تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 16
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " جَمْهَرَةُ مَقالاتِ الْأُسْتاذِ مَحْمودْ مُحَمَّدْ شاكِرْ " ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
إِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ كَيْفَ يَتَناوَلُ الشُّعَراءُ هذَا الْمَعْنى الْمَغْسولَ مِنَ الشِّعْرِ " فيكِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ " ، فَانْظُرْ حَيْثُ يَقولُ جَريرٌ وَهُوَ فيما نَعْلَمُ أَوَّلُ مَنِ افْتَتَحَه : مَا اسْتَوْصَفَ النّاسُ ( مِنْ شَيْءٍ ) يَروقُهُم إِلّا أَرى أُمَّ عَمْرٍو فَوْقَ ما وَصَفوا كَأَنَّها مُزْنَةٌ غَرّاءُ واضِحَةٌ أَوْ دُرَّةٌ لا يُواري ضَوْءَهَا الصَّدَف وَقَدْ أَحْسَنَ جَريرٌ تَحْديدَ الْمَعْنى وَتَجْريدَه مِنَ اللَّغْوِ ( مِنْ شَيْءٍ يَروقُهم ) ، وَجَعَلَ في صاحِبَتِه مِنْ أَلْوانِ الْجَمالِ ما تَهْفو إِلَيْهِ نُفوسُ النّاسِ عَلَى اخْتِلافِ أَذْواقِهِمْ وَتَبايُنِ أَنْظارِهِمْ . وَكَأَنَّ أَبا نُواسٍ نَظَرَ إِلى هذَا الْمَعْنى حينَ قالَ : لَكِ وَجْهٌ مَحاسِنُ الْخَلْقِ فيه ماثِلاتٌ تَدْعو إِلَيْهِ الْقُلوبا عَلى أَنَّ جَريرًا قَدْ ناقَضَ وَأَحالَ وَأَفْسَدَ مَا اسْتَصْلَحَ مِنْ شِعْرِه ، حينَ رَجَعَ فَقالَ فِي الْبَيْتِ الَّذي يَليه : " كَأَنَّها مُزْنَةٌ ... أَوْ دُرَّةٌ " ؛ فَإِنَّ هذَا الْحَرْفَ ( كَأَنَّ ) لِلتَّشْبيهِ ، وَالتَّشْبيهُ يَدَّعي قُصورَ الْمُشَبَّهِ عَنِ الْمُشَبَّهِ بِه ، وَهُوَ قَدِ ادَّعى أَنَّه يَرى صاحِبَتَه فَوْقَ ما يَصِفُ النّاسُ ( مِنْ شَيْءٍ ) يَروقُهُم أَوْ يَروعُهُم أَوْ يَفْتِنُهُم |
ولم لا نقول : أراد " هي فوق ما يصفون عادة مثل أنها كذا وكذا ؛ فهذا الوصف أدنى من حقيقتها ، وكذلك غيره من الأوصاف " ؛ فتكون " كأن " على أصلها ، كلمتين : " كـ " ، و" أن " ! |
مِنْ مُذَكِّراتِ عُمَرَ بْنِ أَبي رَبيعَةَ ذاتُ النِّطاقَيْنِ ( قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ بِعَقِبِ حَديثِه ) : ... فَوَاللّهِ لَقَدْ جَهَدَنَا الْبَلاءُ (...) |
بعث لنا أستاتذنا بهذه الطائفة من المقالات الحوارية " من مذكرات ... " ، روح أستاذه - رحمهما الله ! - الذي حضرنا بطائفة مقالاته بوحي القلم " من نسختنا من كليلة ودمنة " وغيرها ؛ فكان مضمار أرواحنا وأجسادنا ! |
لَوْلا أَنَّ الْيَأْسَ هُوَ بابُ الْمَوْتِ ، لَكانَ هُوَ فِي الْحَقيقَةِ ، إِحْدَى الرّاحَتَيْنِ |
هي إذن راحة تُفْضي إلى أخرى ؛ فبإفضائها إليها سُمِّيَت اسمَها |
" ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا ، فَقالَ : " (...) فَمَا اخْتَلَفوا إِلّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ (...) " ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللّهُ - سُبْحانَه ! - أَنَّ اخْتِلافَ مَنْ سَبَقَنا لَمْ يَكُنْ إِلّا بَغْيًا مِنْ بَعْدِ أَنْ جاءَهُمُ الْعِلْمُ ، وَأَنَّه جَعَلَ الْمُسْلِمينَ عَلى شَريعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ . وَحَقُّ ذلِكَ أَلّا يَقَعَ الِاخْتِلافُ بَيْنَ الْمُسْلِمينَ إِلّا في رَأْيٍ لا يُفْضي إِلى فُرْقَةٍ ، وَعَلى ذلِكَ كانَ السَّلَفُ مِنْ أَصْحابِ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - فَاتَّبَعوا قَوْلَه : " لا تَخْتَلِفوا فَتَخْتَلِفَ قُلوبُكُمْ " ، وَقَدْ نَهى عَنِ الْجَدَلِ وَالْمِراءِ ، وَتَناهى أَصْحابُه عَنْه ؛ حَتّى قالَ ابْنُ عُمَرَ : " لا يُصيبُ الرَّجُلُ حَقيقَةَ الْإيمانِ ؛ حَتّى يَتْرُكَ الْمِراءَ وَهُوَ مُحِقٌّ " |
ذكر أستاذنا هذا المعنى مرة ، بمجلسه وعن يميني أخي محمود الرضواني الذي جعل رسالته للماجستير في أستاذنا بين الدرس الأدبي والتحقيق - فعلقت بهذا الجزء من الآية : " مِنْ بَعْدِ ماجاءَهُمُ الْعِلْمُ " ، فأقره ؛ فسألني أخي عن حفظي القرآن لما استحضرت هذا الجزء الشاهد ، ولم أكن من حَمَلته كله ، وكأن لا يَسْتَشْهِدُ به قراؤه العاكفون عليه ! |
أَمّا الْفِقْرَةُ الْأولى مِنَ اسْتِدْراكِه ، وَهِيَ الَّتي جاءَ فيها عَلى هذَا الرَّجَزِ ص 222 : " اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنا وَلا تَصَدَّقْنا وَلا صَلَّيْنا ..................... إِنَّ الْأُلى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنا .................... وَقَوْلُه : إِنَّ صَوابَ الْأَوَّلِ : " لا هُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنا " ، وَإِنَّ صَوابَ الْأَخيرِ : " إِنَّ الْأُلى لَقَدْ بَغَوْا عَلَيْنا " ، ثُمَّ تَعَجُّبُه مِنْ أَنْ يَفوتَني ذلِكَ الِاخْتِلالُ في وَزْنِ الرَّجَزِ وَأَنا شاعِرٌ وَعَروضيٌّ ، فَإِنّي أَبْرَأُ إِلَيْهِ مِنْ نِسْبَةِ الْعَروضِ ؛ فَطالَما أَفْسَدَ الْعَروضُ ما بَيْني وَبَيْنَ أَصْحابي مِنَ الشُّعَراءِ ، وَلَيْسَ الْأَمْسُ بِبَعيدٍ ! |
عنى معركة " مُنْطَلِق " بشر فارس ! |
رِوايَةُ " اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنا " ، هِيَ الْوارِدَةُ فِي الْأَصْلِ (...) وَقَدْ نَصَّ شُرّاحُ كُتُبِ السِّيَرِ وَشُرّاحُ الْبُخاريِّ ، عَلى أَنَّ هذَا الرَّجَزَ لَيْسَ يَتَّزِنُ (...) ، وَلَمْ يُصَحِّحوهُ ، أَوْ يُبَدِّلوه إِلى ما يَتَّزِنْ (...) فَإِذا كانَ أَصْحابُ الْعِلْمِ وَالدِّرايَةِ وَالْبَصَرِ بِالرِّوايَةِ ، لَمْ يَفْعَلوا ما أَرادَنِي الْأُسْتاذُ عَلى أَنْ أَفْعَلَه مِنْ حَيْثُ إِنّي عَروضيٌّ كَما يَقولُ ، فَلِيَ الْعُذْرُ تابِعًا لَهُمْ مُقْتَدِيًا بِهِمْ حَريصًا عَلى أَلّا أُبَدِّلَ أَوْ أُحَرِّفَ (...) هذا وَالْكَلامُ عَنْ مِثْلِ هذَا الرَّجَزِ وَما يَقَعُ في بَعْضِ أَوْزانِه مِنَ الِاخْتِلالِ وَالِاضْطِرابِ ، يُفْضي إِلَى الْقَوْلِ فِي الْمَواضِعِ الَّتي كانَ يُنْشَدُ فيها ، وَكَيْفَ يَكونُ إِنْشادُه ؟ وَلِمَ يُتَجاوَزُ فيهِ عَنِ الْوَزْنِ ؟ وَلَوْ نَظَرَ الْأُسْتاذُ الشّاعِرُ إِلى صِلَةِ هذَا الرَّجَزِ بِما كانَ مِنَ الصَّحابَةِ في حَفْرِ الْخَنْدَقِ ، وَحَمْلِهِمُ التُّرابَ فِي الْمَكاتِلِ ، وَسَيْرِهِمْ مُصَعِّدينَ وَمُصَوِّبينَ ، مُتَوافِقينَ فِي الْإِنْشادِ يَمُدّونَ بِه أَصْواتَهُمْ مُخْتَلِطَةً مُرْتَفِعَةً ، لَعَلِمَ عِلْمَ ذلِكَ ، وَلَكفانا مَؤونَةَ الْجَرْيِ وَراءَ الْعَروضِ : أَهُوَ يَتَّزِنُ أَوْ لا يَتَّزِنُ ؟ حَتّى يَبْلُغَ بِنا ذلِكَ إِلى تَبْديلِ الرِّواياتِ وَتَحْريفِها ، وَقَدْ جاءَتْ عَمَّنْ كانَ أَعْلَمَ مِنّا بِالشِّعْرِ وَالْعَروضِ ! |
لا ريب في قدامة الجرأة على الرجز ؛ حتى عد مطية الشعراء ، يوجهونها كيف شاؤوا . ولكن فيما ورد نظرا آخر لا بأس به - إن شاء الله - : أما " اللهم ... " ، فلا تبعد إضافة أوله الذي قبل " لاهم " ، إقامةً للكلمة ، على جهة الخَزْم ، ثم في الإنشاد المطوّل للمد تعويض معروف . ثم أما " قد بغوا " ، فلا يستحيل أن يكونوا يُحَرّكون واو الجماعة تحريكا يطوي الجزء الثاني ، والطي كالخبن المطلوب بـ" لَقَدْ بَغَوْا " ، كثير حسن ، وإهمال إثبات مثل هذا التحريك أو النص عليه ، قريب . |
أَخَذْتُ أَسْتَغْرِقُ في تَأَمُّلِ هذِهِ الْحَياةِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمُتَطاوِلَةِ ، مُنْذُ عَهْدِ أَبينَا الشَّيْخِ آدَمَ ، رَحِمَهُ اللّهُ ! |
من شاء وجد في نثر أستاذنا - رحمه الله ! - ما في شعره من أفكار وتعابير وتراكيب وألفاظ وآراء ؛ حتى ليقطع بأنهما ( النثر والشعر ) ، خرجا معا من ينبوع واحد ! |
(...) سَنَةِ 1365 هَجْريَّةً ، الْمُوافِقُ لِسَنَةِ 1946م |
فالسنة هي السنة ، لا غيرها بحيث توافقها ، أما الموافق فالتاريخ الهجري أو الميلادي |
(...) تَتِمَّةُ تاريخِ أَبي جَعْفَرٍ الطَّبَريِّ (...) [ ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتّينَ وَثَلاثِمِئَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ ] ذِكْرُ ما كانَ فيها مِنَ الْأَحْداثِ (...) مِنْ ذلِكَ ما كانَ فيها مِنَ اجْتِماعِ مُلوكِ الْعَرَبِ وَأُمراؤُهُمْ وَوُزَراؤُهُمْ بَعْد الْحَجِّ مِنَ السَّنَةِ الَّتي قَبْلَها |
وأمرائهم ووزرائهم ، والعطف على فاعلية " ملوك " ، وارد كذلك |
