حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري
نظرات في ديوان
الشاعر الدكتور جابر قميحة
أ.د/
جابر قميحةأحمد محمود مبارك
عن رابطة الأدب الإسلامي العالمية (مكتب البلاد العربية بالرياض) صدر عام 1318هـ ـ 1997م، ديوان عشري جديد للدكتور جابر قميحة بعنوان "حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري".
ولعل السمة الغالبة على قصائد هذا الديوان تتمثل في أنها تنطلق من أحاسيس شاعر شديد التفاعل مع واقع أمته الإسلامية .. حتى إنه في قصائده التي تبدو للوهلة الأولى أنها وليدة تجارب شعورية ذاتية، نجد أن الهم العربي الإسلامي قد ألقى بظلاله عليها، فنجد أنفسنا بصدد مزاوجة مؤثرة بين الاتجاه الوجداني الذاتي والاتجاه الواقعي العام ذي السمت الإسلامي وهذا ملمح سنعرض له بشيء من التفصيل في حينه.
ولأن الدكتور جابر قميحة ـ إلى جانب كونه شاعرًا ـ ناقد أدبي وأستاذ أكاديمي تنطلق رؤيته النقدية من خلال اتجاه أصيل لا يجنح إلى التغريب أو إدعاء الحداثة والجري وراء التيارات الأدبية الغربية والرؤى المستوردة، فقد كان طبيعيًا أن ينعكس موقفه النقدي على إبداعه الشعري لنجد سمات الأصالة خصيصة أساسية في جل قصائده سواء تلك التي كتبها على نهج الشكل العمودي التام ـ وهي أغلب قصائد الديوان ـ أو التي كتبها وفق الشكل التفعيلي أو المقطعي ذي القوافي المتنوعة ـ وهي قصائد قليلة لا تتجاوز ثلاث قصائد من بين قصائد الديوان الذي يضم عشرين قصيدة.
... وتتنوع موضوعات القصائد في نطاق المحور الرئيسي للديوان وهو التفاعل مع واقع الأمة الإسلامية ومعايشة قضاياها. لنجد شعر الشاعر مرآة لواقع أمته نابضًا بنبضها معبرًا عن آلامها وآمالها ... ففي تجربة شعرية ثرية مضمونًا وبناء عنونها بعنوان الديوان "حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري" (ص 5) .. نجد أنفسنا بصدد استدعاء لرمز إسلامي مضيء بارز وهو الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري. حيث يقف الشاعر في مدينة "استنبول بتركيا ـ تلك المدينة التي دفن فيها الصحابي الجليل بعد جهاد طويل في سبيل الله وإعلاء كلمة الدين ـ ينبري الشاعر الذي حضر مؤتمرًا أدبيًا أقيم في هذه المدينة عام 1993م، ليستحضر في مخيلته الصحابي الجليل ويخاطبه من خلال قصيدة عمودية طويلة رصينة قوية السبك ثرية الإيحاء كتبت على نسق الإيقاع الهادئ المؤثر لبحر الرمل المجزوء. فيقول:
يا أبا أيوب والإسلام قربى وانتساب
قد أتيانك ففي اللقيا اغتنام واكتساب
نتملى أرض مجد يزدهي فيها الخطاب
وبعد هذا الاستهلال المؤثر تتنامى القصيدة ليعيش الشاعر من خلال الاسترجاع صفحات التاريخ الإسلامي المضيء، الذي كان الصحابي الجليل أحد رموزه ـ في أحداث الماضي العطر.. فيتجلى لنا إيمان أبي أيوب وكرمه وجهاده في سيبل الله ونشر الدعوة الإسلامية في شتى ربوع الأرض جنبًا إلى جنب مع فرسان الإسلام البواسل:
يا كريما ضاف خير الرسل يا طبت وطابوا
ناخت القصواء في رحبك يا نعم الرحاب
إنما جئنـاك تحدونا بطـولات عجـاب
ذكريات في فم الدنيا هي المسك المذاب
ثم يتعمق التفاعل مع أحداث الماضي المجيد وتتآزر الصور الشعرية الجزئية راسمة لوحة نابضة معبرة عن أمجاد إسلامنا الحنيف ومآثر تاريخنا، مستدعية رموزًا أخرى مضيئة من رموز الجهاد في سبيل الله والفتح الإسلامي الميمون .. حيث يقول:
وخيول الله تمضي فهْي في الساح الجواب
ولها في ساحة النصر ذهاب وإياب
والمنايا ـ لا الدنايا ـ هي للصحب الطلاب
