"ظلال باهتة" رواية نازك ضمرة
"ظلال باهتة" رواية نازك ضمرة
هيمنة الأنثى وحلمية المكان لمواجهة «الدياسبورا»
د. مصطفى محمد الفار
لا تمتاز محاولات القاص والروائي نازك ضمرة في التصدي لقضايا المعاناة التي عاشها الفلسطينيون في الشتات، بالجرأة في تناول الأحداث فحسب، بل والمغامرة في اكتشاف الواقع اليومي الذي يعيشه المهجرون الفلسطينيون في مجتمعاتهم الجديدة، مصوراً همومهم، وهواجسهم، وما يعتري نفوسهم من أشواق، لم تُمحَ من ذاكرتهم رغم توالي الأيام، على الرغم من احتضان أخوتهم العرب لهم، وخاصة في الأردن "بلد المهاجرين والأنصار".
ونازك ضمرة واحد من الكُتاب الأردنيين المتميزين بالأسلوب الرمزي والسريالي في آن واحد، من حيث التوجه القومي، وشفافية الطرح الأسلوبي، من يقرأ قصصه ورواياته بإمعان يلمس روحه، وينفعل بموهبته القصصية، وبحرارة أفكاره التي يقضعا من مجتمعه موقف الشاهد، فيما يصف ويُحلل، أو يرصد من مواطن ومشاعر إنسانية صادقة، ومن خلال إضفائه أهمية خاصة على عنصر المكان في نصوصه الروائية والقصصية.
سبق لنازك ضمرة وصدر له ثلاث مجموعات قصصية هي: "لوحة وجدار" عام 1994، "شمس في المقهى" عام 1996، و"بعض الحب" عام2001، وروايتان هما: "الجرة" عام 1997، و"غيوم" عام 1999.
الرواية الجديدة "ظلال باهتة" التي صدرت حديثاً عن "دار فضاءات" تدور أحداثها حول هيمنة الأنثى وحلمية المكان في مواجهة العيش في الشتات أو ما يُطلق عليه المؤلف على لسان بطل الرواية "وديع" (الدياسبورا)، وتُركز في مضمونها على هيمنة المكان على الرواية، وهيمنة الأنثى الممثلة في بطلة القصة التي تحمل أربعة أسماء هي: "رامينة" و"فامينا" و"مينا" و"أمينة"، على الذكر المتمثل في "وديع"، بينما بطل الرواية "وديع" يُمثل دور الشاب غير المستقر في مكان ويرمز بذلك إلى الفلسطيني المشرد الذي يبحث عن هوية ووطن، فهو قد تنقل من قريته التي اضطر للنزوح عنها مع عائلته، إلى القدس، فرام الله، فعمان، فالزرقاء، فالسلط، والتحليق عند عين ماء حزير، وكذلك فهو ينتقل في سالف الأيام بين حيفا ويافا، وها هو ينتقل اليوم بين القدس وبيت لحم ورام الله، وكل هذه الأمكنة لم تكن تنفصل أو تكتمل إلا مع وجود الأنثى، فهي التي تُكسبها جمالها ووجهها المشع بالجمال والسحر، وتُضفي عليها كل ما يخطر على البال من بهجة وصور واطمئنان.
يلتقي "وديع" مصادفة "بأمينة"، أو "فامينا" أو "رامينة" أو "مينا" فهي أسماء كلها لفتاة واحدة، في سيارة أجرة متجهة من القدس إلى عمان، "أمينة" في زيارة إلى أقاربها الذين استقروا هناك بعد الهجرة، وهو في زيارة لعمته ولعمه المقيمين في الأردن، بعد أن اضطر الفلسطينيون للعيش في الشتات، أو ما يُطلق عليها "وديع" بطل الرواية (الدياسبورا).
وعلى الرغم من أن "وديعاً" قد أحب "مينا" "الفامينا" إلى حد الافتنان الشديد، إلا أن هذا الحب لم يُسفر عن نتائج إيجابية، ولم ترقَ إلى مستوى أكبر تنتهي بالزواج، وبسبب عدم استقرار "وديع" على حال نتيجة لما يُعانيه من ضغوط نفسية وطموحات شخصية وتردد وعدم استطاعته مجاراة جرأة حبيبته، بينما الحال مختلفاً عند "أمينة" "مينا" "الفامينة"؛ فهي جريئة، مندفعة في حبها "لوديع"، ولا تجد في اندفاعها وحماسها نحو هذا الحب ما يُحرج أو يُخجل أو يُعيب.
