ندوة اليوم السابع تحتفل بيوم الثقافة الفلسطينية
وتحيي ذكرى مولد محمود درويش
الشاعر محمود درويش |
جميل السلحوت |
جميل السلحوت خصصت ندوة اليوم السابع الدورية الاسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس الشريف جلستها هذا المساء لاحياء ذكرى مولد الشاعر الكبير الراحل محمود درويش،المولود في 13-3-1941في قرية البروة قضاء عكا،والذي اعتبر يوما للثقافة الفلسطينية.
اعطى مشرف الندوة جميل السلحوت كلمة البداية للطالبة الجامعية آية ابراهيم جوهر فقالت:
" قهوة درويشية "
لا أزال حتى هذه اللحظة ... أتجرّع بحسرة ومرارة ... فكرة أن شاعر الوطن وسيد الكلمة "محمود درويش" لم يعد بيننا ... إنه فراغ روحي ... يشبه فقد جزء من الذاكرة ... فبغيابه ... مساحة الحزن قد ازدادت ... والأرصفة والشوارع الداخلية للروح باتت تفتقد وقع صوته يقول :
"من أنا لأخيّب ظن العدم" ؟
رحل درويش ورحلت معه أحلامي بإمكانية مقابلته يوما ما ... أصبت بخيبة أمل ... لكنّ التفاؤل عاد ليزور أفكاري التي تشتت وتبعثرت بغيابه ... فقد وقعت يداي على كتاب "سنكون يوما ما نريد" من إصدار وزارة الثقافة الفلسطينية ... والذي يتحدث في جزء منه عن السيرة الدرويشية ... شعرت أنني أتحدث مع درويش ... أزوره في بيته وأقرأ كتبه ... ولكم كانت سعادتي غامرة عندما قرأت العنوان الفرعي التالي:"عالم القهوة" ... عالم القهوة ؟ ؟ نعم ... فدرويش ... مبدع بقدر عشقه لهذا المشروب ... وهي التي يصفها بالمخدّر الذي ينبّهه كلّ صباح .
وأجمل ما في الأمر ... أنني شممت رائحة قهوته ... راقبت خيوط بخارها واحتسيتها أيضا ... علّمنا محمود درويش كيف كان يصنع قهوته ... وها هي الوصفة:
« ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال ... ترسو ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكاً بطيئاً بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت. ثم تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت ثم تحركها تحريكاً دائرياً من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة، بين الملعقة والأخرى أبعد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار. بعد ذلك «لقّم» القهوة أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه، وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق، لا تدعها تغرق، أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ ... خذ القهوة إلى الممر الضيق ... صبها بحنان وافتنان في فنجان أبيض ... فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة ... راقب خيوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة ... أشعل سيجارتك الآن ... السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان».
هذا هو الإبداع الحقيقي ... أن ترسم بالكلمات ما تفكـّر به ... كي يعيش معك القارئ ... ويشعر بنصـّك ... ويصبح جزءا منه .
نفتقد درويشا ... نفتقد حضوره المتألّق في مسارح باريس وقصر الثقافة في رام الله ... لقد ذهب مبدعنا ليكمل الغياب الذي نقصه ... لكنّ قهوته ستسكننا برائحتها وبخطوط بخارها إلى الأبد ... كما يسكننا هو بكلّ تفاصيله ... فشكرا لك درويش على كرم ضيافتك وعلى كلّ شيء.
