بُنيتْ على قَطَنٍ أجمَّ كأنه

فُضُلا إذا قعدتْ مَداك رُخام

5- وتكاد تكسل أن تجيءَ فراشَها

ففي لِين خَرعبةٍ وحُسن قَوامِ

6- أما النهارُ فلا أفتِّرُ ذكرَها

والليل تُوزعني بها أحلامي

7- أقسمتُ أنساها وأترك ذكرها

حتى تُغيَّب في الضريح عظامي [16]

ويتجلى في المقطع الأول حسان بن ثابت بوصفه : مذكراً عاشقاً شاعراً منهزماً  فجمال المحبوبة أسقم الشاعر قلباً وجسداً ، لأنها تبلته ، أو أنها ذهبت بلبه وعقله، وتقابله المحبوبة المؤنثة الجميلة المنتصرة فهي تمثل الطرف الفاعل في حين يمثل الشاعر الطرف المنفعل [ҏ�Ē1] ومن الجدير بالذكر أنَّ الشاعر يقابل بين سقم فؤاده وبهاء محبوبته ، وانَّ فعل السقم أوقعته هذه الفتنة ، بمعنى أنَّ جمال المحبوبة علة سقم الشاعر، وتؤدي المحبوبة دوراً مزدوجاً : سلبياً وإيجابيا ، ويتوزع هذان الدوران في زمني الماضي والحاضر ، « في شطري البيت الأول» إذ يقع السقم في الزمن الماضي ، الذي لا تزال آثاره مستمرة ، وإذا كان الشاعر يواجه المتلقي بأحد شقي دوره المزدوج  أقصد التعارض القائم بين خصائص الجمال الذي تتميز به المحبوبة وأثرها السلبي على فؤاد الشاعر بإحداث السقم فيه  فإنَّ الجانب الإيجابي يختفي فيه التعارض إلى تلاحم جسدي ، إذ يوحي الفعل المضارع «تسقي» والمفعول « الضجيع » بفعل يمكن وصفه بخاصية شبقية ، بما يشتمل عليه السقي من إشباع وآراء الظامئ ، صحيح أنَّ نسبة الارواء تتم عبر الفم ورضابه الذي يوصف هو الآخر بالفتنة والبهاء ، وكناية عن فعل جنسي تام.

ومن الجدير بالإشارة أنَّ التركيب النحوي يتمايز في ضوء الدور المزدوج الذي أشرت إليه ، فعلى الرغم من أنَّ كلا البعدين يبدأ بفعل هو الماضي « تبلت » في الأول  والمضارع « يسقي » في الثاني ، غير أنَّ الفاعل  في الصدر  يتأخر عن الفعل والمفعول ويفصل بين المفعول والفاعل فاصل هو شبه الجملة « في المنام » وإذا كان الفعل والمفعول حاضرين فإنَّ الفاعل لا يدل عليه إلاّ وصفها «خريدة » وهي الفتاة الحسناء الجميلة  ونؤكد هنا دلالة البكر التي لم تفترع بعد ، ويتكون التركيب النحوي على النحو التالي:

فعل + مفعول به + جار ومجرور + فاعل./span>

إن تقديم الفعل وكون الجملة فعلية يعني تكرار الحدث وإمكانية زواله ، غير أنَّ التباعد بين الفاعل والمفعول به يدل على مستوى التركيب عدم تلاحمهما ، وحين ننتقل إلى العجز نلاحظ تمايزاً جديراً بالتنويه ، إذ يتم ترتيب التركيب النحوي بحيث تكون الجملة مكونة من :

فعل + فاعل مستتر + مفعول به + جار ومجرور + صفة.

إنَّ الفاعل هنا مستتر ، وهو متجاور على مستوى التركيب مع المفعول به ، فكأنَّ التركيب النحوي يدل بالتجاور على مشاطرة الفعل ، لأنَّ الشطر لا يدل على التفاعل  في حين يشتمل العجز على ذلك.

ومن الملاحظ أنَّ الشاعر في كلا الموقفين كان معرفة إما بإضافة الضمير إلى كاف الخطاب ، وهو يقصد نفسه على نحو التجريد ، وفي الثانية معرف بأل « الضجيع » غير أنَّ المحبوبة في كلا الموقفين نكرة كما في قوله «خريدة » أو فتاة خريدة ، وكونها ضميراً  وعلى الرغم من كون الضمير أحد المعارف ، فإنه هنا مستتر.

