مكمن الحسن في التخلص

مكمن الحسن في التخلص

عن محكي الذاكرة في "سوق النساء"(1)

د.إبراهيم عمري

الكلية المتعددة التخصصات- تازة

 لقد شكلت الرواية المغربية مركز اهتمامنا منذ مدة. وهو اهتمام نابع من انشغال عام بالرواية المغاربية. وليس في نيتنا سرد مبررات هذا الاختيار أو التذكير بمختلف مظاهر المنجز الروائي المغربي انتاجاً وتلقياً. ولكننا نجد أنفسنا في كل مرة ملزمين بالتلميح إلى أحد أهم هذه المبررات التي تفسر راهنية هذا الاهتمام ومشروعية استمراره.

فقد بات من السهل على المتتبع أن يعاين بجلاء هذا التراكم الكمي اللافت والتطور النوعي الواضح في الكتابات الروائية المغربية بوجه خاص والمغاربية بوجه عام. وقد ساهم كلاهما في تأسيس ملامح خصوصية فنية آخذة في التشكل. ونحن إذ نشير إلى مفهوم الخصوصية، لا نبغي به تلويحاً بمفاضلة لن تكون إلا متهافتة بين المغربي والمشرقي، ضمن تقاليد روائية عربية هي ذاتها قيد التخلق والاكتمال. إننا نروم، بخلاف ذلك، التأشير على تميز وتفرد باتا يتجاوزان في اعتقادنا مستوى المضامين ليطولا البناء والشكل الفني وطرائق الكتابة، أي مستوى الخطاب بما هو طريقة نوعية لتقديم الوقائع وتشخيصها فنياً في نص سردي.

من هذا المنظور العام تشكل رواية "سوق النساء أو ص.ب: 26"(2) لجمال بوطيب تجربة جديدة ضمن هذا التطور النوعي الذي تشهده الرواية المغربية المعاصرة على يد جيل جديد.

وإذا كانت هذه التجربة تبدو للوهلة الأولى محتفية بالذات وبعوالمها الداخلية وأحلامها وآلامها وتجاربها في الحياة، مولية لضمير المتكلم عناية خاصة، فإننا نسعى إلى تسليط الضوء على بعض تجليات هذا الاختيار الفنية، وتداعياته الجمالية انسجاماً مع تصورنا للخصوصية كما عبرنا عنه أعلاه.

الذاكرة مصدر المحكي

إن إثارة انطباع أولي جرى على أساسه نعت "سوق النساء" برواية البوح بالذات وإليها ليس في واقع الأمر سوى تلميح إلى أحد أهم المظاهر الفنية التي ساهمت في توسيم النص بجمالية خاصة. ونقصد به اتخاذ الذاكرة مصدراً للمحكي على نحو صار معه منطقها الخاص هو المتحكم في انتظام المتواليات الحكائية. وعلى أساس هذا الاختيار الفني أضحت البنية السردية بوجه عام، وتمفصلاتها الزمنية بوجه خاص تجوالاً في الأمكنة المتباعدة وتداخلاً بين عوالم متنائية، ومجاورة لخطابات متنابذة.

وبناء على هذه المعاينة الأولى يبدو المنطق الذي يحكم تتابع الأحداث وتتداعى بموجبه الأفكار أو الأقوال غير خاضع لتعاقب زمني موضوعي بل خاضع لقوة أثر هذه الأحداث في الذات، ولحجم حضورها في الذاكرة.

وجرياً على عادة الراوي الشفوي الذي ينتقل فيما يشبه التداعي الحر من موضوع إلى آخر مشعباً حكايته الأم إلى حكايات صغرى، يتنقّل سارد "سوق النساء" بين الفضاءات والخطابات في محكي يجمع بين تلميح الرمز وتصريح البوح وكثافة المثل الشعبي وتفاصيل اليومي، غير آبه بتماسك الحكاية أو بتتابع الفصول، منتصر لتعدد اللغات وتنوع الأصوات والضمائر، جيئة وذهاباً بين الماضي والحاضر في حركة هي إلى منطق التذكر أقرب، وإلى توارد الأفكار أدنى، حيث يكون تشابه عابر بين المواقف أو بين الألفاظ حتى هو مبرر التنقل وذريعته.

إن ذكر فاس حيث سافرت الحبيبة لبانة كان، على سبيل المثال، كافياً لاسترسال السارد في الحديث عن الشعر والشعراء ومهرجانات فاس(3). كما أن وصف المنعطف الحاسم في علاقة عبد الرحيم العاطفية أو ما اسماه ثنيةً مناسبةٌ للعب بالكلمات انطلاقاً من تشابه لفظي أو معنوي.

