نشأة المنظومات التعليمية في الأدب العربي
جواد غلام علي زاده
خلاصة البحث:
المنظومات التعليمية عامة كما يقول الباحثون لم يتأتَ فيها شعرٌ جيد. فقد استحال أكثرها قوالبَ لفظية وأقوالاً علمية. غير أنها عظيمة الفائدة وشديدة الدلالة على الحال العلمية للعصور الماضية، کما تعتبر هذه المنظومات أو الأشعار التعليمية من الفنون الشعرية الأربعة في العالم، يعني: الشعر الملحمي و الشعر الغنائي و الشعر التمثيلي و الشعر التعليمي.
هذا النوع من الشعر يهدف إلی تعليم الناس أمور حياتهم الدنيوية و الأخروية و الحقائق و المعارف المتعلقة بحياتهم الفردية و الإجتماعية.و نجد له سابقة عريقة في القدم في أكثرالملل إلا أنَّ الأدباء اختلفوا في نشأته في الأدب العربي، و ذهبوا فيها مذاهب شتی. و لذلک نقصد من هذا البحث أن نبين قضية نشأته في الأدب العربي.
المفردات الرئيسية : المنظومات، الشعر التعليمي ، نشأة المنظومات
المقدمة
ظاهرة الشعر من الظواهر التي اشترک فيها کل الشعوب و لاترتبط هذه الظاهرة بالحضارة، فالشعوب البدائية لها شعر أيضا و لذلک قد اختار الشعر لنفسه منذ الأزل سبيلاً ينأی عن روح العلم و أوشک أن يکون حديثاً خاصاً لإذاعة ما تضج به الخواطر من العواطف و المشاعر و علی هذا الأساس تکوّن الذوق العام فوضع کل ما هو شعري مقابل العلمي حتی باتت طبيعة الشعر تتحدد بذاتية المبدع ، و أضحت علامة فارقة تميزه ، و يبدو أن هذه الصفة لازمت الشعر منذ مراحل تکوينه الأولی و هو أمر يصدق علی حال الشعر العربی أيضاً و مع تقادم الأزمنة حدث نوع من التقارب بين الشعر و العلم في حياة الأمة الإسلامية و لوحظ هذا التقارب يبرز بقوة کلما آلت تلک الحياة إلی التطور باتجاه العلم ، هذا و يعتبر الشعر التعليمی واحداً من الأقسام الأربعة لأنواع الشعر في الأدب العالمی و ثانی اثنين من هذه الأقسام السائدة في الأدب العربی بحيث أردف الشعر الغنائي وجوداً و نمواً و کمّياً ، إلا أن الأدباء تناولوا الشعر الغنائي في الأدب العربی بکل أقسامه و لم يتناولوا الشعر التعليمی کما هو حقه و حتی لم ير بعضهم له قيمة و قدراً جديراً بالبحث و المناقشة ؛ و الحال أن الشعر التعليمی يحمل علی أعجازه حضارة و ثقافة عظيمة الخطر للأمة العربية خاصة و الإسلامية عموماً .