وويمكن استكمال التصور بمتابعة عروضية ، إذ يتميز الشطر بتفعيلاته التامة :

تبلت فؤادك في المنام خريدة

متفاعلن متفاعلن متفاعلن

في حين اشتمل العجز على تفعيلتن مضمرتين ، أي تحول الثاني المتحرك إلي ساكن :

تسقي الضجيع ببارد بسام

مستفعلن متفاعلن مستفعل

وكأنَّ الجانب العروضي يسهم هو الآخر في الإشارة إلى هذا التمايز لتدل التفعيلة التامة على تناغم مع طبيعة الموقف الذي أسقم فؤاد الشاعر ، في حين تسهم التفعيلة المضمرة على تحقيق رضا الشاعر في الموقف ، أعني التفعيلة التي كثر فيها الساكن بسبب الإضمار.

أما البيت الثاني فيعمد فيه الشاعر إلى التفصيل في تشبيه هذا البارد البسام، ويتكئ على أداة التشبيه «الكاف » مرتين ، كالمسك ، وكدم ، ومن الجدير بالذكر أنَّ الشاعر يعتمد هنا المقومات الحسية الشمية في المسك ، والذوقية في عذوبة ماء السحابة ، والبصرية في لون الخمرة ، التي تشبه دم الذبيح ، ولعل في هذه الحمرة ودم الذبيح ما يوحي بالعلاقة الجسدية بين الشاعر ومحبوبته البكر التي لم تفترع من قبل.

إنَّ الشاعر يجمع بين الفتاة الشابة والخمر القديمة المعتقة ، وليس في هذا تعارض  لأنَّ الشاعر يجمع بين نضارة الفتاة ونضارة الخمرة ، فإنَّ نضارة الأولى بحداثتها، ونضارة الثانية بقدمها،. وقد تدل الخمرة على خاصية البكورة والعذرية ، فلقد ألح الشاعر العربي على تشبيه الخمر بالعذراء ، وإذا كان الوجدان العربي يميل إلى البكر فلعل لون الخمرة التي شبهها بدم الذبيح توحي بافتراع الخمرة ، وكناية عن افتراع العذراء أيضا.وعلى الرغم من أنَّ هذا الجمع بين هذه الألوان يوحي في مذاقنا المعاصر نشازاً/span> فإنه يحقق قدراً من انتصار المزهو الذي ترافقه إراقة الدماء ، أو الإيحاء بإراقتها.

ولم يقتصر الشاعر على ذلك بل انتقل إلى وصف أردافها « نفج الحقيبة» ، وإذا كانت الحقيبة ما يردفه الراكب وراءه ، والنفج هي المرتفعة فإنه يشير إلى أردافها المتنضدة التي يعلو بعضها بعضاً ، إنَّ مثال الجمال عند العرب يميل إلى المرأة المكتنزة ، وهذا ما يؤكده حسان أيضا ً، وهو يواصل وصفه لهذه الملامح الحسية للجمال، إذ ينتقل من الأعلى متمثلا بالثغر إلى الأسفل نحو الأرداف ، ويتحدث عن اكتناز هذه المنطقة من الجسد ونعومتها ، بحيث تغيب العظام وسط امتلاء اللحم « بنيت على قطن ».

وإذا كان للشاعر حضور في البيت الأول ، منفعلاً وفاعلاً ، وتشاطره المحبوبة في ذلك ، فاعلة ومنفعلة ، فإنها تستأثر بالحضور في الأبيات 2  5 ، ويغيب فيها الشاعر  ليظهرا معا في البيتين :