وقدم الشاعر الدكتور وائل ابو عرفة الورقة التالية:
هكذا تنتهي القصص.....هكذا تبدأ
د. وائل أبوعرفة
كنت في حيرة من أمري، ماذا سأقول في هذا المساء . كي أبتعد قليلا عن أجواء الرثاء، والغوص في أحواض البكائيات،فهل نحن في أجواء احتفالية للميلاد يقضي صاحبها في حضرة الغياب، أم في وقفة للبكاء على أطلال ذكرى الوداع? فما بين لحظة الميلاد وسيمفونية الفراق، تتأزم أسئلة الشعر وإشكاليات خطاب الثقافة، لنصبح على مرمى تفاحة من ميلاد الروح واندثار الجسد،ناظرين بعين الريبة إلى تضاريس المنفى وحدود الغياب، فعلى مدى سنوات طويلة من عشقي المتناهي للشعر، وجدتني دون إرادة مني مترنحا بين آلاف القصائد ومئات الشعراء العزيزين على قلبي، من سيد شعراء العربية أبي الطيب المتنبي، وحتى آخر العمالقة محمود درويش، وما بين هذا وذاك، كان ارتباطي الروحي إلى درجة المقدس، المتغلب على غريزتي الشعرية، بكثير من الفرسان الذين أدموا قلبي بغيابهم عن ميدان الفروسية كل على طريقته، فكثيرون هم الذين أغلقوا الباب وغادروا المكان في بداية هذا القرن دون استئذان من أحد: (عبد الوهاب البياتي، ممدوح عدوان، محمد الماغوط، محمد القيسي، فدوى طوقان، نازك الملائكة، فتحي سعيد، وغيرهم وغيرهم)،ومن بين هؤلاء جميعا، كان لي الشرف الكبير وربما عن طريق المصادفة، أن أكون على علاقة خاصة، على المستويين الشعري والإنساني، بثلاثة من أقانيم الشعر والإبداع على مدى نصف قرن من الزمن،تعرفت شخصيا على أمل دنقل، هذا الشاعر الصوفي الفقير، في إحدى أمسيات نجيب محفوظ في مقهى ريش في القاهرة، وتتبعت كل نتاجه الرائع حتى آخر ما أبدعه في أوراق الغرفة رقم ثمانية في المعهد القومي لعلاج الأورام حيث كان يصارع المرض في صمت مخيف، ويكتب رائعته الخالدة لا تصالح، رأيته حينها هناك في نظرة ألم أخيرة، ودع بعدها الحياة، لأهدي إليه بعد ذلك بعشر سنين قصيدتي المتواضعة(رسالة لم يقرأها كليب ).
ومن بين الذين نزفوا قصائدهم بصمت ومرارة، ولم توفه الأوساط الثقافية حقه لا حيا ولا ميتا، كان الشاعر الفيلسوف عبد اللطيف عقل، لقد كان أبو الطيب فيلسوفا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وصاغ شعره بيتا بيتا بقطرات من دمه دون مواربة أو مداهنة، وهو القائل بعنفوان الشاعر:(هو الشعر حين يقاتل يزهو، وحين يداهن يكبو، وحين ينافق أقسى من الطعن في الخاصرة)،تعرفت إليه وأنا في سنوات الصبا، وودعته وأنا في سنوات الشباب، وما بين اللقاء الأول والوداع الأخير حفظته وحفظت شعره عن ظهر قلب، استضفته في آخر أمسية له في نقابة الأطباء، كانت أمسية مفعمة بحرارة الشعر وصدق الكلمة، وسط حضور كثيف يليق بشاعر أبدع في تلك الليلة بكل ما آتاه الشعر من قوة وعزيمة، اتصل بي بعد يومين من تلك الأمسية ليسألني إذا ما كان قد نسي نظارتيه على المنصة، فأجبته بأنهما لدي وسآتي بهما في أقرب فرصة إلى مسرح السراج الذي كان يعكف على تأسيسه وترميمه، إلا أنني بعد هذين اليومين كنت أمشي حزينا في وداعه الأخير في قريته الوادعة (دير استيا)، مرددا قول محمود درويش(طوبى لشيء لم يصل).