فمن هذا المنطلق قمنا بدراسة نشأة المنظومات التعليمية لکی يتضح لنا جانب من جوانبه الغامضة و ذلک من خلال المواضيع التالية:
1- بين النظم و الشعر
2- المنظومات التعليمية و أنواعها:
3- نشأة المنظومات التعليمية في الأدب العربي
4- المنظومات التعليمية في العصر الجاهلي
5- حصيلة البحث
1- بين النظم و الشعر:
المنظومات التعليمية التي نحن بصددها مصطلح عند الأدباء لمنظوم القول و هناک فرق بين النظم و الشعر، يقول عمر فروخ و هو يفرق بين النظم و الشعر:" أما النظم فهو الکلام الموزون المقفی. فإذا امتاز النظم بجودة المعاني و تخير الألفاظ و دقة التعبير و متانة السبک و حسن الخيال مع التأثير في النفس فهو الشعر. لأن الشعر حقيقته ما خلب العقل
و استولی علی العاطفة و استهوی النفس. من أجل ذلک قال العرب الجاهلية عن القرآن إنه شعر و عن رسول الله إنه شاعر. و العرب الجاهليون لم يقصدوا أن القرآن کلام موزون مقفی، بل نظروا إلی شدّة أثره في النفس فقالوا عنه ما قالوا."(1)
2- المنظومات التعليمية و أنواعها:
هي الأشعار التی تهدف إلی تعليم الناس و تشتمل علی المضامين الأخلاقية ، الدينية ، الفلسفية، أو التعليمية عموماً ، أو قل هي التی" يراد بها الأراجيز و القصائد التاريخية أو العلمية التی جاءت في حکم الکتب و کذلک الکتب التی نظموها فجاءت في حکم الأراجيز و القصائد و هو ما يعبر عنه المتأخرون بالمتون المنظومة کألفية الإمام محمد بن مالک في النحو العربي و غيرها مما يجمع قضايا العلوم و الفنون و ضوابطها".(2)
يبدو من خلال البحث حول المنظومات التعليمية في کتب الأدب أن هذا اللون من الشعر الذی يهدف به الشعراء إلی تعليم الناس ؛ تارة يعالج الأخلاق و العقيدة و العبادة ،و يتناول الخير و الشر ، و الفضيلة و الرذيلة ، و ما ينبغی للإنسان أن يکون عليه ، و ما يجب أن يتحاشاه و يتباعد عنه . يسلک الشاعر في ذلک أساليب الترهيب و الترغيب و النصح و العظة؛ و تارة يتناول التاريخ و السير ، فيقرر و يبين الأنساب و الأصول و الفروع ، و تسلسل الحوادث و ترتيبها ، و يبحث العلل و الأسباب ، و يربط النتائج بمقدماتها ؛ و تارة يعرض للعلوم و الفنون و الصناعات ، فيقرر الحقائق المتعلقة بشأنها ، و يضع لها القواعد و يستنبط لها القوانين.
و من هذا المنطلق يقول الدکتور صالح آدم بيلو إن : "الميادين التی يعمل فيها هذا اللون من الأدب ، أو الشعر الذی نسميه ( تعليمياً ) ثلاثة ميادين :
(1) أصول الأخلاق و العقائد.
(2) السير و التاريخ.
(3) الحقائق و المعارف المتعلقة بالعلوم و الفنون و الصناعات".(3)
3- نشأة المنظومات التعليمية في الأدب العربي :
تختلف الآراء فيما يتعلق بنشأة المنظومات التعليمية أو الأشعار التعليمية في الأدب العربی؛ يذهب بعضهم إلی أن العرب لم يعرفوا هذا اللون من الأدب إلا في وقت متأخر نتيجة لإتصالهم بالفکر الوافد فهناک من يری أن هذا التأثير ناشیء
عن الثقافة الهندية التی إتصل بها العرب في العصر العباسي ، و من هولاء الأستاذ أحمد أمين(4) و الدکتور أحمد فوزی الهيب (5) و الدکتور مصطفی هدارة؛(6) يعلل الدکتور هدارة هذا التأثير و يقول :" فآي الثقافة اليونانية أم الهندية ؟ بل کلتا الثقافتين قد اتصلت بالفکر العربي اتصالاً وثيقاً کما بينا من قبل و لکن اتصال العرب بالأدب الهندي کان أوثق بکثير من اتصالهم بالأدب اليوناني ، لأن أدب الهنود أقرب إلی الطبيعة العربية بما فيه من أساطير و أسمار و حکايات . ثم إن علوم الهند التی کانت متقدمة فيها أو تنفرد بها ، مثل الفلک و الحساب و غيرهما ، کانت سبباً في توثيق العلاقة بين الثقافتين العربية و الهندية أيضاً ، هذا بالإضافة إلی تأثير الشعراء المولدين الذين هم من أصل هندي و تأثير عملية المزج بين الجنسين علی وجه العموم ، و ما يترتب عليها من آثار مختلفة.