فنعت التحول العاطفي بالثنية، والثنية بـ"المريرة"، وإثارة دلالات المرور والمرارة هما ما سيبرر انعطاف السارد نحو حكاية أخرى هي حكاية المرأة الحمليلية. وقصة المرأة هذه تصير بدورها مناسبة لتوشية لغة السرد بعبارات عامية أقرب إلى العربية من العربية ذاتها(4). ثم إن الإشارة السريعة إلى وضعية المرأة التي تركتها الحافلة بعد أن ضلت الطريق، ستتحول إلى جسر ينتقل عبره السارد إلى قصة مقهى القامرة انظلاقاً من مبدإ تعميم الحالة: "ما أصعب أن نترك إنساناً في منتصف الطريق"، "وما أتعس المتروك حين يمكث في مكانه عاجزاً عن الفعل..."(5).

وكأن الجناس اللفظي والمعنوي هو ذاته من يستنفر الذاكرة ويحرضها على إحلال شبه سرعان ما يتجاوز اللفظ ليطول الموقف أو الوضعية. ويقتضي هذا الإجراء السردي حالة راهنة تستدعي حالة نفسية أو وضعية سابقة مماثلة قد يصرح السارد بوجه الشبه بينهما أو يُترك إلى فطنة القارئ. وغالباً ما تنتمي الحالة المشبه بها إلى مرحلة موغلة في الماضي لتأكيد قدرة الذاكرة على الجمع بين المتباعدين، وكفاءة السارد بالذاكرة في إحلال الماضي السحيق في الحاضر. إنه ارتجاع بالمشابهة بصيغة الجمع وانعطاف إلى الماضي لا يني يتكرر يتم تحيينهما بنمط من اللعب على وتر جناسي هو مكمن الحسن في التخلص من موضوع إلى آخر ومن حكاية أم، هي حكاية عبد الرحيم ولبانة، إلى حكايات فرعية متباعدة في الزمن متجاورة في النص، متنائية في الواقع متساكنة في الذاكرة.

من قصة عبد الرحيم ولبانة إلى قصة جبور الفكيكي، ومنها إلى قصة الأستاذ المسن القريب من الأرض، ثم إلى أجواء الجزائر تظل الذاكرة هي الخيط الرابط بين تعدد الفضاءات وتواتر الحكايات وتبدل أحوال الشخصيات وتنوع الضمائر والأصوات. وإذا ما أردنا التنصيص أكثر، نجد الانتقال الأول مقترناً بقول السارد: "لا أذكر من قال لي يوماً حين أزعجته بشكواي.."(6)، والانتقال الثاني مقترناً بقوله: "لماذا لم أكتشف قبل اليوم أن هناك خيطاً غير مرئي يربط بين الذاكرة والقلب"(7)، فيما يُصدّر انتقاله الثالث بقوله: "أحقد على هذه الذاكرة التي عششت فيها بثقل ينوء حمله بمثخن مثلي"(8). وكأن السرد يحاكي بناء الحكاية لحظة انبثاقها من ذاكرة السارد بتصدعاتها المفاجئة. ونتيجة لذلك "تفجر الزمن الروائي إلى لحظات متنافرة تنتمي إلى الماضي (زمن الاستذكار) والمستقبل (زمن الاستشراف) تتخلل الحاضر (زمن الكتابة). فعوض التعاقب الزمني، هناك التزامن، مما يطبع البنية الزمنية العامة بالتقطع وعدم الترابط"(9). وكأني بعبد الرحيم السارد يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة، ولا تقف سوى اللغة حاجزاً في وجه التدفق المتزامن للأفكار والأقوال والأحداث. ولهذا السبب لا يقيم فعل البوح للتسلسل والترابط والتنظيم وزناً، ولا يعير طبيعة الحدث اهتماماً. ويحس القارئ بفيض من الذكريات والأفكار وسيل من الأحاسيس والمشاعر وكثير من وقائع الماضي وجزئياته تتدافع لكي تنكتب وتحظى بحظها في الوجود. غير أننا، وفي غمرة ذلك كله، نستشعر نوعاً من الغياب، وأن هناك "شيئاً يصعب تذكره وقد يستحيل استحضاره، وهناك كلاماً لا يجد طريقه إلى القول، ومن هنا نلاحظ هذا الميل إلى بلاغة الحذف والإيجاز والتكثيف والرمز والإيحاء واستعمال الأمثال والحكم والأشعار"(10).

