المونولوج الداخلي في (تابو) هدى المعجل
مالك القلاف
إذا سلمنا كمتلقين بتمييز الناقد الكندي "نورثورب فراي" والذي أشار إليه في كتابه (الخيال الأدبي) بين العلوم والفنون، حيث فرق بين المنظومتين بإشارته إلى أن العلم هو سمة عقلية تبدأ بالعالم كما هو قائم، وأن الفن سمة عاطفية تبدأ بالعالم الذي نريده أن يكون، سنخرج من خلال هذا التمييز بين المنظومتين إلى أن الأغلب الأعم من القص النسوي السعودي يبدو أكثر التصاقاً بالعلوم منه بالفنون، إذ يكتفي بتصوير الواقع على نحو آلي، كما لو أنه مرآة جامدة لذلك الواقع. وهو (في الأغلب الأعم منه أيضاً) لم يستطع تجاوز المتواتر في الكتابة النسوية العربية، وباستثناءات قليلة منه، فإنه لا يشير إلى تطور في القص النسوي السعودي.
من بين هذه التجارب النسوية في القص, تطل علينا القاصة (هدى المعجل) في إصدارها القصصي الثاني (التابو) عام 2007 (المؤسسة العربية للنشر) مسجلة علامة فارقة مقارنة بإصدارها الأول (بقعة حمراء), ويحمل بين دفتيه 39 نصاً قصصياً بين قصة قصيرة و قصة قصيرة جداً عالجتهم بشكل يميل إلى السرد المونولوجي حيث جاءت أكثر القصص في المجموعة على شكل (تداعيات) متوافقة مع مايسمى بـِ (الروي الداخلي) في أغلب قصصها أو على لسان ساردة.
من خلال بعض القصص كقصة "عباءة" وقصة "اللثام" تجهر الكاتبة في إلحاحها على قضايا المرأة ومشكلاتها وهجاء الوعي السائد الذي يعوّق تحررها ويغلها بأصفاد التبعية للذكر، أباً أو زوجاً أو أخاً، معززة بذلك عنوان المجموعة ككل (التابو), ثم تعبير ذلك الوعي عن الواقع بتجلياته كافة، أي بوصفه صدى لذلك الواقع وجهرا بما يفتِكُ به على غير مستوى، لذا نرى محاولات الانعتاق من تلك الأصفاد وممارسة المرأة لكينونتها على نحو دال كونها جزءاً من الحياة وليست استكمالاً لـها, والمقبوس التالي خير مثال:
"كنت مرغمة, حينما أمطت اللثام عن دمامل وقروح ونتوءات غائرة, ونزعت العباءة عن غصنٍ تمايل في غنج. ثم هويت بهما في وادٍ سحيق, ومشيت وأنفي ممتد للسماء. شاخصّ بصري نحو أفق أبعد. وعوالم أرحب".
وباستثناءات قليلة أيضاً، فإن المرأة في معظم ذلك القص تبدو خانعة للواقع، ومنفعلة به، ورهينة إرادات الأعراف والتقاليد، وصريعة قيم سالبة لحقها في حياة حرة وكريمة, ونرى ذلك جلياً من خلال المقبوس التالي:
"وأنا أهرول وأركض بشدة هويت في وادٍ سحيق امتلأ بالضوء ليسقط اللثام على دمامل وقروح والعباءة على غصن تمايل في غنجٍ".
وعندما نتطرق إلى قصة "صقيع" نرى أن قيمتها تكمن في إزاحتها قشرة الزيف عما يتسرطن في جزء من واقع مبتذل يحمل فيه الذكر صكاً بواسطته يستطيع أن يخون متى يريد، بل في تعبيرها، على نحو غير مباشر، لامست الوعي الناقص الذي يفتك بالواقع عامة، حيال المرأة كونها فريسة للوعي الذكوري الممعن في انتهاكه لحق المرأة, ولكن استنزفت تلك القيمة بشكل وعظي عندما عالجت المشكلة ووضعت حلاً فتاكاً لكل من قد تسول له نفسه أن يخون زوجته, فخرجت البنية الأساسية للقصة ذات سمة خطابية مباشرة وتحمل الكثير من التفاصيل الغير ضرورية للبناء الدرامي في القصة.