نحن نميل إذن إلی إقرار هذا التأثير الهندي في نشاة الفن التعليمي في الشعر العربي ، إذا کان لابد من وجود تأثير أجنبي ، و إذا لم يکن الشعر التعليمي قد نشأ نشآة طبيعية بانتشار حرکة التعليم و إحساس المعلمين و المتعلمين علی السواء بحاجتهم إلی نوع من التأليف ( المدرسي ) يسهل نقل المعلومات و حفظها ، فلم يجدوا غير الإستعانة بالشعر ليکون وسيلة مشوقة و سهلة في الوقت نفسه خاصة بالنسبة للعقلية العربية المشهورة بقدرتها علی حفظ الشعر و روايته" (7) هذا و يری الآخرون أن ذلک من مکتسبات الثقافة اليونانية،(8) علی أن الدکتور طه حسين يری أن أبان بن عبد الحميد اللاحقی هو مبتکر هذا الفن في الأدب العربي ، إذ يقول : "يظهر أن أبان هو أول من عني بهذا الفن"(9) و يقول عنه في موضع آخر :" فهو إمام طائفة عظيمة الخطر من الناظمين نعنی أنه ابتکر في الأدب العربي فناً لم يتعاطه أحد من قبله ، و هو فن الشعر التعليمي"(10). و يذهب شوقی ضيف إلی رأيين متناقضين کل التناقض ، و لا ندری علی أيهما إستقر رأيه النهائي إزاء المسالة! ففي کتابه العصر العباسی الأول يــری أنه"فن استحدثه الشعراء العباسيون ، و لم تکن له أصول قديمة ، و نقصد فن الشعر التعليمي الذی دفع إليه رقي الحياة العقلية في العصر ، فإذا نفر من الشعراء ينظمون بعض القصص أو بعض المعارف أو بعض السير و الأخبار» (11) بينا يذهب الدکتور شوقی ضيف في کتابه الآخر " التطور و التجديد في الشعر الأموي " مذهبا آخر يوشک أن يکون صائباً ، و لکنه لم يسر فيه إلی آخر الشوط ، فهو يذهب ههنا إلی أن الشعر التعليمي ذو نشأة عربية خالصة في آخر القرن الأول الهجري و أول القرن الثاني ، أو قل في أواخر الدولة الأمويين إذ أن أراجيز الرجاز و بخاصة رؤبة و العجاج قد کانت متوناً لغوية ، و بالتالي فهو النواة و البذرة التی بنی عليها الشعر التعليمي في جانب الکلام المنظوم ، و تطور في جانب النثر فصارت المقامات.
بهذا الصدد يقول شوقي ضيف :" نحن إذن بإزاء متون تؤلف لا بإزاء أشعار تصاغ و يعبر بها أصحابها عن حاجاتهم الوجدانية أو العقلية ، فقد تطور الشعر العربي و أصبحت الأرجوزة منه خاصة تؤلف من أجل حاجة المدرسة اللغوية و ما تريده من الشواهد و الأمثال . و الأرجوزة الأموية من هذه الناحية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية . و لعل في هذا ما يدل علی المکان الذی ينبغي أن توضع فيه ، أو الذی وضعت فيه فعلاً، فمکانها صحف العلماء من مثل يونس و أبي عمرو بن العلا، يتعلمونها و يعلمونها الناس ،و ينقلونها إلی أذهانهم و ينقشونها في عقولهم ، ليدلوا بها علی مدی علمهم في اللغة و معرفتهم بألفاظها المستعملة و المهملة".( 12) هناک أخبار کثيرة تدل علی أن أصحاب اللغة و النحو من مثل يونس ، کانوا ما يزالون يلتقطون ما ينثره رؤبة من درر الوحشی الغريب (13) کما يشير إليه رؤبة نفسه قائلاً :" يلتمس النحوي فيها قصدي "(14) أو قوله:" إذا الرواة بلّغوا ما أهدي" (15) و کذلک يفتخر بأن النحوي مهما کان عالماً باللغة فإنه لا يبلغ مبلغه فيها إذ يقول :
لا ينظُرُ النَّحوي فِيهَا نَظَري وَ إن لَـوَی لِحيَيَهِ بِالتَّحَــکُّرِ
وَ هوَ دَهِيُّ العــلمِ وَ التَّعَبُّرِ حتَّی استَقَامَت بِي عَلَی التَّيسُّ ( 16)