6- أما النهارُ فلا أفتِّرُ ذكرَها

والليل تُوزعني بها أحلامي

7- أقسمتُ أنساها وأترك ذكرها

حتى تُغيَّب في الضريح عظامي

وفي هذا الجزء يستدعي حسان بن ثابت الأنا التي تكاد تختفي في الأبيات السابقة  وقد كان حضورها هنا مكثفاً عبر اقترانها بأفعال مضارعة ، منها فعلان مضعفان« أفتَّر » « تغيّب » وهما يفيدان المبالغة والتكثير ، وعقد الشاعر جملة من المقابلات مستعملا أسلوب التعارض : الليل / النهار ، أفتر / توزع ، ذكر / أحلام ، فيحض الشاعر « أناه » للدخول في مواجهة تداعيات تمثلت في الزمن ، وهو زمن مقترن بمعاناة على المستويين المادي والمعنوي ، ويتمثل المادي في المعاناة الجسدية في الإرهاق الذي أصاب الشاعر بسبب الذكرى ، وتمثل الثاني في ممعاناة داخلية شعورية تتحد فيها صورة المحبوبة بالطيف أو بالحلم ، وهو زمن كما يبدو زمنا مغلقا ، يبدأ بالنهار لينتهي بالليل ، وقد دل هنا على نزعة تدميرية ، وقد أسقط الشاعر حرف النفي في قوله « أقسمتُ أنساها وأترك ذكرها » فاكتسب البيت معنى الحركة والصيرورة ، فكأنَّ المحبوبة أسطورة ملكت عليه الزمن والحس والوجدان.

أما المقطع الثاني :

8-يا من لعاذلةٍ تلومُ سفاهةً

ولقد عصيتُ إلي الهوى لُوَّامي

9-بكرتْ اليَّ بسُحرةٍ بعد الكرى

وتقاربٍ من حادث الأيام

10- زعمت بأن المرءَ يُكربُ عمره

عُدْمٌ لمعتكرٍ من الاصرام

11- إنْ كنتِ كاذبةَ الذي حدثتني /span>

فنجوتِ منجى الحارث بن هشام [17]

فهو على الرغم من كونه امتداداً للوحدة السابقة فإنَّ مجرى الحديث يتغير ، وتحل صورة المرأة العاذلة محل الحبيبة ، وقد استهل هذا المقطع بأسلوب إنشائي ندائي ولكنه لم يستعمل للنداء فحسب ، وإنما في قالب تعجبي استنكاري ، فكأنَّ الشاعر يتعجب من فعل هذه العاذلة ، التي عذلته في حب برحه.

وتتبدى في هذا المقطع ثنائية الأنا والآخر ، وهي لا تختلف عن سابقتها إلا في موقف أحد طرفيها من الآخر ، : مذكر في مواجهة المؤنث ، غير أنَّ الأنا تبدو هنا متمردة في وجه الآخر « العاذلة » ، ولكنه تمرد سلبي ، ومهما يكن فهو انتقال من الهزيمة إلى حالة الرفض والمواجهة.ويتبدى ذلك في الأقل على مستوى المفردات : وصف الآخر بالسفاهة  وعصيت إلى الهوى لوامي.

ويحاول حسان بعد مقدمته الغزلية طرق موضوعه ، إذ يعقد مقارنة بين تفكيره  وهو محب عاشق ، وتفكير العاذلة ، ولعلها الزوجة ، فبينما يرى الشاعر أنَّ الحياة مأساة تتجلى في الحزن ووفاء العاشق ترى العاذلة أنَّ الحياة جهد ومعاناة وفقر.

أما المقطع الأخير :

