قراءة في نقوش على محاريب حماة
(ليحيى البشيري)
أبو الفرج الناعوري
قالوا : إن الألم منبع الحكمة ، و إن المحنة صانعة الرجال فهل من ريب في أن كليهما معين للأدب لا ينضب ؟
وأي الآلام والمحن ، وأي الرجال والآداب نعني ؟ إنه الألم العبقري الذي تجلو أدمعه الأحداق لتبصر البعيد قريبا ، إنها المحنة الدافعة إلى المضي قُدما على درب الحق ، إنه الرجل الذي صدق ما عاهد الله عليه ، إنه الأدب النابض بالحياة ، المستمد خلوده من صدق التجربة وروعة التعبير !
لا نغالي إذا قلنا: إن هذا الشعر يأتي مؤرخا لأحداث جسام في زمن بات فيه الصدق في التأريخ حلما عسير المنال ، فبعد أن يتلقى التاريخ ضربة التزييف القاضية لا غرو أن يفقد الذاكرة أو يكره على تضليل ضحاياه من الأجيال اللاحقة …
هذه المجموعة الشعرية ( الملحمة ) نقوش على محاريب حماة ، أنات ألم ، وزفرات غضب ، وصيحات جهاد فيها من الألم أصداء لشدو النواعير وحديث الشهداء ، فيها من الغضب عالم ينبض بالأحاسيس والمشاعر الفياضة نحن أولاء بإزاء الأدب الخالد الذي يقنع العقول ويلهب المشاعر ، وسبيله إلى الإقناع ضياء الحق الأبلج وسلاحه في التأثير بها الخير وحسنه الفتان ، فمن كان هذا سبيله ، وذاك سلاحه فهو الأديب الإنسان ..
إنه على الرغم من البلاءات التي حاقت بالأمة والجراحات التي أثخنت المدينة المجاهدة (حماة ) يقف الشاعر في ذكرى مآسيها لا ليندب ولكن ليبث الحمية ، لأن الاستمرار و المصابرة أول طريق النصر
أيُّ ذكرى يابنةَ العاصي تمرُّ
أي ذكرى ؟
ودِمانا لم تزل تُهديكِ عطرا
حملتْ للفتح بُشرى
أطلعتْ للحق فجرا
وشباطُ الغدر عادْ
حاملا جرحا ونارا
ولهيبا للغيارى
ثم يبدأ الشاعر ملحمته في النشيد الأول (لقاء مع الملك المؤرخ أبي الفداء على أبواب حماة ) فيطلب منه ألا يدخل إلى المدينة ، لأنه سيجد غير ما كان يعرفه !
لن تبصرَ غيرَ النيرانِ
فحماةُ –فديتكَ – أنقاضٌ
ودخانُ و ركامُ دخانِ
وقد عصف بها البغي والإجرام ، وانتفش الإرهاب والعسف! ولكن أيعجز الملك أن يجد المأوى فيها !
لن تبصر زاويةً ترضى
أن تفتح بابا لمسافرْ
فجنودُ البغيِ خفافيشٌ
و وباءٌ يعصف بالناسِ
وحماةُ ظلامٌ وركامُ
وضحايا يذبحها الغادرْ
وفي نشيد ( ملحمة النواعير ) لا عذر لمعتذر لقد كان الصمت الخسيس كما يسميه العلامة محمد الغزالي – رحمه الله – يسيطر على الجميع
مرفوضٌ عذرُ المعتذرِ
مرفوض ودمائي تجري
ونواعيري تشدو ألما
هو بعضٌ مما في الصدرِ
مرفوض عذر المعتذرِ
و(شباطٌ) يشهد مأساتي
مرفوض لستُ بنعمانٍ
يرضى أعذارَ (الذبياني)
وينقل الشاعر في نشيد ( صور من المأساة ) صورة تدين الصمت الخسيس مرة أخرى وهو يذكر بما حدث في ثلاثين يوما
عندما يُرسل مأفونٌ جنودا في الظلامِ
ويباحُ الوطنُ المصفودُ شهراً للئام ِ
عندما يَنبعث الأحياءُ مِن بين الركامِ
عندما تُمسي الجماهيُر نزيلاتِ الخيامِ
أيُّ خيرٍ أيها العالَمُ يبقى
ولماذا الصمتُ في وقت الكلامِ ؟!!
ثم يتوجه إلى القاتل الذي أدمى عيون الأطفال ويلتفت إلى الوطن المكبل وقد ملئ جراحا و آلاماً
مَن أذرى دمعكَ يا وطني
دُررا للحزن جُمانيه
وأباح حماكَ لشِرذمةٍ
لم ترقُبْ إِلاَّ أو ذِمّه
في الأمة ، وجراح الأمةْ
ومضت تغتالُكَ يا وطني
في حملةِ قتْلٍ همجيّةْ
وحوصرت المدينة وليس لها من معين ولا مغيث ،وخرست الأصوات فلا تسمع لها ركزا وسكت الغرباء حمرا وصفرا ، فُرساً وروماً ، و خفَتَ صوتُ الأشقاء ودخلت عساكر الظلام إلى أحياء المدينة تقتل بالآلاف … وتعتقل بالمئات … والصمت الخسيس يلبس الجميع
مَنْ قال : الإنسانُ بخيرِ
مَن قال؟ الغابةُ في شرِّ !