أما ثالث هؤلاء، فهو الذي نجلس اليوم في ذكراه، شاعر ملأ الدنيا وشغلها على مدى نصف قرن من الشعر والإبداع، في معهد العالم العربي في باريس، تعرفت شخصيا على محمود درويش،كانت تلك إحدى أمنياتي منذ حفظت قصائده وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية، لمحته عن بعد وظننت أنني سألقى صعوبة بالحديث إليه، إلا أنني وجدت نفسي أحتسي معه القهوة على ضفاف السين برفقة أحد الأصدقاء العاملين في المعهد،كانت السماء صافية صفاء عاصمة النور، وكان السين هادئا أزرق يبعث في النفس شعورا بالحرية والأمل،تحدثنا كثيرا عن الشعر، الحداثة، وما بعد الحداثة، وكم كانت مفاجأة له أنني أحفظ الكثير من شعره عن ظهر قلب، حيث قال ممازحا:كأنك أنت قائل هذه الأبيات وأنا أستمع إليها لأول مرة، كم كان دمثا ومتواضعا وقليل الكلام إلى حد التصوف، لم يذم شاعرا ولا كاتبا مهما قل شأنه، أحب مثلي أمل دنقل وسعدي يوسف وسليم بركات، وتحدث كثيرا عن جده الأول أبي الطيب المتنبي، تحدثنا عن جغرافيا الوطن وعما تبقى مما كانت تسمى فلسطين. كانت الأسئلة كثيرة وكبيرة، كان غاضبا على ما تم الاتفاق عليه لحل قضية ساخنة في أبرد عواصم أوروبا، فكان مترددا بالعودة إلى ما سمّاه لاحقا، المتاح من الوطن، حيث قال فيما بعد:أتيت ولكن لم أصل، رجعت ولكن لم أعد،
بعد أمسيته الأخيرة الاستثنائية في قصر الثقافة في رام الله، اتصل بي قائلا: بحثت عنك ولم أجدك بين الحاضرين، اعتذرت لعدم حضوري بسبب انشغالي المهني، ولكنني ما زلت حتى هذه اللحظة نادما لعدم حضوري لأمسية درويشية كيف لي أن أعلم أنها ستكون الأخيرة؟ سافر محمود بعدها في رحلة اللاعودة بعد أن ودع أهله وأصدقاءه، ليعود لنا كما قال في بداياته، في كفن، كان لنبأ الرحيل على نفسي وقع الصاعقة، بكيت بكل أحاسيسي وجوارحي، ولا أذكر أنني بكيت على ميت كما بكيت في تلك اللحظة على محمود درويش، وبكيت مرة أخرى عندما رأيت شلة الانتهازيين والمتسلقين يتباكون عليه، ويتاجرون بأشعاره وهم الذين لم يقرأ أي منهم بيتا واحدا من شعره، فتذكرت قول نزار قباني في رثاء عبد الناصر(وراء الجنازة سارت قريش فهذا هشام وذاك زياد).
بعد الجنازة ، قفلت عائدا إلى القدس حزينا كئيبا، أردد في نفسي ما قاله فضل النقيب في رثاء غسان كنفاني:
(هكذا تنتهي القصص هكذا تبدأ).
المتتبع لشعر درويش، يدرك للوهلة الأولى أنه ولد شاعرا بامتياز، وهبته لنا الطبيعة خادما للشعر منذ السطر الأول في أوراق الزيتون، وحتى آخر سطر في قمة الإبداع والحداثة الحقيقية في لاعب النرد، ففي أوراق الزيتون الصادر سنة 1964، حدد هويته الأدبية ومفهومه لرسالة الشعر غير المجانية برسالة إلى القارئ:
غضب يدي غضب فمي ودماء أوردتي عصير من غضب
يا قارئي لا ترج مني الهمس لا ترج الطرب
هذا عذابي ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب
حسبي بأني غاضب، والنار أولها غضب
في هذا الديوان كما في الذي تلاه(عاشق من فلسطين-1966)رسم لنفسه درب البدايات، حيث كانت قصائده ملائمة لشاعر شاب مليء بالوطنية والتحدي، وهو الذي ما زال يمسح عن كاهليه غبار وآثار النكبة، فكانت قصائده تحريضية بوضوح مما عرضه للاعتقال والملاحقة المتكررة حتى نزوله عن الكرمل مغادرا فلسطين الوطن سنة 1970.
آمنت بالحرف نارا لا يضير إذا كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي
فإذا سقطت وكفي رافع علمي سيكتب الناس فوق القبر لم يمت
وقوله أيضا:
قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
وان لم يفهم البسطاء معناها
فأولى أن نذريّها ونخلد نحن للصمت.
كتب إلى أمّه من السجن، وأعلن تحديه للجلاد، وذاق طعم الحرمان والتشرد، فلم يكن كما حاول البعض أن يشوه تاريخه وموهبته، شاعرا مرفها أفاد من قضية شعبه ليصنع تاريخه الشخصي، وهو القائل في بداياته:
شدّوا وثاقي وامنعوا عني الدفاتر والسجائر
وضعوا التراب على فمي، فالشعر دمّ القلب، ملح الخبز، ماء العين،
يكتب بالأظافر والمحاجر والخناجر
سأقولها في غرفة التوقيف، في الحمّام، تحت السوط، تحت القيد، في عنف السلاسل
مليون عصفور على أعناق قلبي، يخلق اللحن المقاتل.