12- ترك الأحبةَ أنْ يقاتل دونهم

ونجا برأس طِمِرَّةٍ ولجام

13- جرواءَ تمزعُ في الغبار كأنها

سرحانُ غابٍ في ظلال غَمامِ

14- تذرُ العناجيج الجياد بقفرةٍ

مرَّ الدَّموك بمحصدٍ ورجامِ

15- ملأت به الفرجين فارمدَّت به

وثوى أحبته بشرِّ مُقام

16- وبنو أبيه ورهطُهُ في معركٍ

نصرَ الإله به ذوو الإسلام

17- لولا الإله وجريُها لتركنه

جَزَرَ السباع ودسنه بحوامي

18- طَحنتْهُمُ والله ينفذُ أمرُه

حربٌ يُشبُّ سعيرُها بضرام

19- من كل ماسورٍ يُشدُّ صفادُهُ

صقرٍ إذا لاقى الكتيبة حامي

220- وَمُجَدَّلٍ لا يستجيبُ لدعوةٍ

حتى تزول شوامخ الأعلام

21- بالعار والذل المهين إذا رأوا

بيضَ السيوف ِتسوق كل همام

22- بيدي أغرّ إذا انتمى لم يخزهِ

نسبُ القصارِ سَميدعٍ مقدام

23- بيضٌ إذا لاقت حديداً صممتْ

كالبرق تحت ظلال كل غمام

24- ليسوا كيعمرَ حين يشتجر القنا

والخيل تضبُرُ تحت كل قَتام

25- فسلحت أنك من معاشر خانةٍ

سُلْحٍ إذا حضر القتال لئام

26- فدعْ المكارمَ إنَّ قومك أسرةٌ

من ولد شَجْعِ غير جدِّ كرام

27- من صُلب خِندِفَ ماجدٍ أعراقُهُ

تجلتْ به بيضاء ذاتُ تمام

28- وَمَرنَّحٍ فيه الأسنة شُرَّعاً

كالجفر غيرِ مقابلِ الأعمام [18]

فيحافظ الشاعر على الثنائية لكنها تتحول من مذكر في مقابل المؤنث إلى مذكر يقابله مذكر ، وشاعر يقابله شاعر ، ومدني يقابله مكي ، ومؤمن يقابله مشرك ، وتتحول الأنا من الأنا المنهزمة أو المتمردة تمرداً سلبياً إلى الأنا المنتصرة أمام المنهزم الآخر ، كما تتحول الأنا الفردية لدى الشاعر إلى الأنا الجمعية من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع المتكلم ، وهذا له دلالته أي الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، كما أنَّ الانتقال من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع المتكلم تحتمه طبيعة سياق القصيدة حيث يهجو الشاعر الحارث بن هشام وجماعته  بحيث تصبح اللوحة مشتملة على الأنا / النحن في مواجهة الآخر / الجماعة ، أي جماعة في مقابلة جماعة أخرى.

مخطط بناء القصيدة :

1-المقطع الأول : من البيت 1 إلى البيت 7 : وصف إيجابي للحبيبة يطغى فيه حضورها.

2-المقطع الثاني : من البيت 8 إلى البيت 11 : تنازع الخطاب بين الأنا »الشاعر « والأنت »/span> العاذلة «.

3-المقطع الثالث : من البيت 12 إلى االبيت 28 :

تعيير الحارث بن هشام.

وصف الخيل.

سيطرة خطاب الجماعة.

مقطع هجائي تطغى فيه الحركة /span> » حركة الخيل والحرب « وتتنازعه الأفعال والصفات بكثافة ، وتتخلله بعض المفردات الدينية الإسلامية النادرة ، وعددها خمس مفردات في أربعة أبيات ، وهي : الإله والإسلام في البيت 16 ، والإله في البيت 17 ، والله في البيت 18 ، ودعوة في البيت 20.

القصيدة الثانية

ويمكننا تأمل قصيدة حسان الثانية من خلال ثنائية الخواء والامتلاء ، إذ تتبدى تجربة الشاعر الفردية إزاء مثير خارجي » الطلل « ، إنَّ ععلاقة الشاعر بالطلل علاقة حسية تكتنفها التجربة الفردية ، وتتجلى ملامح الخواء في الزمان الحاضر المقفر ، ويعارضه الزمن الماضي المفعم باللقاء والحياة.

إنَّ الشاعر يتأمل الزمن في الطلل ، وكأننا أمام نزعة وجودية تنتاب الإنسان فهو وحيد منفرد يعزي نفسه إزاء الزمن الذي غير كل شيء. ويبدو الشاعر وقد ضاق ذرعا بذلك وأحس تأثير ذلك في الإنسان والحياة معا ، ومما يؤدي هذا الفعل » عفا « الذي يستهل به الشاعر قصيدته ، وكأنَّ البيت ينتهي بحركة دائرية تشبه الزمن المطلق ، تبدأ من حيث تنتهي ، بمعنى أنَّ الزمن يبدأ بالفناء » عفت « وتنتهي بفناء آخر«خلاء».