و لا يخفي لمن يدقق فِي أراجيز رؤبة بأنه اتخذ لنفسه وظيفة غريبة هي صياغة الألفاظ و الأساليب و الإتيان بکل غريب شاذ فيها، حتی يرضی ذوق اللغويين و حاجاتهم . و اقرأ له هذا المطلع في أرجوزة له مشهورة حيث يملأها بغرائب اللغة :
وَقاتِمِ الأعماقِ خَاوِي المُختـَرَق مُشتَبِهِ الأعــلامِ لَّّمَاعِ الخَفَـق
يکِلُّ وَفدَ الرِّيحِ مِن حَيثُ انخَرَق شَأزٍ بَمـن عَوَّهَ جَدبِ المُنطَلَـق
نَاءٍ مِنَ التَّصبِيحِ نَائِـي المُغـتَبَق َبدُو لَنا أعـلامُهُ بَعـدَ الغَـرَق
فِي قِطَعِ الآلِ وَ هَبـوَاتِ الدُّقَق خارِجَـةً أعـناقُها مِن مُعتَنَـق
تَنَشَّطَتهُ کُـلُّ مِغـلاةِ الوَهَـق مَضبـُورَةٍ قَروَاءَ هِر جَابٍ فُنُـق(17)
و علی هذا الأساس يقول الدکتور شوقي ضيف:"و نحن نؤمن بأن هؤلاء الرُّجّازـ و في مقدمتهم رؤبة ـ هم الذين أعدوا شعراء العصر العباسي لا للشعر التعليمي فحسب ، بل لاقتباسهم للغريب في أشعارهم، فالغريب أصبح جزءا هاما في مادة الشعر عند الشعراء الممتازين من أمثال بشار و أبي نواس و أبي تمام".(18) و في مکان آخر يقول عن
رؤبة و أبيه العجاج:"و الإنسان لايلم بديوانيهما حتی يقطع بأنهما کانا يؤلفان أراجيزهما قبل کل شیء من أجل الرواة ، و من أجل أن يمدُّوهما بکل لفظ غريب و کل أسلوب شاذّ ، و من هنا کنا نسمي هذه الأراجيز متوناً لغوية، و قد بلغت هذه المتون صورتها المثالية عند رؤبة ، فهو النمو الأخير لهذا العمل التعليمي الذی أرادته المدرسة اللغوية من جهة، و الذي استجاب له الشعراء و خاصة الرجاز من جهة أخری. و لعل ذلک ما جعل اللغويين يوقرونه أعظم التوقير، فأبو الفرج يقدمه في ترجمته له بقوله :« أخذ عنه وجوه أهل اللغة و کانوا يقتدون به و يحتجون بشعره و يجعلونه إماما »". (19) و لذلک يستنتج أن الأراجيز الأموية من هذه الناحية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية (20)کما يری أن الشعر التعليمي هو الأسلوب المتطور للأراجيز الأموية فيقول :"و مهما يکن فقد ألهمت الأرجوزة الأموية أصحاب الشعر في العصر العباسي أن يقوموا بنظم شعرهم التعليمي ، کما ألهمت أصحاب النثر أن يقوموا بصنع المقامة ".(21)هناک رأی آخر يرد نشأة الشعر التعليمي في الأدب العربي إلی زمن بعيد جداً ، أعنی العصر الجاهلي ؛ يقول الدکتور صالح آدم بيلو :"و نحن نرجح تخطئة الذين ذهبوا إلی أن الشعر التعليمی إنما عرفه الأدب العربي مع ما عرفه من الثقافة الدخيلة ، و الفکر الوافد - شرقية و غربية ، هندية و يونانية - أو ابتکر في هذا العصر العباسي ابتکارا بسبب امتزاج الأفکار و الثقافات و توالدها ، أو أن الأرجوزة الأموية هي التی وجهت إليه الشعراء العباسيّين!. إن الخطأ قد أتی هؤلاء الکاتبين من وجهة (التطبيق) ، فهم يعرفون الشعر التعليمي تعريفا نظريا جيدا ، واضح الحدود و المعالم ، بيّن القسمات و السمات ، و حين تأتی مرحلة التطبيق العلمي يجانبهم التوفيق ، و لا يجدون إلا بعض الجزئيات أو الأقسام في فترة معينة من الزمان تنطبق عليها هذه النظريات ، و من هنا ينطلقون إلی القول بأن هذا الفن کان عدما فيما مضی ثم أصبح له وجود منذ هذه الفترة التي أسموها بالعصر العباسي ، أو علی أحسن الفروض العصر الأموي". (22) ثم يبدي رأيه و يقول: نحن"نقرر أن الأدب العربي منذ جاهليته قد شارک في هذا اللون من الفن بکل أقسامه التي قدمناها". (23) و يستند لمدعاه هذا إلی أشعار تعليمية - بکل أقسامها - في العصر الجاهلي نأتی بها إن شاء الله عند الحديث عن الشعر التعليمي في العصر الجاهلي.