من قال: فمأساةُ العصرِ
قد فاقت كلَّ الويلاتِ
مما أدركه الإنسانُ
في ليل التاريخ البشري
ما يفعل حيٌّ في بلدٍ ؟
لا ماءٌ فيه ولا قوتُ
وبه آلافٌ مِن جرحَى
ومئات الأطفال تموتُ
وتنفجر خبايا الحقد، والحقد لا يسقط بالتقادم ! أليست حماة هي التي وقفت في وجه الغزاة على مر التاريخ وأخزت المتآمرين مع الصليبيين والفرنسيين ؟
وفي نشيدَيْ مذبحة المآذن والمؤذنين ، واقعة ليس فيها أدنى مجال للخيال
وعلا صوتٌ للأحقادِ
فلتُهدمْ كُلُّ مآذِنهم
وتُدَكَّ محاريبُ الذكرِ
فَليُؤتَ بهم قبل الفجرِ
لِنزيلَ حناجرَ مَن يدعو
ونقطِّعَ أوردةَ القلبِ
وينطلق الخاسئون إلى المقابر تلك التي تضم رفات الأبرار على مدار التاريخ وفي نشيد ( مذبحة المقابر ) يدور الحوار بين الأموات ويتساءلون عن ذلك المجرم الذي جاء ليعكر عليهم هدوءهم وأمنهم
وتكون الفاجعة حين يطل أحد الموتى ليرى أكواما من الجثث وفيها نبض الحياة
عجبا هل يُدفنُ مخلوقٌ
في القبر ، به بعضُ حياةِ
فأنا ما جئتُ لمقبرتي
إلا مِن بعد الغرغرةِ
ومضت ساعاتٌ مِن موتي
وبُكيتُ وغسّلني الأهلُ
وأُخذتُ لأقربِ محرابٍ
وسَعِدتُ بتكبيرِ الناسِ
وأنا مِن مئةٍ أو أكثرْ
ما زلتُ أُقيمُ بمقبرتي
لم أسمعْ أحياءً دُفِنوا
عجبا ! أتبدلتِ الناسُ ؟
ويتساءل آخر لم يستطع أن يرى ما رأى الأول فيستحثه على نقل ما يجري ، فقد صُفت أعداد كبيرة من الأحياء قرب قبر (حفرة) !
-هل هم أمواتٌ ؟ أم ماذا ؟
- بل هم أحياءٌ قد صُفّوا
بجوار جدارٍ يختلجُ
هاهم سقطوا في لحظاتٍ
ودِماهم تنزف تمتزجُ
بأنينٍ غطّى الصرخاتِ
-هل ماتوا ؟ هل ماتوا؟ قل لي ؟
- لا أقوى أن أصِفَ المشهدْ
فاصعدْ لترى وأُفَضِّلُ أنَّكَ لا تصعدْ
قد جاء الوغدُ ليطمِرَهم
فبأيِّ مكانٍ يقبِرهم؟!
لم يبقَ مكانٌ في الحُفرِ
أيعود فينبشُ مَنْ دُفِنوا
من أيامٍ ، ليواريهم
فالتربةُ ضاقت بالجثثِ
وتكدّسَ في الحفرِ الموتى
ولم يكن الأحياء الذين بقوا في المدينة أحسن حظاً ففي (مذبحة المعتقلات ) أذيقوا الويلات
آلافا نحن هنا كُنا
وجموعا يأخذُنا الموتُ
عشراتٌ أرّقهم جوعٌ
ومئاتٌ ليس لهم مأوى
وتبدأ حملة القتل المبرمج بتفنن لم يُسمعْ به من قبل
سبعون شهيدا يا وطني
ضُغطوا بحديدٍ لحديدِ
فرؤوسٌ تُهشم و أيادٍ
وينوء حديدُ الأوغادِ
ويُلَطّخُ بدم الأبرارِ
قد صار الخبزُ لنا حُلُما
أو أملاَ يُنشَد بالوهمِ
والماءُ وأحْبِبْ بالماءِ
لم نٌبصرْه من أيامِ
بيداءٌ هذا المعتقَلُ
وجرادٌ هذا الجلادُ
لا يبقي شيئا لا يذَرُ
بَطِرٌ ، نَهمٌ ، وغدٌ أشِرُ
أفأُحرَمُ من خبز الوطنِ
وأُجوَّعُ و أنا في بلدي
ويَعزُّ الماءُ على الثمنِ
فيباعُ لنا بالقطراتِ
ويستمع أبو الفداء إلى ما حل بالمدينة المجاهدة المصابرة ،وقد شُيِّدَت الفنادق السياحية فوق أحياء كان تعبق بالتاريخ وعلى أجساد كانت تتلفع بالإيمان والتقوى .
ويريد أبو الفداء أن يجعل من هذه المذبحة فصلا من تاريخه ، فتطلب المدينة ألا يكتب عنها ؛ لأن الكثيرين لا يقرؤون التاريخ وإذا قرؤوه فهم لا يأخذون العبرة منه
لا تكتبْ عنّا تاريخا
فلَدَينا ذَلَّ التاريخُ
قفْ وانظرْ آلافَ القَتلى
قرؤوا التاريخَ وما حَسِبوا
أن يُبعث هولاكو فيهم
فسُطورُكَ لن تُحيي مجداَ
مهما سطّرتَ من الكتبِ
وجمَعتَ تواريخَ الدهرِ