 فالجمع في ثنايا خطاب الشخصية بين الحلم والتذكر والاستيهامات والأسئلة من جهة، واستعادة الماضي في شكل شذرات تتخلل الأفكار الراهنة من جهة ثانية، يوهمان بتدفق عفوي للأفكار ولكنهما يُفقدان المحكي طابعه التسلسلي ويجردانه من انسيابه الزمني الخطي، وينحوان به نحو "الحذف وترك الفجوات كناية على أن الحدث الداخلي يجري في الشعور"(11), ولذلك جاز لنا اعتبار السارد الشخصية غير مبالٍ بنقل أحداث الماضي لذاتها بقدر ما انصب اهتمامه على وصف أثر هذه الأحداث في الذاكرة.

الرواية الجديدة لقارئ جديد

يملك الأثر الأدبي، حسب تصور، إيزر، قطبين: فني وجمالي. ويعود الأول إلى النص الذي ينتجه المؤلف في حين يعود الثاني إلى التحقق الذي ينجزه القارئ. ولذلك يرى إيزر أن موقع العمل الأدبي هو حيث يلتقي النص بالقارئ. وهذه "القطبية" هي التي تفسر استحالة اختزال العمل الأدبي في أحدهما. والنص بهذا المعنى يتمتع بخاصية الاحتمالية أو الافتراضية منها تنبثق ديناميته التي تشكل بدورها شرط الأثر الذي ينتجه. ومن هذا المنطلق لا يمكن للنص الأدبي أن يوجد إلا بفعل تشكّل وعي يتلقاه، ولن يتخذ طابع السيرورة إلا خلال القراءة (12. ويلجأ العمل الأدبي التخييلي إلى جملة من الإجراءات الفنية التي تطبع بنياته بطابع خاص، يمكن اعتبارها نداءات موجهة للقارئ تتغيا إشراكه في بناء دلالته. ولعل الرواية الجديدة أصبحت تراهن أكثر من أي وقت مضى على تحقيق هذا التفاعل مع قارئها.

فتعدد الضمائر ووجهات النظر في "سوق النساء"، وتنوع الرؤى للحدث الواحد دون انتصار لأي منها أو تغليب إحداها على الأخرى، واختلال فصول الرواية ونسف تتابعها، وبعثرة أوراقها لتبني ترتيب غير منطقي في الظاهر، والإصرار على حذف الفصلين الرابع والسادس مع توجيه تنبيه من السارد إلى القارئ ينوه فيه بضرورة التريث في إصدار أي حكم قبل قراءتهما، هي في واقع الأمر إجراءات فنية تجعل من القارئ طرفاً أساسياً في تحيين النص ونقله من حال الإمكان إلى حال التحقق. فـ"القراءة (كما قال إيزر) هي اللحظة التي يشرع فيها النص في إنتاج تأثير ما"(13).

وتشكل هذه الإجراءات في الوقت نفسه إحراجاً لأنظمة السرد والكتابة والتلقي ووضعها موضع تساؤل وتشكيك، وكناية على سخرية الرواية من أنظمة تمجد اليقين، ومن مواثيق متعاقد بشأنها بين المؤلف والقارئ. وقد حرصت هذه المواثيق، خلال عقود من الزمن وعبر تراكمات إبداعية شتى، على تقديم عوالم تخييلية منتهية، لم تفض في حالات كثيرة سوى إلى استنساخ قارئ مستكين إلى التام والمتسلسل والمترابط، غير مقبل على ممارسة حريته إلا وهي محروسة وموجهة. وحده اللعب حين يسمو إلى مرتبة الكتابة "يستطيع أن يزلزل هذه الأنظمة ويعيد تشكيلها وترتيبها ويقول وجهها العبثي واللامعقول، وينشر القلق والتوتر، ويسمح للأنا الكاتبة أن تكتب وفق النظام الذي تراه مناسباً"(14)، وللأنا القارئة أن تمارس حريتها في إعادة ترتيب فصول الرواية نشداناً لما لم يقله النص وتعمّد رواته تمويهه وخلط أوراقه إمعاناً في إرباك القارئ تمهيداً لتوريطه.

إن الحقيقة التي بالغ عبد الرحيم (السارد الأول) في تقديم تفاصيلها وترميم أركانها سرعان ما ستتهاوى دماراً وشكوكاً على لسان لبانة (السارد الثاني)، وستشيد هذه على أنقاضها بنياناً خمّنت أنه محكم ومقاوم لأي زلزال محتمل. وسيتوهم القارئ أنه كذلك إلى حين مفاجأته برؤية سارد ثالث تلذذ بنسفه بوجهة نظر توهم بالحياد.