4- المنظومات التعليمية في العصر الجاهلي:
من دقق في الأدب الجاهلي ليجد الأقسام المختلفة من الفن التعليمي في هذه الحقبة من الزمن ؛ فبالنسبة للتاريخ و ذکر القرون الخالية و الأمم البائدة قد امتلأ الأدب العربي بشعر الشعراء في ذلک ، و قد کان ذلک أحد المنطلقات التی
انطلق منها جماعة من الشعراء خصوصا أولئک الذين کانوا علی شئ من الثقافة الدينية و العلمية کأميه بن أبي الصلت، و عدي بن زيد و من ذلک قصيدة عدي في منشأ الخلق و قصة خلق آدم و حوا و إسکانهما الجنة و نهيهما عن أکل الشجرة و هبوطهما من الجنة حيث يقول :
قَضَــی لِسِــــتَّةِ أيَّــامٍ خَلِيــقَتَهُ و کانَ آخرَهَا أَن صَــــوَّرَ الرَّجُــلا
دَعَـــاهُ آدمَ صَـوتاً فَاستَجـــَابَ لَهُ بِنَفــخَةِ الرُّوحِ فِي الجِسمِ الَّذِي جَبَــلا
ثُّمَــتَ أَورَثَـهُ الفِــردَوسَ يَعمُــرُهَا وَ زَوجَـهُ صَنعَـةً مِن ضِلعِهِ جَعَــــلا
لَم ينــهَهُ رَبُّهُ عَــن غَيـر وَاحـــدَة مِن شَجَـرٍ طَيِّـبٍ أَن شَمَّ أو أکَــــلَا
فَکانَت الحَيــَّةُ الرَّقشَــاءُ إذ خُلِـقَت کمـا تَرَی نَاقَةً فِي الخَــلقِ أو جَمَــلا
فَعَـمدا لِلَّـتي عَــن أَکلِــهَا نُهـِيا بِأمر حَــوَّاءَ لَم تَأخُـــذ لَهُ الدَّغَــلَا
کِلاهُمـا خَــاطَ إذ بُــزَّا لَبــوسَهُما مِن وَرَقِ التِّينِ ثَوبـاً لَم يــکن غُـــزلَا
فَلاطَهــَا الله إذ أغـــوَت خَليـــفَتَهُ طُولَ اللَّيــالي وَ لَم يجــعَل لَها أَجَــلَا
تَمشِي عَلی بَطنِـهَا فِي الـدَّهرِ مَا عُمِـرَت وَ التُّربُ تَأکُــلُهُ حُــزناً و إنسَهُــلَ
فَاُتعبـا أبــوانا فـــي حَيَاتهـــمَا وَ أوجَدَا الجُـوعَ وَ الأوصابَ وَالعِلَــلَا(24)
فإذا انتقلنا إلی لون آخر من الشعر التعليمي في الجاهلية و هو ذلک الذی أسموه " حقائق الفنون و العلوم و الصناعات"وجدنا له مثالا صارخا للشاعر الجاهلي " الأ خنس بن شهاب "حيث يذکر في قصيدته سکنی قبائل نجد قبيلة، فهی من هذه الناحية تدخل في علم تقويم البلدان - أو ما يسمّی بالجغرافية - فمما جاء في هذه القصيدة قوله :
فَمَن يَـکُ أَمسَی في بِلادٍ مُقَامـةً يُسَائِلُ أَطــلالاً بِها لا تُجــاوِبُ