كان لعدوان وحرب ال 1967 أثر بالغ عليه كما على غيره أبناء الشعب الفلسطيني كافة، مما شكل نقطة تحول في خطابيه الشعري والوطني. نشر ديوانه الثالث (آخر الليل) إهداء إلى مدينة القدس، وفيه عمّق إيمانه بالثورة الجديدة رافضا الخنوع والاستسلام والرجوع كغيره من الأدعياء:
وليكن.. لا بد لي أن أرفض الموت
وأن أحرق دمع الأغنيات الراهفة
وأعري شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة
فإذا كنت أغنّي للفرح
فلأن العاصفة
وعدتني بنبيذ وبأنخاب جديدة
وبأقواس قزح
وكانت قصيدته الرائعة إلى فدوى طوقان:
نحن حل من التذكار فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليل
لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام
ولذا لم يفتت حبنا بين السلاسل
نحن يا أختاه من عشرين عام
لا نكتب أشعارا ولكنّا نقاتل
بعدها كان النزول عن سفح الكرمل، والرحيل القسري إلى حدود المنافي المختلفة، ليكون السفير المتجول الحقيقي لفلسطين، حاملا هموم شعبها وعبء قضيتها، مخاطبا إنسانية الذين تبلد فيهم الإحساس، رافعا صوت الفقراء والمحرومين:
نحن لا نسمع شيئا، قد سمعنا ألف عام
وتنازلنا عن الأرصفة السمراء كي نغرق في هذا الزحام
ونريد الآن أن نرتاح من مهنتنا الأولى،
نريد الآن أن تصغوا لنا،
فدعونا نتكلم:
نضع الليلة حدّا للوصاية
دمنا يرسم في خارطة الأرض الصريعة
كل أسماء الذين اكتشفوا درب البداية
كي يفروا من توابيت الفجيعة
فدعونا نتكلم
ودعوا حنجرة الأموات فينا تتكلم
كان لنزوله عن الكرمل انطلاقة كبيرة في صياغة مدلولات الشعر العربي الذي ساهم في وضعه على خريطة الشعر العالمي دون منازع، وفي حديث لجريدة المجاهد الجزائرية بعد وصوله القاهرة بأيام، قال بلغة الشاعر: ارحمونا من الحب القاتل، أن أسوأ ما يمكن أن يقدمه شاعر لقضية عظيمة، هو أن يكتب لها شعرا رديئا، وهناك يسأل نفسه(في القاهرة الساحرة، تحلم بأنك في الجنة، فتقوم في الليل وتفتح النافذة، لتتأكد من صحة الأبدية كلما رأيت النيل، لكن، لماذا نزلت عن الكرمل؟).
ويصرخ في وجه المنافي التي اعتاد عليها كما عشقته واعتادت عليه:
أحب البلاد التي سأحب
أحب النساء اللواتي أحب
ولكن غصنا من السرو في الكرمل الملتهب
يعادل كل خصور النساء
وكلّ العواصم
أحب البحار التي سأحب
ولكن قطرة ماء على ريش قبرة في حجارة حيفا
تعادل كل البحار
أدخلوني إلى الجنة الضائعة
سأطلق صرخة ناظم حكمت
آه يا وطني.
في بيروت كان للشعر عند درويش مذاق آخر، وكانت تحولات اخرى بقدر التحولات التي فرضتها المرحلة الفاصلة من تاريخ الثورة والقضية، لم يكن راضيا عن كل شيء، ولم يكن تابعا لأي شيء، كتب لبيروت وعنها، رثى ثلة من الشهداء وبكاهم، كان مهموما بالوطن حاملا كعادته عبء القضية، وكان بحق شاعر المهمات الصعبة، في بيروت كتب تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، وكتب أعراس الذي وصف فيه الحرب بكل بشاعتها، ولم يداهن أو يساوم لا موقفا ولا شعرا حين أطلق قصيدته الاستثنائية أحمد الزعتر:
أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الجنازة وانتخاب المقصلة
أنا أحمد العربي فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار فليأت الحصار
وأنا حدود النار فليأت الحصار
وأنا أحاصركم أحاصركم
وصدري باب كل الناس فليأت الحصار
إلى أن كان الخروج من بيروت والذي توجه بقصيدته التسجيلية الوثيقة مديح الظل العالي، (ولولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى) واعترافه بأخطاء الثورة التي تأكل أبناءها:
(وسأعترف
بجميع أخطائي
وما اقترف الفؤاد من الأماني
ليس من حق العصافير البكاء على سرير النائمين.)
( صبرا برا تقاطع شارعين على جسد
صبرا نزول الروح في حجر
وصبرا لا احد
صبرا هوية عصرنا حتى الأبد).