 1 عَفَتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ

إلي عذراءَ منزلُها خَلاءُ

وينتقل الشاعر من ثم لجملة من المتقابلات تتبدى من خلالها مأساة الشاعر المتمثلة في الخواء ،إذ يستمر تأمل أثر الزمن وفعله التدميري الذي يطال كل شيء : ديار الحبيبة التي كانت رمزا للحياة والخصب والنماء ، فحولتها قدرية الزمن وعشوائيته إلى مجرد ربوع دارسة :

ذات الأصابع والجواء                     عفت

ديار بني الحسحاس                         قفر

منزل الحبيب                خلاء

وتتجلى حدة المأساة في تفجع الشاعر من فعل الزمن ، وتصل المأساة ذروتها حين يتعارض زمانان متنتاقضان ، حاضرٌ مقترن بالخواء والإعفاء والدرس ،وماضٍ مقترن بالامتلاء والحركة والحياة ، غير أنَّ مأساة الشاعر تتجاوز كل شيء حين يلاحظ أنَّ الزمن يدمر كل شيء ، بما في ذلك الأشياء الحسنة، ولعله كان مستغرباً كيف يأتي الزمن على ديار بني الحسحاس الذين اشتهروا بالجود والكرم ، ليحول الزمن ديارهم إلى أطلال دارسة  ومن الجدير بالذكر بروز حرف السين بشكل جلي في هذا البيت :/span>

2  ديارٌ من بني الحسحاسِ قَفْرٌُ

تُعفِّيها الروامسُ والسماءُ

وكأنَّ هذا الحرف بخصائصه الصفيرية يعبر عن حركة الرياح وعصفها وآثار المطر عليها.

وينتقل الشاعر من حالة الخواء إلى امتلاء تخيلي أول الأمر ، تمليه تداعيات وذكريات عديدة ، صحيح أنَّ الشاعر مهد لذلك بمؤثرات نفسية تنبيء عن مظاهر الخصب والنماء في البيت :

33  وكانتْ لا يزالُ بها أنيسٌ

خلالَ مُروجها نَعَمٌ وشاءُ

التي تتبدى فيها دار الحبيبة في الحاضر تفيض بالخضرة وتشتمل على وجود الأنيس فضلا عن إبله وأنعامه التي ترعى المروج.

أما البيت الشعري :

4  فدع هذا ولكن من لِطيفٍ

يُؤرقني إذا ذهب العِشاءُ

فإنَّ الشاعر يحاول التخلص من الاستهلال الطللي عبر فعل أمر فيه نوع من الجبر والقسر فكأنه أراد العزوف عن تلك الأطلال ، للتوجه إلى الحبيبة ، وكأنَّ صورة الحبيبة حاضرة تدعوه إلى ذكرها ، فينزع نحو وصفها، وقد اقترن ذلك بذكر ريقها ، مشبها إياه بالخمر ، وكلاهما وسيلة إنعاش وانتشاء ، إذ تمثل المرأة هذا البعد على المستوى الجسدي  والخمر تحققه على المستوى الروحي ، ويعمد الشاعر إلى التخلص عبر عنصر الخمرة إلى غرضه الأصلي ، فيقرن نشوة الخمرة بالبطولة متوسلا في ذلك بمعنيين للبطولة : سياسية وتوضحه لفظة » ملوك « وحربية وتحدده لفظة »أسْد«.

ومن الجدير بالذكر أنَّ الشاعر قد انتقل من الخواء في الطلل إلى امتلاء تخيلي في استدعاء طيف الحبيبة ، وفي شرب الخمرة ، إنَّ استعادة طيف الحبيبة إنما هي عملية تخيلية لا تعبر عن حالة واقعية متيقنة ، فهي إذن محاولة امتلاء تخيلية تؤدي وظيفة تعويضية ، كما أنَّ الخمرة ، على الرغم من كونها تؤثر في وجدان الشاعر فإنها توهمه في مدى تأثيرها  فهي من هذه الناحية تحقق امتلاء تخيليا.