فَلا بِنـَةِ حَطّانَ بنَ قَيسٍ مَنـازِلُ کَما نَّمـقَ العُنـوانَ في الرِّقِّ کاتِبُ
لِکُـلِ أُناسٍ من مَعَـدٍّ عِمــارَةٌ عَرُوضٌ إليها يَلجَــؤُونَ وَ جانِبُ
لُکيزٌ لَها البَحـران وَ السَّيفُ کُلُّـهُ وَ إن يأتِهِم نَاسٌ مِنَ الهِنـدِ کـارِبُ
تَطايَرُ عَن أَعجازِ حُـوشٍ کَأنَّـها جَهَامٌ أَراقَ مَاءَهُ فَهـُو َ آئِـبُ
وَ بَکـرٌ لَها ظَهرُ العِراقِ وَ إن تَشَأ يَحُـل دُونَها مِنَ اليَمامَة حـاجِبُ
صَارَت تَمِيمٌ بَينَ قُفٍّ وَ رَمــلَةٍ لَها مِن حِبالٍ مُنتـأیً وَ مَذاهِـبُ
وَ کََلبُ لَها خَبتٌ ، فَرَملَةُ عالِـجِ إلی الحَـرَّةِ الرَّجـلَاءِ حَيثُ تُحَارِبُ
و غَسّانُ حَیٌّ عِـزُّهُم في سِـوَاهُمُ يُجالِد عنهم ِمقنَــبٌ وَ کَتـائِبُ
وَ بَهراءُ حَیُّ قَد عَلِمنا مَکــانَهُم لَهم شَرَکٌ حَولَ الرُّصـافَةِ لاحِبُ
وَ غارَت إيـادٌ في السَّـوادِ وَ دونَها بَرَازِيقُ عُجـمٍ تَبتَغي مَن تُضـارِبُ
و نَحنُ أُنـاسٌ لا حِجَازَ بِأرضِـنا مَعَ الغَيثِ مَا نُلـَقی و مَن هُوَ غَالِبُ
تَرَی رائِـدَاتِ الخَيلِ حَولَ بُيـُوتِنا کَمِعزَی الحِجازِ أَعجَـزَتها الزَّرَائِبُ(25)
فالقصيدة - کما تری - من الشعر التعليمي دون ريب ، ذلک لأن المقصود منها هو بيان مساکن هذه القبائل في جزيرة العرب و العراق و ما إليهما.
أما نوع آخر من الشعر التعليمي و هو الذی يتناول العقائد و الأخلاق فهو في الشعر الجاهلي أکثر من أن يحصی إلا أن الحکم و الأخلاق متناثرة في الشعر الجاهلي مأخوذة من بقايا تعاليم الأنبياء أو مستمدة من نضج عقلی و تجربة حياتية و هي علی العموم نظرات و انطباعات و تأمل في الحياة و الموت ، و محاولات لسنّ نظم خلقية ، و جاءت هذه الحکم عند الجاهليين حقائق مجردة وفق مثلهم العليا السائدة في عصرهم. و لا يجمع هذه الحکم نظرة شمولية إلی الکون و الحياة ، بل هي أشبه بالخواطر المتفرقة.يروی أن قس بن ساعدة قال و هو يری هذا الشوط القصير من حياة البشر و انتقالهم إلی مصيرهم المحتوم:
فِـي الذّاهــــبينَ الأَوَّلــيـ نَ مِنَ القُـرُونِ لَنا بَصــائِر
لَمّــا رَأيـــتُ مَـــوارِداً للمـوت ليـسَ لَها مَصـادِر