بين المؤنث والمذكر وضمير المتكلم وضمير المخاطب، الأنا والآخر، لا يرى عبد الرحيم ذاته إلا في مرآة لبانة، ولبانة تصر على أن تنأى مقتربة وتمعن في الاقتراب متنائية. ويظل كلاهما مديناً في اكتماله لغيره.

إن الرواية تشكك في ذاتها وهي في طور البناء، والحقيقة فيها لا تكاد تستقر على حال إلا لتزيحها حقيقة أخرى. والزمن يلتف حول نفسه، واللحظة تستنكر للديمومة والاستمرار. وفي أثناء ذلك كله يظل ما قيل قاصراً عن بلوغ ما يشفي الغليل. ويومئ إلى البتر والبياضات في كل حين، وكأننا بصدد مراحل لا يمكن تذكرها وتفاصيل يستحيل استعادتها حية نضرة إلا حينما تأذن بذلك الذاكرة. وتظل الحقيقة الوحيدة في النص هي غياب الحقيقة الوحيدة. ويبقى اكتمال الرواية رهيناً بالقارئ، إليه يوجه تنبيه السارد الذي فتح الاحتمالات على مصراعيها. وكما أن الكتابة تحولت بحق إلى عزاء في الحب والعشق والأم والفقدان والغياب، يمكن للقراءة بقليل من التعب أن تردم الهوة بين فصول الرواية القائمة وفصولها المتوقعة. وكما أن حياة عبد الرحيم ولبانة ابتدأت مع أول سطر في الرواية وانتهت مع آخرها، فما تبقى منها لا يوجد سوى في ذهن القارئ ومخيلته وكفاءته. فالرواية كما قال روب غريي (Alain Robbe-Grillet) ليست أداة أو وسيلة، ولا يجب تصورها قياساً على عمل موجود سلفاً. كما أنها لا تصلح لاستعراض الأشياء الموجودة قبلها أو خارجها أو ترجمتها. إنها لا تعبر بل تبحث. وما تبحث عنه هو ذاتها. ولذلك يجوز لنا أن نردد معه أن الرواية الجديدة تكتب الواقع ولا تكتب عنه أو تخبر به. أي أن العالم الحقيقي هو ما يحيط بالسارد وما يؤثث به فضاءه. وكل ما سوى ذلك مجرد زيف ولا قيمة له. وحتى ينكشف هذا العالم كله ويصبح معلوماً، ستواصل الرواية بحثها عن مسارات لا زالت مجهولة حيث تغدو كتابة جديدة أمراً محتوماً(15).

وبذلك نجحت "سوق النساء"، كما هو رهان نماذج أخرى من الرواية المغربية المعاصرة، في إقحام القارئ عنوة وتوريطه في لا اكتمالها. وإذا كان الروائي الحقيقي هو من يجعل ممارسة الكتابة مغامرة حقيقية لا تؤول إلى نهاية منظورة(16)، فإن ما أصبح يطلبه اليوم من القارئ هو مشاركته الفعالة والمبدعة، وليس استكانته إلى عالم منته ومنغلق على ذاته لا دور له في بنائه.

خلاصة

إن بناء المحكي على أساس الانقطاع والحذف يروم في الحقيقة توجيه انتباه القارئ إلى زيف الترتيب والتسلسل. وإذا كانت الكتابات السردية التقليدية قد حاولت ولزمن طويل تأسيس شعرية للمترابط والمتصل، فإن الكتابة الحديثة تتغيا، على النقيض من ذلك، تأسيس شعرية للمنقطع وغير المترابط جرياً على هدى السارد الشفوي وهو يلاحق المشاعر والأحاسيس ووقائع الماضي إلى أقصى تخوم الذاكرة وفي شعابها وتجاويفها، محاولاً الإمساك بخيط قد يكون رأس الحكاية أو جسدها. وهو في حال يشبه حال المتصوف في شطحاته ورعشاته. وفي بوح مثل هذا لا يهم إن كانت بداية البوح ومكاشفة الذات رأس خيط أو خيط رأس مادامت الذات قد اختارت بلوغ الشفاء عن طريق الشقاء. وعلى القارئ عهدة إعادة ترتيب شطحات السارد هذه. ولا شك في أننا نحن قراء "سوق النساء" قد نتفق على ضرورة القراءة ولكننا نختلف حتماً في أبواب ولوجها. ولا شك أيضاً في أن قارئاً ألف ممارسة حريته في ملء فجوات نصوص مشابهة والاستجابة لنداءاتها وتعود على التحرر من كل توجيه مسبق في التأويل، لن يكون قارئاً سهلاً أو غبياً ليفرط في حريته تلك.