قراءة في المسرح الشعري

نموذج ("عرس الشام" و"واشباح سيناء"

لد. خالد محيي الدين البرادعي)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

تقديم:

إن الحديث عن الإشكاليات المتشابكة في أصله بحث عن الأصل، والمَعْبَر الحقيقي الذي يوصل إلى تحديد الفارق والاختلاف هو من مستلزمات البحث العلم. وإشكالية المسرح الشعري أو الشعر المسرحي هي المنبه على هذه التشابكات،  فكثيراً ما كنا نقف على مثل هذه المصطلحات دون تمحيص وتفكيك؛ إلا أنه استرعاني اختلاف النقاد- والنقاد المسرحيين خاصة- حول تحديد هذا المفهوم، ولعل الأمر قديم قدم المسرح لأنه كما نعلم نشأ في أحضان الشعر كما نشأ الشعر في أحضان التشخيصات الدرامية التي لم ينتبه إليها إلا القليل من النقاد.

إن أهمية المصطلح لا تكمن في تحديده فقط، بل تتعداه إلى تمكين المتتبع من رسم الطريق الذي عليه يمكن أن يَبْنِيَ مفهوماته. و في تعاملنا مع هذا المصطلح لن نتوخى  أكثر من وضع اللبنة التي يمكن أن نشتغل من خلالها على النصوص المسرحية الشعرية، سواء أتعلق الأمر بالدراسة أم النقد.

في حديث بعض المهتمين بمجال المسرح لامسنا في كثير من الأحيان اعتمادهم مقولة " قدم المسرح في الوطن العربي"، وهذا أمر آخر، لكن في إطار التحديد نفسه يُعلَن عن الميلاد المسبق للمسرح الشعري ضمن الإطار العام الذي سار فيه الشعر العربي،إذ ما نجد فيه من أدوات تقترب إلى حد ما من الدراما جعل - مثلا- عمر محمد الطالب يعتبر ما " في الشعر العربي قصائد يكمن فيها خط درامي قوي ويمكن تحويلها إلى مشاهد مسرحية كما في العديد من قصائد عمر بن أبي ربيعة والفرزدق…"1

والأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى اعتبار ما كتبه أحمد شوقي من مسرحيات شعرية تحويلاً لأشعار سابق. وقد حاول أن يطبق ذلك على جملة من أشعار النقائض مثلا منطلقا من بنية المكان فالزمان إلى تشكيل الحوار عبر شخصيات شاعرية1، ليخلص إلى أنه " قد يعترض قائل بأنني حولت قصيدة غنائية إلى مسرحية شعرية  فأقسرت جنسا أدبيا على جنس أدبي، فأجيب مطمئنا بأنني لم أفعل أكثر مما فعل شوقي عند تأليف المسرحيات الشعرية"2. لكن شتَّان بين هذا الفعل "القسري" وتلك المسرحيات التي بقيت خالدة، فالاختلاف في الصيغة أولا وفي الوظيفة ثانيا يضع كل واحدة مي ميزانها.

وغير بعيد من هذا الرأي نجد محمد غنيمي هلال، الذي يقر قدم دور الشعر في المسرح لأن " للشعر في المسرح تاريخ أعرق من تاريخ النثر فيه، فلم يكن يدور بخلد ( أرسطو) أن المسرحية تكتب نثرا، بل إن حصر الشعر- المعتذبة عنده- في المسرحيات والملاحم، ولم يعبأ لذلك بالشعر الغنائي، على أنه جعل قيمة الشعر كلها في مقدرة الشاعر على المحاكاة."3 علينا إذن ألا نقع في خلط من قبيل قياس الشاهد على الغائب، فالمسرح الشعري باب من أبواب المسرح لا يتخطاه إلا الشاعر الملهم، بإضافة خاصية الإلمام بالأدوات والآليات المسرحية، والشاعر الذي:" يبتدع لغة مسرحية جديدة تتوجه إلى جمهور واسع من خلال ما تنطوي عليه من شاعرية في وظائفية الأكسسوارات التي تستعمل استعمالا شاعريا متعددا، وكذا من خلال تجسيدٍ فني للألعاب الطقوسية الشعبية، وتوحيد العنصر اللفظي مع العنصر الغنائي والحركي عبر شعرية مسرحية فذة."4

إن القول حين يصدر عن كاتب متمرس شعرا ونقدا، فإنه لا يسعنا إلا أن نثمنه لا مجاملة، وإنما لكونه أوضح المسير الذي يساعد على البحث والدراسة. فالقول الصحيح هو إن المسرح حين يكتبه شاعر إنما يستجيب لمجموعة الشروط التي تساهم في خلخلة كيان المتلقي وبعثه البعث الثاني الذي يؤرقه وينمي انفعالاته. لذلك :" فتأثرات الشاعر التي ينقلها  الممثل إلى الجمهور يجب أن يكون يعكسها هذا الأخير على الممثل، بحيث يتلاقى الثلاثة كأنهم روح واحدة."1

قد يتبادر إلى ذهننا، إن نحن أعطينا هذا الأمر بعدا مصطلحيا، أن الأمر يتعلق حينا بالمفهوم "المسرح الشعري" وحينا آخر "الشعر المسرحي"، لكن بحثنا في بنية التشابه والاختلاف بينهما لم يُفض إلا إلى إثبات دور الوظيفة التي يُثبتها كل عنصر على حدة. فالمسرح الشعري هدفه القبلي مسرح ومقصديته مسرح كذلك، فيما يتفاوت دور الشعر المسرحي بين تحقيق أولية الشعر على المسرح، وإضافة الثاني على الأول من غير قصد. فقد يكتب شاعرٌ قصيدة توحي للناقد المسرحي أنها تشتمل على آليات وقوالب  مسرحية، فنكون أمام شعٍر ذي خاصيات  مسرحي. لذا نلاحظ  صعوبة المسرح الشعري لأنه - كما قال د- أحمد شمس الدين الحجاجي- :" يتحرك في منطقتين: دائرة المسرح ودائرة الشعر، ولكي تنجح المسرحية عليها أن تتفوق في هاتين المنطقتين." 2 والتحرك في منطقتين متباينتين لا يأتيها إلا لبيب أو حاذق.