خالد فيهم وسعد والمثنى والحباب
ثم تستوقفنا صورة شعرية متفردة أسهمت في السمو الفني لهذه القصيدة على الرغم من بساطتها إذ يقول الشاعر بعد البيت السابق مباشرة , ومن خلال تعبير تصويري غير مباشر ينبئ عن مدى تضحيات فرسان الإسلام في سبيل نصرة دين الله، ومدى ما يتسمون به من الشجاعة والإيمان:
من دماهم في نواصي الخيل عطر وخضاب
ثم تتوالى الدفقات الشعرية لهذه القصيدة الرصينة الطويلة، معبرة عن سمات المسلمين الأوائل وهم يجاهدون في سبيل الله من خلال بناء تصويري شفيف مؤثر:
يوم دكوا الفرس والروم وما هانوا وهابوا
إنه المسلم حقا سيف حق أو شهاب
مصحف يمشي .. عليه من تقى الله .. ثياب
... غير أن الشاعر لا يستدعي الماضي المجيد برموزه المضيئة ليتعايش معه فحسب، فهو ليس مجرد حنين إلى الماضي الذي عاشه أجداده أو ليس استدعاء مجردًا. وإنما ليعقد مقارنة بين الماضي الإسلامي المشرق. وحاضر أمته الإسلامية الغائم.. ويلقي الشاعر بكشافاته النقدية على واقع الأمة التي خمدت فيها روح الجهاد واستشرى الونى .. إذ يقول مخاطبًا روح الرمز الإسلامي المضيء أبا أيوب الأنصاري في فقرة أخرى:
ثم جئناك وللشعر نشيج وانتحاب
بقلوب داميات بعد أن جل المصاب
ومثلما تآزرت الصور الشعرية الموحية لتعبر عن مجد الماضي من خلال بناء لغوي رصين محكم. تتلاقى الصور الشعرية الجزئية الموحية ـ أيضًا ـ وبشكل أكثر تميزًا من الناحية الفنية. لتعبر عن صورة الحاضر المؤلمة وأحوال الأمة التي تبعث على الأسى وحقوقها الضائعة وأبنائها المتقاعسين عن الجهاد.
ويح قلبي يا أبا أيوب قد جن الحساب
لا تسلهم عن غضاب لم يعد فيهم غضاب
والخيول الجرد نامت في مآقيها الذباب
غابت الصهْوات منها وتغشاها التراب
يا لقومي .. عن جهاد القوم قد صاموا وتابوا
واعدوا ما استطعتم .. قد تولاها الغياب.
... غير أن هذا الموقف النقدي للشاعر حيال واقع أمته المحزن الذي تجلى سوؤه من خلال هذه المقارنة الضدية بين الماضي والحاضر ... لم يكن من قبيل النقد السلبي والرغبة في تعذيب الذات أو حب التباكي , بل إنه نقد من أجل إيقاظ الهمم وبث روح العزم والجهاد , وإيقاد شعلة الأمل .. فالشاعر المسلم لا يعرف القنوط , وهو على الرغم مما آل إليه حال أمته يؤمن دائمًا بأنها خير أمة أخرجت للناس .. وأن ثمة فجرًا جديدًا سيطيح بسحب الظلام التي استشرت في آفاقها .. إذ يختتم القصيدة بفقرة شعرية مضيئة. نقتطف منها ما يلي:
أنا لم أقنط ولكن: ضل في قومي الصواب
ويقيني أنني بيني وبين النصر قاب
قد يغيب الحق يومًا ثم يأتيه الغلاب
فإذا الليل تمادى فسيمحوه انجياب
وفي قصيدة أخرى بعنوان "صفحة في سجل الأجداد" (ص 53).. يجذب الشاعر شباب الإسلام إلى صفحات التاريخ المجيد لأسلافهم كي يتزودوا منه بطاقات نورانية تقوي فيهم روح العزم والبطولة وتضيء في نفوسهم مشاعر الإيمان.. وعلى الرغم من أن البناء الفني لهذه القصيدة يختلف عن القصيدة السابقة في أن استدعاء الماضي لم يكن مقرونًا بنظرة صريحة للحاضر , إلا أننا نلمح نظرة غير مباشرة للشاعر تكشف عن هموم الأمة من خلال توظيف مآثر الماضي علمًا وفكرًا وجهادًا , ودعوة الشباب المسلم إلى التماس القدوة والأسوة الحسنة في أسلافهم العظام الذين جمعوا بين فضل العلم والإيمان والفكر المضيء، وفضل الجهاد في سبيل الله. يقول الشاعر من خلال قصيدته الرائية الرصينة التي اتخذت من تفعيلات بحر شعري عربي أصيل بنية موسيقية لها. وهو البحر الطويل الذي يتواءم مع مواقف الفخر وإيقاظ الهمم , وبث روح العزم في النفوس , كما يتسم برحابته وتنوع إيقاعاته .. يقول الشاعر:
بـنـيّ تـعـال اليوم نفتح جـدودك كـانـوا لـلأنـام هداته فـقد سودوا الصفْحات علمًا وحكمة فـدكـت ضـلالات وخـر جبابر فـشـرق أهل الحق فيها وغربوا هـتـافهم التوحيد يسري كما السنا | صفحةمـن العبق التاريخ كي ينفع سـلاحـهمو فيها اليراعة والحبر ومن سُودِها قد أشرق النور والزهر وقـاد شعوب الأرض أجدادك الغر لـيـجري بهم بحر ويزهو بهم بر ولـكـن بـيمناهم رماحهم السمر | الذكر
.. ثم تتنامى القصيدة لنجد أنفسنا بصدد فقرة مضيئة يدحض فيها مزاعم أعداء الإسلام الذين زعموا زورًا ومينا أن الإسلام قد انتشر بحد السيف .. إذ يقول الشاعر من خلال بناء شعري متامسك أكسبته الصور الشعرية الشفيقة المتآزرة مع طبيعة التجربة الشعورية قوة تأثيرا:
ولـكـنـمـا الفتح المداوم وجيش من الإحسان والحكمة التي لـيهتك عنه ظلمة الليل والهوى فـلا تعجبنْ كيف الكَفُور وقد غدا | إنماقـيـادتـه الـحب المنزه تخاطب عقلاً قد طوى نورَه الشر ويـسلك درب المهتدين ولا كبر تـساقط عنه الليل والشر والكفر | والبر
فتى الحق يا فخر العروبة كن لها تـقـدم إلـى العلياء إنك مسلم فكن من شباب يطلب المجدُ ودّه | مـنارة علم وانطلق زانك ومـن دان بالإسلام لم يثنه القهر ويشدو به صوت العروبة والفخر | البِشْر
أتـيـت بـعد فـالأم تـمضي الليالي وهْنا على الوهن قاست وأنـت فـي غـيبات فـمـن هـداك لتُغْذَى ومـن سـقـاك شرابًا سـبحان من قد براك | انتظارقـاس طـويـل مريرِ ثـقـيـلـة كالدهور فـي تسعة من شهور كـالـحـالك الديجور وأنـت غـير بصير؟ فـي غير كأس درير فـي أحـسن التصوير |
ثم تتوالى الدفقات الشعرية معبرة عن تلك البهجة التي سببها ميلاد الطفل في الأسرة لنلمح رقة مشاعر الشاعر (الجد) وتفاعله مع عالم الطفولة وما نجم عن ذلك من استخدام لغة بسيطة رقيقة مناسبة للمعنى بطريقة عفوية أكدت حرارة الصدق الفني:
إن صحت (واوًا) سمعنا يـفـوق كـل جـميل أو ابـتـسـمـت إلينا أو فـاض ريقك حاكي | لـحنا سرى في حـتـى أغاني الطيور كـلـؤلـؤ مـنـثور نـدى بـوجه الزهور | البكور
سـميت أحمد ترى غدًا هل أراك عـلى هداه خطاك وتستجيب لداعيه .. بـعـزمة لا تبارى | يمناباسم البشير مـن جنده المبرور مـباركًا في المسير إن دعـا لـلـنفير وهـمـة كالسعير | النذير
.. ثم هل اكتفى الشاعر بتجلية هذه الرؤية الإسلامية ليختتم بها القصيدة؟ الواقع أن معايشته لقضايا أمته أمر انعكس بتلقائية على تجربة الشعورية الخاصة. إذ يبث للطفل ما يعتمل في فكره ووجدانه من جراء معايشته لقضايا أمته وتفاعله مع واقعها مستشرفًا الأمل في غد مشرق لهذه الأمة على أيدي أطفال اليوم ... رجال الغد :
غـدًا ترى يا يـمضي أسير الدنايا وأرضـنا كيف مادت فكن على الدرب نجمًا وكـن لـدينك درعًا | حبيبيكم ضارب كالضرير أقْـبِـحْ به من أسير مـن طـامع مسعور يـمضي أبيّ المسير عـند الصدام الخطير |
... وكما ألقى التفاعل مع الواقع الإسلامي ومعايشة قضايا الأمة بظلاله على التجربة الوجدانية الذاتية في القصيدة السابقة فأحدث مزجًا وتضافرًا بين الخاص والعام. نجد أنفسنا إزاء موقف مشابه في قصائد الرثاء التي تضمنها الديوان. ومنها قصيدته "أمير العاشقين" (ص 31) التي قيلت في رثاء الشاعر الإسلامي الكبير الراحل عمر بهاء الدين الأميري.. وأيضًا في قصائد المناسبات ومنها قصيدة "نجيب الكيلاني" رحمه الله (ص 59).