( يبذل الرؤساء جهدا عند أمريكا لتفرج عن مياه الشرب
كيف سنغسل الموتى
ويسأل صاحبي:
وإذا استجابت للضغوط
فهل سيسفر موتنا عن دولة أم خيمة؟
قلت انتظر، لا فرق بين الرايتين).
يصور الخروج الثاني من بيروت، يرفض الخروج، لان بيروت ليست حيفا، وكان عليه أن يقول ذلك هناك، فيخجل من تصويب الخطأ بالخطأ، بأنه لن يخرج عن طريق البحر،
( بوسعك الآن أن تحصي دقات القلب، في الوداع الحزين لثورة تبحث عن طريق أبعد، للوصول إلى أرضها التي كانت على مرمى تفاحة).
( في السيارة ذات الحصانة الدبلوماسية، التي هربتك من بيروت إلى دمشق، قال لك السفير الليبي: لو عرفت جزءا مما أعرف، لكفرت باللغة العربية، قلت له شكرا، وشرقت بأحرف العلة، ولم تبك هذه المرة، لأن الدمع والنار لا يجتمعان في عين واحدة، ولا في عبارة واحدة).
بعد بيروت كانت مرحلة من المنافي البعيدة ما بين فيينا وباريس، وترحالا مؤقتا في بعض عواصم العرب التي عاتبها بعد الخروج قائلا:( وأمد أضلاعي فيهرب من يدي بردى، وتتركني ضفاف النيل مبتعدا، وأبحث عن حدود أصابعي في الأرض، فأرى العواصم كلها زبدا).
في فترة المنافي الثانية، كتب درويش ما يمكن وصفه بأجمل قصائده وأشعاره، من حصار لمدائح البحر 1984 ، وحتى أحد عشر كوكبا مرورا بهي أغنية وورد أقل (1986) وأرى ما أريد (1992). في هذه الكوكبة كانت هناك مراجعة للتجربة وحسابا للنفس واستذكارا للشهداء ورفاق الدرب الغائبين، مراثي مطولة لعز الدين القلق، وماجد أبو شرار، ومعين بسيسو. وقصائد كثيرة مفعمة بالحزن والأمل هي الأكثر شيوعا وترديدا على لسان قرائه ومحبيه:
- على هذه الأرض ما يستحق الحياة
- ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا
- وما زال في الدرب درب وما زال في الدرب متسع للرحيل
- أنا من هناك ولي ذكريات
- عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء، أقول لهم تصبحون على وطن.
كان رثاؤه لماجد أبو شرار ملحمة فلسطينية خالصة، تطرق فيها إلى صديقه وتوأمه، راجع فيها حدود الوطن المفقود في صراعات اللغة وهوامش الانكسار، ودعا إلى وحدة الدم والجسد، في وقت كانت فيه بوادر الانقسام واقتتال الإخوة على أشدها، وكان أيضا لقاؤه الأول مع جراحة قلبه المتعب:
صباح الخير يا ماجد
صباح الخير
قم اقرأ سورة العائد وحث السير
إلى بلد فقدناه بحادث سير
صباح الورد يا ماجد
صباح الورد
قم اقرأ سورة العائد
وشد القيد
على بلد حملناه كوشم اليد
إلى قوله:
تجمع أيها الدم الفلسطيني في واحد
تجمع واجمع الساعد
لنكتب سورة العائد
بعد عودته إلى المتاح من الوطن، كانت عشر سنوات من الشعر والإبداع اللامتناهي في سباق مع الزمن، أصدر خلالها كما هائلا من المشاعر والأحاسيس المتصارعة في بوتقة اللغة، راجع ذكريات التشرد والخروج والمنافي، أرّخ للهجرة والتهجير وضياع الوطن، تحدث عن مآسي المرحلة بوضوح، رثى نفسه قبل الرحيل، تحدى الموت مرة أخرى بعد لقائه الثاني مع جراحة القلب المنهك في جدارية لا أجمل ولا أروع، ورثى كثيرا من الغائبين قبله في نثريات أقرب ما تكون إلى الشعر( توفيق زياد، إميل حبيبي، ممدوح عدوان، إبراهيم أبو لغد، ادوارد سعيد، وسليمان النجاب).
في هذه السنوات العشر كان ميلاد سرير الغريبة، المجموعة التي اختلف النقاد والقراء في تفسير مكنوناتها، مجموعة تخلط ما بين الغريبة المنفى، والغريبة الحبيبة، فيها كانت ذاكرة المنفى هي البديل لذاكرة الوطن في حضن الحبيبة الغريبة
.