وتتجلى كوابح الواقع وأعرافه وتقاليده في وجود إنساني خال من ملوثات تلك الأعراف والتقاليد في نص "شجرة العائلة" الذي تختزل فيه القاصة، ببراعة لافتة للنظر، مظهراً من مظاهر انتهاك الموروث الاجتماعي, فثمة فتاة أرغمتها العادات على التمرد وبالتالي البحث عن شريك (وائل, الشاب الأجنبي) دون الإكتراث إلى قدسية هذه اللوحة المعلقة ومعناها الروحي عند أمها.
ومن اللافت للنظر في هذه القصة أيضاً, تواطؤها مع نقطة حساسة وملامستها لذلك الواقع المعاش تراثياً كونه (تابو) لايجب خرقه في أي حالٍ من الأحوال، الجدير بالذكر في هذه القصة أن القاصة تحاول الإشتغال على فضاء الشخوص بوعي واختيار واستراتيجية بتعبير (حسن نجمي) في كتابه "شعرية الفضاء"، ولا تكتفي بهجاء ذلك الوعي، والتصدي لتعريته, وقد نرى ذلك جلياً في المقبوس التالي:
"تقابلتا في ممر ضيق ينتهي بغرفة جلوس رومانسية الديكور أنيقة اتخذتها (وسن) عزلة لها تكتب, وتقرأ أحيانا على أنغام الموسيقار الحالم YANNI, وقد سقط منها قلمها يوماً في ساعة تجل وتحليق مع معزوفتة One man's Dream.
غرفة أنيقة ومكتبة مصغرة كونتها على مدى سنوات ولعها بالقراءة والكتابة".
وتتسم قصة: "شتم الظلام" بتجذير القاصة لمحكيها في بيئتها المحلّية، وبتقديم غير قرينة دالة على الفضاء الذي تتحرك فيه الأحداث والشخصيات، ولا سيما أسماء القرى والشوارع سعياً من القاصة إلى تعزيز واقعية القص، وصدوره عن خبرة مباشرة بذلك الفضاء, إذ تكتفي القاصة بسرد ما حدث لشخوصها على نحو مباشر، ولا تخلص ذلك الذي حدث من فوائض القص ونوافله، أي مما اصطلح (توماتشسفكي)عليه بـ "الحوافز الحرة"، حيث التفاصيل الدقيقة جداً من جهة و هوية السارد من جهة أخرى واللتين يمكن الاستغناء عنهما من دون أن يؤثر ذلك في جوهر القص.
وبشكل عام، يمكن القول أن اللغة تبدو مغلولة إلى أصفاد ما هو إبلاغي فحسب، أي من غير ما استخدام خاص للغة العملية، الذي عده "رامان سلدن" جوهر الأدبية في الأدب, عدا أن القصة جاءت بشكل تقريري لتخبر أكثر مما توميء مليئة بحشو سردي ينتهي دون وضوح لمعالم فكرة أساسية للنص.
في حين أن ثمة قصص تبتعد عن واقعيتها رغم كثافة السرد فيها مثل قصة: "أي السحب أمي" و "اللثام" حيث تستعرض القاصة قدرتها على بناء حبكة (فانتازية) خصوصاً في قصة اللثام, فنرى أن شكل البناء المشهدي كان مصوراً ويحمل تراكماً دائرياً حيث البداية والخاتمة, مما يجعل قصة: "أروى" تحاكي هذا النجاح ولكن بشكل أكثر واقعية, فنرى أن ثمة زمن دائري للسرد ينتهي من حيث يبدأ.