وهيمنة الأنثى ـ تبدو في سياق الرواية ـ على قلب الذكر واضحة، وسيطرة "أمينة" على "وديع" لا خفاء فيها، ولكن "وديعاً" يخشى من القدر وما يُخبئه المجهول، ولا يملك الجرأة التي لدى "أمينة"، مما يجعله يحسّ بالتخلف والإنكسار، يُضاف إلى هذا الشعور، استمرار "أمينة" في الحراك، وحب التنقل، بينما "وديع" غير قادر على التجاوب مع هذا الحراك.
وتستمر الرواية في الضرب على أنغام هذه المفارقة بين امتثال "وديع" للسطوة الأنثوية لدى "أمينة" على قلبه، ومحاولتها احتواء تردده وقلقه عبر قوة شخصيتها، ونضجها العاطفي، وجرأتها، ولكن "وديعاً" يبقى متردداً، لا يجير حراكاً تحت ثقل ما يُعانيه من ارتباك وعدم قدرة على مجاراة صديقته في جرأتها. ولهذا، فإن تيار الوعي الذي يُصوره نازك في الرواية يجعلنا نُدرك السمة غير المترابطة للوعي الخاص لدى "وديع" والتي تفصل بينه وبين "أمينة" من خلال هذا التقدم.
ويبدو إن نهاية الرواية تنتقل من موقع الإنجذاب اللامحدود نحو المحبوبة وانبهار "وديع" بشخصيتها المتميزة، وسطوتها عليه، وسيطرتها على قلبه، إلى الانسحاب بهدوء ورفق في نهاية الأمر، والاكتفاء من الغنيمة بالإياب.
وكأن المؤلف بهذا يرمز هنا إلى الإنخذال الكبير الذي يعتري الذكر أمام الأنثى الصادقة في عواطفها، القوية في شخصيتها، المتحررة من القيود الاجتماعية بجرأة وقوة، وفي هذا يُظهر لنا المؤلف كيف تُهيمن الأنثى على المكان، فيما يظل الزمن منكسراً، ويغدو ظلالاً باهتة، مع انكسار روحي ونفسي محير للبطل نتيجة لتردده وعدم استطاعته مجاراة الأنثى في الرحيل واختيار المستقبل المناسب.
من هنا، تبدو نهاية الرواية تنتقل من موقع الإنجذاب اللامحدود نحو المحبوبة والإنبهار بشخصيتها المتميزة، وسطوتها وسيطرتها على قلب "وديع"، إلى الانسحاب بهدوء ورفق، ونتيجة لهذه الأجواء غير المتكافئة تنتهي قصة حب بين قلبين لم تتكلل بالنجاح.
واضح أن المؤلف قد حاول من خلال ما قدمه من حوار بين الشخصيات أن يُقنعنا بالنتيجة التي توصل إليها عبر إشارات متشابكة، فهو وإن يعتمد المكان أساساً في تجميع مادته، سواء أكان ذلك تكليفاً معلناً أو غير معلنٍ إلا أنه يبقى على مسافة ما بينه وبين المادة التي يُقدمها ليرمز إلى الظلال الباهتة التي تُغلف الأحلام، فتُبعدها عن الواقع، وقد نجح إلى حد كبير في استخدام مونتاج المكان، واعتبره تكنيكه المكاني في التعبير عن هذا النوع من الظلال الباهتة التي تفصل بين الحلم والواقع، بين الاندفاع نحو الحب، والإحجام عن الإنزلاق في نتائجه، ونجح إلى حد ما في إعادة تقييم نسيج عمليات الشعور بالغربة التي يرمز بها إلى معاناة الفلسطينيين المهجرين عبر غربة المكان، الذي وإن بدا جميلاً زاهياً مغرباً، إلا أنه وعند الاقتراب منه لا يعدو أن يغدو مجرد سراب مستحيل المنال، وقد اعتمد المؤلف في إبراز هذا الواقع باستخدامه أسلوباً رمزياً غير تقليدي في تقديم الشخصيات، إذ راح يخلط الكوابيس والأحلام مع القطع الزماني والمكاني والاسترجاع، وقد سهَّل هذا الأسلوب مهمة الكاتب في الوصول إلى النتائج، حيث تستمر الأنثى في الحراك، بينما يُراوح الرجل مكانه نتيجة للحيرة والقلق وانعدام العزيمة.