عبد الرحمن منيف
عبد الرحمن منيف
أو الرواية بين المعرفة والجمال
د. عزيز القاديلي
سلا-المغرب
بحلول الرابع و العشرين من شهر يناير لا نستطيع إلا أن نتذكر حدث فقدان الثقافة العربية المعاصرة لكاتب كبير في مثل حجم عبد الرحمن منيف، الروائي الذي جعل الرواية العربية تدخل عصرا جديدا و ذلك بما أضاف إليها من أعمال روائية لا يمكن أن يختلف اثنان في قيمتها الأدبية و المعرفية.
أريد بهذه المناسبة أن أتوقف عند إحدى المبادئ أو الأسس التي كانت بمثابة منطلقات حفزت عبد الرحمن منيف على اختيار الكتابة في مجال الرواية. فمن المعروف أن هذا الروائي ساهم في فترة من فترات حياته في العمل السياسي، لكن حينما وجد أن العمل السياسي كما يمارس ضيق الأفق أو ليس بالصيغة التي يتصورها، ارتأى عبد الرحمن منيف أن يسلك طريقا آخر من أجل نفس الهدف، فليس هناك طريقة واحدة للعمل السياسي بل طرق متعددة من بينها الكتابة الأدبية على وجه العموم و الروائية على وجه الخصوص. و هذا ما جعله يتصور الكتابة الروائية على أنها عمل سياسي.
إن الرواية في نظر عبد الرحمن منيف نشاط سياسي رفيع لأنها تتخذ لنفسها كوسيلة الكلمة الصادقة و العفوية، هذه الكلمة ربما في المجال السياسي المباشر يتم تجريدها من قيمتها لكثرة استعمالها و لغياب الصدق، أما في المجال الأدبي فإن الكلمة تصبح أكثر إنسانية
و حرارة لأنها تنقل مشاعر الإنسان بكل تلقائيتها، إنها أولا كلمة إنسانية تخرج من قلوب مليئة بالمعاناة، قلوب جربت التعاسة و المحن، قلوب تعيش أحلاما في واضحة النهار، هذه القلوب التي تنقلها لنا الرواية تجعل تعاملنا معها مبني على المشاركة و التعاطف، لأنها مفعمة بالصدق و بعيدة عن التلاعبات السياسية غير النزيهة.
لنستحضر هنا رواية شرق المتوسط أو رواية الأشجار و اغتيال مرزوق أو حتى خماسية مدن الملح... نحن هنا أمام روايات كتب بأسلوب شيق و ممتع، تجعلك أمام لغة نابعة من صميم الفؤاد، تقرأ الروية كما لو أن الكلمات نابعة من عالمك الداخلي، مشاعرك و الكلمات تدخلان في سباق، أحاسيسك تسابق كلمات الرواية فيتداخل ما تقرأ و ما تحس حتى لا تستطيع التمييز بين عالمك الداخلي و العالم الآتي من الرواية. بالإضافة إلى ذلك فروايات منيف مستفزة تحرك عالمك الداخلي الساكن و الراكض، و لا بد أن تتوقف للثواني
و تحاول تأمل ذاتك من جديد، فهي توقظنا من سباتنا من خمولنا، تلك هي المعرفة التي تنقلها لنا، دون أن تكون معرفة جاهزة و واضحة، إن المعرفي في هذه المعرفة هي أنها تنبهنا إلى أن هذا العالم الذي نعيش فيه ليس بديهيا و لا طبيعيا، و لا يجب أن نركن إليه، بل نحن مطالبون بالتنبه، و الاستيقاظ.
هكذا يبدو لنا جليا كم هي عظيمة تلك الأعمال الروائية التي خلفها لنا عبد الرحمن منيف، فهي ماتزال تفرض نفسها، و ما تزال تعالج قضايانا الراهنة، لأن أهم قضية تصادفنا نحن العرب هي قيمة الإنسان المفتقدة، فارخص شيء في الحياة العربية هي الشخص الإنساني، و هذا الشخص الإنساني هو ما ناضل عبد الرحمن منيف من أجله، من أجل أن نعطي القيمة و الاعتبار للإنسان، فما أحوجنا إلى تعميق هذا النضال من أجل الخروج من قروننا الوسطى التي لا تقيم اعتبارا للإنسان، و التي يبدو لها الإنسان العربي آخر قيمة يمكن التفكير فيها.