وَ رأيـــتُ قَومِـي نَحـوَها تمضي الأکـابِرُ وَ الأصـاغر
لا يَرجِــعُ المــاضِي إلــی یَّ وَ لا مِـنَ البَاقِـينَ غَـابِر
أيقَنــتُ أنِّــي لا محـــَا لـَةَ حَيثُ صَارَ القَومُ صـائِر (26)
و من أروع القصائد الحکمية في الجاهلية معلقة زهير بن أبي سلمی حيث تتناول القصيدة أغراضاً ثلاثة : المقدمة الغزلية و المدح و الحکمة و الآراء. فمن هذه الحکم :
سَئِمتُ تَکالِيفَ الحَيَاةِ ، وَ مَن يَعِـش ثَمانينَ حَولاًـ لا أبا لَکَ ـ يَسأمِ
وَ أعلَمُ مَا في اليَومِ وَ الأمسِ قََبَــلهُ وَلکِنَّنِي عَن عِلمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي
رَأيتُ المَنَايَا خَبطَ عَشوَاءَ مَن تُصِب تُمِتهُ ، وَ مَن تُخـطِئ يعَّمر فَيهرَمِ
وَمَن لَم يُصَـانِع في أُمُورٍ کَثِــيرَةٍ يُضَرَّس بِأنيَـابٍ وَ يُوطَأ بِمَنسِمِ
وَ مَن يَجعَل المَعرُوفَ مِن دُونِ عِرضِه يَفِرهُ وَ مَن لا يَتَّـقِ الشَّتمَ يُشتَمِ(27)
و بالنسبة للعقائد لدينا قصائد کثيرة و منها قصيدة لأمية بن أبی الصلت حيث قال في حادثة الفيل ، و أن الدين الحق هو الحنيفية - بعد ذکر شئ من آيات الله في الکون و الحياة :
إنَّ آيـَاتِ رَبِّنـَـا بَاقِــيَاتُ مَـا يمُـَارِي فِيـهِنَّ إلا الکَفُـورُ
خَلَـقَ اللَّيـلَ وَ النَّهـَارَ فَکُـلٌّ مُستَبِــينٌ حِسَابُــهُ مَقـدُورُ
ثمَّ يجَـلُوا النَّـهَارَ رَبٌّ کَرِيــمٌ بمِـَـهَاةٍ شُعـَـاعُهَا مَنشُــورُ
حَبَـسَ الفِيـلَ بمَِغـمَسٍ حَتّـی ظَـلَّ يحَـبُوا کَـأنَّهُ مَعــقُورُ
حَولَـهُ مِن مُلُـوکِ کَندَةَ أَبـطَا لُ مَـلاَوِيثُ في الحُرُوبِ صُقُـورُ
خَلَّفُـوهُ ثمَّ ابذَعَــرُوا جمَِـيعاً کُلُّــهُم عَظمٌ سَاقُـهُ مَکسُـورُ
کُـلُّ دِينٍ يَومَ القِيامَـةِ عِنـدَ الل لّهِ إلا دِيــنَ الحَـنِيفـَـة زُورُ(28)
5- حصيلة البحث:
رأينا فيما تقدم أن الأدباء قد اختلفوا في نشأة المنظومات التعليمية في الأدب العربي و ذهبوا فيها مذاهب شتی؛ إلا أننا أوردنا أمثلة کثيرة من الأقسام الثلاثة لهذا النوع الشعري من العصر الجاهلي، مما يدل علی وجود هذا اللون الشعري في الأدب العربي من قديم الزمان و هکذا عدم تأثره من الثقافات الأجنبية الأخری بهذا الصدد.