إنَّ الأبيات الشعرية من البيت الأول إلى العاشر وما تلاها في قوله:

1 عَفَتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ

إلي عذراءَ منزلُها خَلاءُ /span>

22  ديارٌ من بني الحسحاسِ قَفْرٌُ

تُعفِّيها الروامسُ والسماءُ

3  وكانتْ لا يزالُ بها أنيسٌ

خلالَ مُروجها نَعَمٌ وشاءُ

4  فدع هذا ولكن من لِطيفٍ

يُؤرقني إذا ذهب العِشاءُ

5  لشعثاءَ التي قد تيمته

فليس لقلبه منها شفاءُ

6  كأنَّ سبيئةً من بيتِ رأسٍ

يكون مِزاجُها عسلٌ وماءُ/span>

7  على أنيابها أو طعمَ غَضٍّ

من التفاحِ هَصَّرَهُ الجَناءُ

8  إذا ما الأشرباتُ ذُكرنَ يوماً

فهنَّ لِطَيِّبِ الراحِ الفداءُ

9  نُولِّيها الملامةَ إن أَلَمنا

إذا ما كانَ مغثٌ أو لِحاءُ

10  ونشربُها فتتركُنا ملوكاً

ووأُسْداً ما ينهنهُنا اللقاءُ

11  عدمنا خيلنا إن لم تروها

تثيرُ النقعَ موعدُها كَداءُ

12  يبارين الأعنة مصعِداتٍ

على أكتافها الأسلُ الظماءُ

13  تظل جيادنا مُتمطراتٍ

تُلَطَّمُهُنَّ بالخُمُرِ النساءُ/span>

14  فإما تُعرضوا عنا اعتمرنا

وكانَ الفتحُ وانكشفَ الغطاءُ

15  وإلا فاصبروا لِجِلادِ يومٍ

يَعزُّ اللّه فيه من يشاءُ

16  وجبريلٌ رسولُ اللّه فينا

وروحُ القُدُسِ ليسلهُ كفاءُ

17  وقالَ اللّه قد أرسلتُ عبداً

يقولُ الحقَّ إن نفعَ البلاءُ

18  شهدتُ بهِ فقوموا صدقوهُ

فقلتم لا نقومُ ولا نشاءُ

19  وقالَ اللّه قد يسرتُ جُنداً

هُمُ الأنصارُ عرُضتُها اللقاءُ

20  لَنا في كُل يومٍ من مَعَدٍّ

 سبابٌ أو قتالٌ أو هجاءُ

21  فَنحكمُ بالقوافي من هَجانا

ونضربُ حينَ تختلطُ الدماءُ

22  ألا أبلغ أبا سفيانَ عني

فأنتَ مُجوَّفٌ نخبٌ هواءُ

23  بِأنَّ سيوفنا تركتَك عبداً

وعبدَ الدارِ سادتُها الإماءُ

24  هجوتَ محمداً فأجبتُ عنهُ

وعندَ اللّه في ذاكَ الجزاءُ

25  أتهجوهُ ولست لهُ بكفءٍ

فشركُما لخيركُما الفداءُ

26  هجوتَ مباركاً براً حنيفاً

أمينَ اللّه شيمتهُ الوفاءُ

27  فمن يهجو رسولَ اللّه منكم

ويمدحهُ وينصرهُ سواءُ

28  فإن أبي ووالده وعرضي

للعرضِ مُحمدٍ منكم وقاءُ

29  فإما تَثقفنَّ بنو لؤيٍ

جُذيمةَ إنَّ قَتلهُمُ شفاءُ

30  أولئك معشرٌ نصروا علينا/span>

ففي أظفارنا منهم دماءُ

31  وحلفُ الحرث بن أبي ضرارٍ

وحلفُ قُريظةٍ منا براءُ

32  لساني صارم لا عيبَ فيه

وبجري لا تكدرهُ الدلاءُ [19]

تؤكد تجربة الشاعر الفردية حيث الانتقال من الخواء إلى الامتلاء التخيلي ، ومن ثم تكون العلائق على النحو التالي :

الزمن الماضي : زمن التواصل

الزمن الحاضر : زمن الانفصام

الطلل                   خواء

الطيف                  امتلاء تخيلي

الخمرة                  امتلاء تخيلي

وتسير القصيدة في نسق تصاعدي تبعا للحالة النفسية للشاعر فمن الامتلاء التخيلي إلى حالة الامتلاء الحقيقي المتحقق في القسم الثاني ، إذ ينتقل للحديث عن جيش المسلمين الذي خاض معركة ظافرة ، إذن هناك انتقال من لوحة أولى تتوزعها مجموعة من اللوحات تمثل تجربة فردية حيث التعبير بضمير المفرد المتكلم ، إلى لوحة أخرى تمثل التجربة الجماعية حيث الحديث بضمير الجماعة ، فضلاً عن الانتقال من الحديث عن جوانب حسية في القسم الأول إلى حديث عن جوانب معنوية في القسم الثاني ، وعبر كل هذه الخطوات لم يتخل الشاعر عن استعمال المفردات الجاهلية إلا في المقطع الأخير حيث عمد إلى الابتعاد عن التشبيهات والاستعارات مما أدى إلى ضعف فني واضح تحولت في ضوئه القصيدة إلى نوع من النص الخطابي.