ويرتهن هذا الزمن الدائري في بناء القصة إلى تقاليد القص، التي تهيمن عليه التراتبية الخطية، فالأحداث، في القصة، تتتابع تتابعاً كرونولوجيا، و (أروى) / الساردة المتماهية بمسرودها تبئر ذلك المسرود من خلال منطق "الحكاية ذات التبئير الداخلي"، أي التي يتم تبئيرها من خلال وعي شخصية ما، والتي تحصر الشخصية المركزية تماماً في موقعها البؤري وحده، ولا تستنبط إلا منه
ولعل هذه السمة هي ما جعل استخدام القاصة لضمير المتكلم غير ذي دلالة داخل حركة القص، إذ يمكن إعادة كتابة القصة بوساطة ضمير خطاب آخر من غير أن تتسبب هذه العلمية في أي تغيير للخطاب غير تبديل الضمائر النحوية.
كما أشرت سابقاً هو أن القصص أكثرها تمت بتقنية (روي داخلي) وإن لم تكن, فالساردة داخل القصة هي أيضاً فتاة ولا وجود لسارد ذكوري.
ولئِن كانت القصص القصيرة لم تتعدى كونها (مونولوج) لتداعيات سردية, ولم تخرج عن نطاق الواقعية المحكية على لسان الساردة بشكل تراكمي, فإن القصص القصيرة جداً لها شأن آخر حيث تفاوتت (بعضها) لترسم الفكرة متماهية مع القيمة الإستطرادية للنص مظهرة كفاءة القاصة نسبياً في اختزال مكونات القص، أي خلو تلك المكونات من الحوافز الاعتباطية، ثم استثمار القاصة للجملة الفعلية على نحو فني مميز، من أبرز تجلياته تلك المفارقة اللافتة للنظر بين استهلالات القص وخواتيمه في معظم النصوص، ولا سيما في نص "اغتيال" الذي يضمر في علامته اللغوية إيحاء بمآل علاقة ذوي المناصب بالمراكز المشبوهة, ومع هذا فإننا نلاحظ في بعض القصص القصيرة جداً الأخرى سبكاً عادياً جداً لايرسم أي دهشة للمتلقي وبالتالي لم يخلق صدمة في النقطة المركزية للخاتمة كونها سمة ضرورية في هذا الفن الحداثي الجديد.
إبتعدت القاصة في أغلب قصصها عن النص المفتوح, فكانت جميع قصصها ذات بنية درامية تسلسلية باستثناء بعض القصص والتي تعمدت القاصة رسم زمن دائري فيهم (كما أشرنا مسبقاً), أما ماعدا ذلك فهو من ضمن النصوص (المحبوكة) والتي لاتتيح للمتلقي فرصة التأويل بل تحقن ذهنه بشكل مكثف لتعطيه الفكرة الأساسية على طبق من ذهب..
ولايفوتني هنا أن أنوه للغة التي كانت تقترب للسرد الروائي مطعمة بالإلتقاطات المشهدية والتواصيف العينية وبعيدة كل البعد عن اللغة المستعذبة أو (المفردة الشعرية) التي صارت أكثر التصاقاً بالقصة الحديثة.
وعلى الرغم من أن الأغلب الأعم من مؤرقات القص في المجموعة لا يغادر المتواتر في القص النسوي العربي عامة، أي هجاء الوعي السلطوي والبيئي المحيط من جهة والوعي الذكوري الشائه الذي يمارس نفوذه المجحف ضد المرأة في المجتمعات العربية، ثم كوابح الواقع وأعرافه وتقاليده الاجتماعية التي تصادر عليها حقها في ممارسة وجودها على النحو الإنساني اللائق بها، فإن القاصة تقارب تلك المؤرقات ولكن بشكل مباشر حيث تتعمق في التفاصيل الدقيقة جداً وتغوص بعيداً عن ماهو دلالي لتقترب مباشرة من ملامسة الواقع لتحقنه بشكل مكثف في ذهن المتلقي (كما أشرنا مسبقاً). وسأمثل لذلك بنصين: "فراغ العاطفة"، و"العباءة"، اللذين يمكن عدهما نموذجين متمايزين حكائياً متفككين دلالياً.