(...) لَمْ تَزَلْ تُريدُ أَنْ تَجْعَلَ الشَّرْقَ سوقًا وَأَهْلَه عَبيدًا |
رضي الله عنك ، وأرضاك ! قد كان ذلك كله ! |
افْعَلْ تَجِدْ قَوْلَهُمْ أَنَّ كَلِمَةَ ( اسْمٍ ) مُقْحَمَةٌ (...) |
قد كثر عليَّ فتح همزة " أن " ، بعد مادة القول ؛ فخطر لي أن يكون القول في هذه المواضع بمعنى الذكر لا النطق ، وفي هذا نص على اللفظ وابتداء به ، وفي ذاك تعبير عن المعنى |
في أَوائِلِ الْقَرْنِ الْماضي ( الهجري ) قامَ في مِصْرَ فَتًى يُنادي في جَنَباتِ هذَا الْوادي : " بِلادي ! بِلادي ! " ، فَهَبَّتْ مِصْرُ وَالسّودانُ تَتَلَفَّتُ مُسْتَجيبَةً لِهذَا الدّاعِي النَّبيلِ الصَّوْتِ ، الْحَبيبِ النِّداءِ ، الْقَويِّ الْإيمانِ . لَقَدْ كانَتْ مِصْرُ وَالسّودانُ هِيَ الَّتي تُنادي مِصْرَ وَالسّودانَ ؛ فَهِيَ دَمُه ، وَهِيَ أَعْصابُه ، وَهِيَ نَفْسُه ، وَهِيَ جَنانُه ، وَهِيَ لِسانُه ، وَهِيَ حَقيقَتُهُ الَّتي صارَ بِها هذَا الْفَتى يُدْعى بَيْنَ النّاسِ " مُصْطَفى كامِلْ " . ثُمَّ أَوْحَتْ مِصْرُ وَالسّودانُ إِلى فَتاها أَنْ يَقْذِفَ في وَجْهِ بِريطانْيا ذاتِ الْبَأْسِ بِكَلِمَتِهَا الْخالِدَةِ : " لا مُفاوَضَةَ إِلّا بَعْدَ الْجَلاءِ " ، لِأَنَّ حَقيقَةَ مِصْرَ وَالسّودانِ الْمُسْتَقِرَّةَ في بُنْيانِ هذَا الْفَتى ، كانَتْ تَعْلَمُ مِنْ سِرِّ ضَميرِها أَنَّ هذا هُوَ الْحَقُّ ، وَأَمّا كُلُّ شَيْءٍ سِواهُ فَباطِلٌ وَقَبْضُ ريحٍ ، كَما قالَ سُلَيْمانُ . نَظَرَتْ مِصْرُ وَالسّودانُ إِلى هذَا الْفَتَى الضَّئيلِ الْمَعْروقِ وَهِيَ تَبْكي مِنْ فَرْطِ لَهْفَتِها وَتَخَوُّفِها وَمِنْ فَرْطِ ما كانَتْ تَشْعُرُ بِه يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعَجْزِ الَّذِي اسْتَهْلَكَها وَأَثْقَلَها عَنْ أَنْ تَكونَ مِثْلَه تَوَقُّدًا وَنَشاطًا وَقوَّةً وَحَياةً ، وَلكِنَّها آمَنَتْ بِه ، وَرَضِيَتْ عَنْهُ ، وَجَعَلَتْ دَمْعَها شَهادَةَ الْإيمانِ بِحَقِّه وَحَقِّهَا الَّذي أَجْراهُ اللّهُ عَلى لِسانِه . وَنَجَمَتْ يَوْمَئِذٍ فِئَةٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ الَّذينَ شاءَ بِرَحْمَتِه وَحِكْمَتِه أَنْ يَجْعَلَ مِصْرَ وَالسّودانَ لَهُمْ مَنْبِتًا وَمَباءَةً كَما جَعَلَها مَنْبِتًا وَمَباءَةً لِسائِرِ الْهَوامِّ وَخَشاشِ الْأَرْضِ وَهَمَجِ الْجَوِّ ، وَقامَتْ بِريطانْيا تَتَعَهَّدُ هذِهِ الْفِئَةَ وَتَغْذوها وَتُرْضِعُها مِنْ دَرِّها بُغْيَةَ أَنْ تَشْتَدَّ فَتَكونَ سِباعًا وَجَوارِحَ وَأَعْوانًا لَها عَلَى الْفَتْكِ بِهذَا الْبَلَدِ الْأَمينِ ، وَما هُوَ إِلّا قَليلٌ ، حَتّى خَرَجَ مِنْها خَلْقٌ يَعْوي في وَجْهِ الْفَتى وَيَنْبَحُ وَيَهِرُّ هَريرًا لا يَنْقَطِعُ ، وَلكِنَّ مِصْرَ وَالسّودانَ أَبَتْ إِلّا فَتاها ؛ فَأَطاعَتْهُ ، وَأَنْكَرَتْ تِلْكَ الْفِئَةَ الَّتي نَبَتَتْ أَبْدانُها عَلى شَيْءٍ غَيْرِ نيلِها وَتُرْبَةِ هذَا النّيلِ . ثُمَّ قَبَضَ اللّهُ إِلَيْهِ فَتى مِصْرَ وَالسّودانِ ، فَخَرَجَتْ مِصْرُ وَالسّودانُ في جَنازَتِه تَبْكِي الصَّوْتَ الَّذي رَدَّدَ الْكَلِمَةَ الْخالِدَةَ الْمُنْبَعِثَةَ مِنْ سِرِّ أَحْشائِها : " بِلادي ! بِلادي ! لا مُفاوَضَةَ إِلّا بَعْدَ الْجَلاءِ " ، خَرَجَتْ مِصْرُ وَالسّودانُ ؛ حَتّى سِباعُ بِريطانْيا وَعُواتُها وَنُبّاحُها يَبْكونَ أَيْضًا ، لِأَنَّ في دَمِهِمْ شَيْئًا مِنْ مِصْرَ كانَ يَحِنُّ بِهِمْ إِلى صَوْتِ بِلادِها وَمَأْتَمِها وَنُواحِها . بَقِيَتْ مِصْرُ تَذْكُرُ فَتاها وَتَسْمَعُ صَدى كَلِماتِه مِنْ حَيْثُما تَلَفَّتَتْ ؛ حَتّى جاءَتِ الْحَرْبُ الْعالَميَّةُ الْأولى ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِهَدِّ الْقَنابِلِ وَدَويِّ الرَّصاصِ ، فَما كادَ يَسْكُتُ ناطِقُ الْحَرْبِ ؛ حَتَّى انْبَعَثَتْ مِصْرُ بِالْقوَّةِ الدّافِعَةِ الَّتي جَيَّشَها في قَلْبِها هذَا الْفَتَى الشّابُّ ، وَصَرَخَتْ في وَجْهِ بِريطانْيا الظّافِرَةِ : " حَقّي ! حَقّي ! أَيَّتُهَا الْغاصِبَةُ " . لَمْ تَهَبْ بَأْسَها وَلا سَطْوَتَها وَلا جَبَروتَ الظَّفَرِ الْمُسْكِرِ الَّذي ثَمِلَتْ بِنَشْوَتِه . ثُمَّ كانَ شَيْءٌ لا نَدْري كَيْفَ كانَ ! كانَ مَنْطِقُ الْحَوادِثِ يَقْضي بِأَنْ تُرَدِّدَ هذِهِ الْجَماهيرُ الثّائِرَةُ كَلِمَةَ مِصْرَ وَالسّودانِ الْخالِدَةَ : " لا مُفاوَضَةَ إِلّا بَعْدَ الْجَلاءِ " ، وَلكِنَّهَا اقْتَصَرَتْ يَوْمَئِذٍ عَلى ما يَتَضَمَّنُ ذلِكَ النِّداءَ الْحَكيمَ الَّذي نادى بِه فَتى مِصْرَ ؛ فَجَعَلَتْ تَقولُ : " الِاسْتِقْلالُ التّامُّ " ، وَخَرَجَتْ بِريطانْيا تَقْتُلُ بِالرَّصاصِ جُمْهورًا ثائِرًا مُطالِبًا بِحَقِّه مُسْتَبْسِلًا في سَبيلِه ، فَكُلَّمَا انْطَلَقَتْ رَصاصَةٌ انْطَلَقَتْ مَعَها صَيْحَةٌ واحِدَةٌ مِنْ حَناجِرِ أُمَّةٍ بِأَسْرِها : " الِاسْتِقْلالُ التّامُّ " ؛ فَكَأَنَّها رَأَتْها تُغْني عَنْ كَلِمَتِها : " لا مُفاوَضَةَ إِلّا بَعْدَ الْجَلاءِ " , فَهُما عِنْدَها كَلِمتانِ مُتَرادِفَتانِ . وَأَلَحَّتْ بِريطانْيا فِي التَّقْتيلِ وَالْفَتْكِ وَالْعُدْوانِ وَالْبَغْيِ ، وَأَلَحَّتْ مِصْرُ وَالسّودانُ فِي الْجُرْأَةِ عَلى باطِلِ بِريطانْيا مُطالِبَةً بِحَقِّها وَهُوَ " الِاسْتِقْلالُ التّامُّ " . وَلَمْ يَكُنْ يَدورُ بِخَلَدِها شَيْءٌ إِلّا هذَا النِّداءُ وَحْدَه لَيْلًا وَنَهارًا وَبُكْرَةً وَعَشيَّةً وَيَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْري في وَهْمِ الشَّعْبِ الثّائِرِ الْمُطالِبِ بِالْحَقِّ أَنَّ أَحَدًا سَوْفَ يَقولُ : تَعالَيْ أُفاوِضْكِ يا بِريطانْيا ؛ فَيَحْذَرَ عِنْدَئِذٍ حَذَرَه ، وَيَعودَ إِلى نِدائِهِ الْأَوَّلِ الَّذي هُوَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَكِنَّةُ الْمُضْمَرَةُ في دَمِ هذَا الشَّعْبِ الذَّكيِّ عَلى قِلَّةِ عِلْمِهِ الْقَويِّ عَلى ضَعْفِ حيلَتِه ! ثُمَّ كانَ شَيْءٌ لا نَدْري كَيْفَ كانَ ! كانَ زَعيمُ هذَا الشَّعْبِ الثّائِرِ " سَعْدْ زَغْلولْ " ، وَكانَ رَجُلًا شَيْخًا ، وَلكِنْ ناهيكَ بِه مِنْ شَيْخٍ ، وَكانَ خَطيبًا حَسْبُكَ بِه مِنْ خَطيبٍ ! كانَ يَسْمَعُ الْهَمْهَمَةَ الَّتي تَدورُ في دَمِ الشَّعْبِ وَلا تَجِدُ لَها بَيانًا ، فَيَصوغُ لَها بَيانًا مِنْ عِنْدِه ، وَيُلْقي بِه إِلَى الشَّعْبِ ؛ فَإِذا هُوَ يَسْمَعُ كُلَّ ما في ضَميرِه مُتَرْجَمًا في أَلْفاظٍ حَيَّةٍ تَتَرَدَّدُ في أُذُنَيْهِ ! وَفُتِنَ الشَّعْبُ بِسَعْدٍ ، بِلِسانِهِ الَّذي يَنْطِقُ بِأَسْرارِهِ الَّتي تَتَحَيَّرُ في دَمِه وَلا يَعْرِفُ كَيْفَ يُبينُ عَنْها ، وَأَسْلَمَ الْقِيادَ لِرَجُلٍ يَهْديه وَيُرْشِدُه وَيُعَبِّرُ عَنْه وَيَلْطِمُ بِشَيْخوخَتِهِ الْوَقورِ الصّاحِيَةِ شَبابَ بِريطانْيَا الظّافِرَةِ الطّائِشَةِ السَّكْرى بِراحِ النَّصْرِ . ثُمَّ كانَ شَيْءٌ اللّهُ يَعْلَمُ كَيْفَ كانَ ! فَإِذا هذَا الشَّعْبُ الْمَأْخوذُ بِسَعْدٍ ، الْفائِرُ بِالثَّوْرَةِ في طَلَبِ حَقِّهِ ، الْمُتَهَجِّمُ عَلى بِريطانْيَةَ الْعاتِيَةِ ، الْمائِجُ مِنْ مَنْبَعِ النّيلِ إِلى مَصَبِّه يَطْلُبُ الْحُرّيَّةَ مِنْ قُيودِه وَآصارِه ؛ فَتَتَلَقّاهُ أَسِنَّةُ الرِّماحِ الْبِريطانيَّةِ ، وَيَتَخَطَّفُ أَرْواحَه رَصاصُ الْوُحوشِ ذاتِ الْمَدَنيَّةِ الْعَريقَةِ مُنْذُ كانَ أَرِسْطو إِلى هذَا الْيَوْمِ - إِذا بِهذَا الشَّعْبِ الْمُنادي بِالِاسْتِقْلالِ التّامِّ يَسْمَعُ دَعْوَةً إِلى مُفاوَضَةِ بِريطانْيا لا يَدْري أَحَدٌ كَيْفَ جاءَتْ وَكَيْفَ تَدَسَّسَتْ إِلَيْهِ ، وَإِذا سَعْدٌ هُوَ الْمُفاوِضُ ، فَمَشَتْ مِصْرُ في آثارِ زَعيمِها ثِقَةً بِه وَتسْليمًا لَه ، وَرَجَتْ لِحَكيمِهَا الشَّيْخِ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْها بِاسْتِقْلالِها ... كانَ هذا وَلا يَدْري أَحَدٌ كَيْفَ كانَ ! |
ظللت في مجلس أستاذنا - رحمه الله ! - أسمع أنه يحب مصطفى كامل ، ويكره سعد زغلول ؛ حتى لقد غيَّر اسمه الذي سماه أبوه محبُّ سعد زغلول ، حتى يحذف منه كلمة " سعد " المركبة فيه ، وأبقى كلمة " محمود " ! فالآن تبين لي فرق ما بين شرافة جهاد مصطفى كامل - رضي الله عنه ! - ووضاعة دعاوى غيره ! |