على كل حال، ومن وجهة نظر تبعد الخلفيات والنزاعات حول تحديد المصطلح، نحن لا نراهن على أحقية هذا الفعل (المسرح الشعري) إلا بتضافر جهد النظري والتطبيقي مع سمة الفعل الشاعري داخل المتن الدرامي. ولا نقول مع بول شاول :"بالتباس مفهوم النص المسرحي بالنص الأدبي أو الإنشائي، هذا الالتباس يجعل بعض الكتاب والشعراء والروائيين يكتبون نصا أدبيا جميلاً، فيه بلاغة وفصاحة واستعارة، وتورية وجمل مرصوصة، ويتوهمون أنه نص مسرحي، النص المسرحي مختلف عن النص الأدبي، وإذا كان بعض الشعراء كتبوا نصوصا مسرحية، فلأنهم جذبوا الشعر، كبنية مستقلة، إلى اللغة الدرامية، إنه شعر درامي، إنه شعر مسرحي قابل للأداء وجزء من العملية الدرامية."1 لأن هذا القول يبعد خواص جمالية في النص المسرحي الشعري على اعتبار البنية العامة للنص، لا اعتمادا على الخاصيات الدلالية التي لا تحقق الجمالية إلا من حيث انتهاؤها إلى إعطاء فكرة عامة أو بالأحرى تمجيد الخطابية الشعرية وتجسيد الفعل التأثيري من خلال المزج بين ما نظم شعري وما هو شعر خالص. إننا بذلك نقصي الخلاف بين القول (الشعر المسرحي) و (المسرح الشعري) ما داما يمشيان في خط جمالي موحد بعيدا عن القصدية والهدف.

محاولة كهذه ستجرنا حتما إلى إبراز العناصر المسرحية في المسرح الشعري بعيدا عما يمكن أن ينعتها بصفة الأدبية الخالصة، ولتمكين المتلقي تقريب المفاهيم من ذهنه، نضع سلطة النص على طاولة الكشف التي توحي أحيانا كثيرة بطغيان عناصر تحليلية مجانبة، أو ما يقصد به التحليل الأدبي للنص المسرحي باعتباره يشكل عرضا أولاً وأخيراً.  أما التحليل المسرحي فيعتمد عناصر أقل  ما يقال عنها إنها عناصر مسرحية. يقول محمد الكغاط:" إن  (الدراماتولوجيا) التي تحدد الفضاء والزمان والإيقاع  وأثر كل ذلك على حواس المشاهد ثم على ذكائه، لا تتحقق إلا من خلال علاقة خشبة / قاعة، وهذه الدراماتولوجيا موجودة جزئيا في النصوص، وانطلاقا من هذه يحتفظ التحليل ( الدراماتولوجي) بالاقتراحات الكامنة للإخراج المتوقع ويتناول النص نفسه باعتباره عرضا وإيقاعا."2

من هنا ألا يمكنا الحديث عن العرض المسرحي داخل النص المسرحي؟ ما هي أهم سمات الإرشادات المسرحية من خلال النموذج المسرحي؟

أسئلة لا بد أن نجد لها دليلاً في النصوص المسرحية، لكن مع إعطاء الأولوية للتحليل الدراماتولوجي.

              

1 - عمر محمد الطالب: ملامح المسرحية العربية الإسلامية، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، ط- 1، 1987 ، ص- 161.

1 - نجده مثلا في الصفحات 161 وما بعدها وفيها "يمسرح" شعر عمر بن أبي ربيعة ، وفي ص-170 وما بعدها أيضا يعطي مثالا من شعر النقائض، يقول:" ويمكن للمستقصي عن النصوص المسرحية الشعرية أن يجد في النقائض الشعرية في العصر الأموي نصوصا يمكن أن تشكل فعلا مسرحيا وخطا دراميا متصاعدا." (م-س) ،ص- 170.

2 - م- س، ص- 167.

3 - د- محمد غنيمي هلال:في النقد المسرحي، دار الثقافة – دار العودة، 1975، ص- 51.

4 - د- حسن المنيعي: المسرح المغربي( من التأسيس إلى صناعة الفرجة)، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط، ط- 2، 2002، ص- 12.

1 - ليون شانصوريل: تاريخ المسرح، نقله إلى العربية، خليل شرف الدين، نعمان أباظة، منشورات عويدات ،بيروت،ط- 1، ديسمبر 1960، ص- 179  .

2 - د- أحمد شمس الدين الحجاجي: المسرحية الشعرية في الأدب العربي الحديث، كتاب الهلال، أكتوبر 1995 ، العدد 538، ص- 51.

1 - بول شاول: المهرجانات المسرحية وإشكالية المسرح العربي، مجلة الطريق، ع-1، فبراير- 1986، ص- 133.

2 - د- محمد الكغاط:المسرح وفضاءاته ، البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة، ط- 1، 1996، ص- 188.