 مخطط بناء القصيدة :

القسم الأول :

من البيت 1 إلى البيت 3 : وقوف على الطلل  ديار بني الحسحاس وحديث عن قفرها وخلائها.

من البيت 4 إلى البيت 5 : مقطع غزلي وصفي يتغير فيه مستوى الخطاب ويحيل إلى ضمير الأنا.

من البيت 6 إلى البيت 10 : حديث عن الخمرة ، صفاتها ومؤثراتها.

القسم الثاني :

من البيت 11 إلى البيت 13 : تعرض للخيل ووصف لها ، معجم حربي يسيطر على المقطع.

من البيت 14 إلى البيت 15 : مفاخرة ووعيد يتلون فيه الخطاب ليبرز الفتح الإسلامي.

من البيت 16 إلى البيت 21 : مقطع خطابي :

الثناء على جبريل.

مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.

الاستشهاد بالمقدس.

من البيت 22 إلى البيت 32 : مقطع هجائي

دفاع عن الرسول ودعوته ودينه الجديد.

رد الهجاء ومفاخرة يغيب فيها البعد القبلي.

خطاب النحن الأمة بدلا عن القبيلة.

مخطط المعجم الشعري :

من البيت 1 إلى البيت 13: سيطرة المعجم الجاهلي والتقاليد الفنية الجاهلية.

من البيت 14 إلى بيٍت 32 :سيطرة الخطابية » لا شعر فيه« سيطرة المعجم الإسلامي.

وعدد المفردات 18 مفردة في 10 أبيات ، وهي : اعتمرنا والفتح في البيت 14 ، ويعز الله من يشاء في البيت 15 ، وجبريل رسول الله ، وروح القدس ، في البيت 16 ، و الله  وأرسلت عبدا ، ويقول الحق ، في البيت 17 ، وشهدت به ، وصدقوه ، في البيت 18  والله ، ويسرت جندا ،في البيت 19 ، و محمد ، والله ، والجزاء ، في البيت 24 ، وأمين الله ، في البيت 26 ، ورسول الله في البيت 27 ، ومحمد في البيت 28.

              

[1]  سورة يس ، آية : 69.

[2]  سورة الأنبياء ، آية :5.

[3]  سورة الصافات ، آية : 36.

[4]  سورة الطور ، آية :30.

[5]  سورة الحاقة ، أية : 41.

[6]  سورة الشعراء ، الآيات :224  227.

  [7] عبد القادر القط ، في الشعر الإسلامي والأموي ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1976 م.  ، ص 120.

[8]  أبو هلال العسكري ، كتاب الصناعتين ، لكتابة والشعر ، تحقيق محمد علي البجاوي ومحمد أبو الفضل ، إبراهيم ، دار الفكر العربي القاهرة ، الطبعة الثانية ، د. ت.ص 162.

[9]  عبد الحميد ابراهيم شيحة ، في كتاب : في النقد والأدب ، ص 109.

[10]  نفسه.

[11]  نفسه ، ص 132.

 [12]  ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء ، تحقيق محمود محمد شاكر ، مطبعة المدني ، القاهرة ،د.ت ، 1/215.

[13]  شوقي ضيف ، العصر الإسلامي ،دار المعارف بمصر ، د. ت ، ص 81  82.

[14]   عبد الرحمن البرقوقي ، شرح ديوان حسان بن ثابت ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1981 ، ص 415.

[15]   نفسه ، ص 51.

[16]   نفسه ، 415.

[17]   نفسه , ص 416.

[18]  نفسه ، ص 416  418.

[19]   نفسه ، ص 54  63.

فهي تمثل الطرف الفاعل في حين يمثل الشاعر الطرف المنفعل ، وتؤدي المحبوبة دورا مزدوجا : سلبيا وايجابيا