الحواشيspan>
1-1- عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، ج1، صص 44-45
2- عبد العزيز عتيق، الأدب العربي في الأندلس، ص 329
3- صالح آدم بيلو، حول الشعر التعليمي(1)، ص 1
4- ضحی الاسلام، ج1، ص 246
5- الحرکة الشعرية زمن المماليک في حلب الشهباء، ص 349
6- إتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، ص 355
7- المصدر نفسه، صص 355-356
8- أحمد عبد الستار الجواري، الشعر في بغداد، ص 250span>
9- من حديث الشعر و النثر، ص 286
10- المجموعة الکاملة، ج2، ص 540
11- تاريخ الأدب العربي، ج3، ص 190
12- التطور و التجديد في الشعر الأموي، ص 319
13- إتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، ص 356
14- رؤبة، مجموع أشعار العرب و هو مشتمل علی ديوان رؤبة، تصحيح وليم بن الورد البروسي، ص 48
15- المصدر نفسه
16- المصدر نفسه، ص 61
17- مجموع أشعار العرب و هو مشتمل علی ديوان رؤبة، ص 104
18- التطور و التجديد في الشعر الأموي، ص 323
19- المصدر نفسه، ص 317
20- المصدر نفسه، ص 319
21- المصدر نفسه، ص 324
22- صالح آدم بيلو، حول الشعر التعليمي(1)، ص 2
23- المصدر نفسه
24- عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، ج4، ص 198
25- أبو العباس المفضل بن محمد الضبي، ديوان المفضليات، صص 414-418
26- محمد علي آذرشب، الأدب العربي و تاريخه حتی نهاية العصر الأموي، ص 54
27- أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، شرح المعلقات السبع، صص 118-119
28- محمد عبد المنعم خفاجي، دراسات في الأدب الجاهلي و الإسلامي، ص 210
المصادر و المراجع
1- آذرشب، محمد علي ،الأدب العربي و تاريخه حتی نهاية العصر الأموي، الطبعة الخامسة،طهران، منظمة سمت،1382 هـ.ش
2- أمين، أحمد، ضحی الإسلام، ج1، الطبعة العاشرة ،بيروت، دارالکتاب العربي، بلا تاريخ
3-3- بيلو، صالح آدم ، 2002م، حول الشعر التعليمي(1)
www.iu.edu.sa/magazine/52/20.doc
4- الجاحظ، أبو عثمان عمروبن بحر، الحيوان، بحقيق و شرح عبد السلام محمد هارون ،ج 4، بيروت ، دار احياء التراث العربي، 1969م
5- الجواري، أحمد عبد الستار، الشعر في بغداد،الطبعة الثانية،المجمع العلمي العراقي،1991م
6- حسين، طه، المجموعة الکاملة،ج2،الطبعة الثانية، بيروت، دارالکتاب اللبناني،1980م
7- حسين، طه، من حديث الشعر و النثر، القاهرة، دارالمعارف، 1969م
8- خفاجي، محمد عبد المنعم، دراسات فی الأدب الجاهلي و الإسلامي، الطبعة الأولی، بيروت، دار الجيل، 1992م
9- رؤبة، مجموع أشعار العرب و هو مشتمل علی ديوان رؤبة، تصحيح وليم بن الورد البروسي، الطبعة الأولی، دارالآفاق الجديدة، 1979م
10- الزوزنی، أبو عبد الله الحسين بن أحمد، شرح المعلقات السبع ، بيروت ، دار الجيل ، بلا تاريخ .
11- الضبي، أبو العباس المفضل بن محمد، ديوان المفضليات، تحقيق:کارلوس يعقوب لايل، بيروت، مطبعة الآباء اليسوعيين، بلا تاريخ
12- ضيف، شوقي، التطور و التجديد في الشعر الأموی ،الطبعة التاسعة، القاهرة ،دارالمعارف،بلا تاريخ
13- ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربي،ج3، العصر العباسي الأول،الطبعةالسادسة عشرة،القاهرة، دارالمعارف،بلاتاريخ
14- عتيق، عبد العزيز ، الأدب العربي في الأندلس ، الطبعة الثانية ، بيروت ، دار النهضة العربية ، 1976م
15- الفروخ، عمر، تاريخ الأدب العربي،ج 1و2،الطبعة الخامسة،بيروت،دار العلم للملايين،1984م
16- هدّارة، محمد مصطفی، إتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري،الطبعة الثانية،القاهرة،دارالمعارف،بلا تاريخ
17- الهيب، أحمد فوزي ،الحرکة الشعرية زمن المماليک في الحلب الشهباء،الطبعة الأولی،بيروت، موسسة الرسالة،1986م