والتي كتبها الشاعر والقاها قبل رحيله كتحية للكاتب الإسلامي الراحل نجيب الكيلاني والتي كانت آخر ما سمعته من أشعار. كما أشار الشاعر إلى ذلك في هامش الديوان، فالقصيدتان نابعتان من موقف إحساسي خاص، وتجربة شعورية وجدانية ذاتية. غير أن التجربة قد تنامت وتعددت أبعادها لنجد أنفسنا بصدد مزج بين الخاص والعام. ويتجلى انعكاس تفاعل الشاعر مع واقع أمته على تجربته الشعرية ذات المنطلق الوجداني الذاتي.. ولعل ما ساعد الشاعر على النجاح في ذلك ـ أيضًا ـ ما عرف عن الشاعرين الراحلين - عليهما رحمة الله - من مواقف فكرية وأدبية مضيئة متمثلة في تكريس إبداعهما الأدبي والفكري للدفاع عن قضايا أمتهما الإسلامية.
وفي قصيدة طويلة بلغت سبعة وستين بيتًا بعنوان "الإسراء والأطفال والحجارة": (ص 143) يتجلى تفاعل الشاعر مع المناسبة الدينية العطرة للإسراء والمعراج. وهنا نجد أن احتفاء الشاعر بهذه المناسبة الدينية المضيئة يشوبه شعور بالأسى : فالمسجد الأقصى مسرى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعاني من أسر الغاصبين ومؤامرات أعداء الإسلام . بدأ الشاعر قصيدته معبرًا عن عَبق الذكرى ونورها متأثرًا في بنيته اللغوية والتصويرية بالسياق القرآني المقدس .. حيث يقول:
وهـا قـد هـلت فـأصـبـح جدبها روضًا مـحـمـد يا ربى يسري فـمـا زاغـت لـه رؤيا فـيـغـشى السدرة الشمّاء وآيــات لــه كـبـرى | الذكرىعــبـيـرًا فـاح وشـادي الـنـور ضـوّاه تـمـلّـيْ مـن مـحـياه ومــا كذبتــه عيــناه مــا يغــشى لمـَـرآه تُحــقـق مـا تــمنـاه | ريّـاه
... غير أن هذا الاستهلال المضيء الذي يكشف عن مشاعر البهجة بالذكرى العطرة، لا يلبث أن يعبر عن حالة من الكدر والحزن تسللت إلى أحاسيس الشاعر، وهو يرى المسجد الأقصى أسيرًا بأيدي الغاصبين فيتشح بحر المتوافر المجزوء الذي اتخذ منه الشاعر نسقًا لقصيدته بغيوم من الأسى والحزن ويتحول النشيد المبهج إلى نشيج حزين:
أنا في المسجد الأقصى ذرونـي أرتـوي منه ولـكـن الأيادي السو | وقـلبي الحب وأشـبـع من نجاواه دَ شـدتـنـي فـأوّاه | أضناه
... لكن شعاعًا من الامل شق تلك الغيوم الكثيفة التي غلفت مشاعر الشاعر .. يتمثل هذا الشعاع المضيء في أطفال وفتيان فلسطين المؤمنين الصامدين المجاهدين الذين يصنعون بجهادهم ملحمة بطولية مضيئة ويحرقون بحجارتهم المضيئة ليل الاحتلال والطغيان .. يتفاعل الشاعر مع تلك الروح الإيجابية .. فيقول:
ولكني بدرب الحزن هـناك رأيته طفلاً يـثـور بكفه حجر يـكبر حينما يرمي | والـظـلمات تُـشِع النورَ عيناه سـعـير الثأر لظاه وجـند يهودَ مرماه | تغشاه
ويتجلى الأمل في غد مشرق ترفرف فيه رايات النصر .. حين يقول الشاعر في قصيدته في الفقرة الأخيرة:
أيـا أطـفال يا خذوني انضوي معكم فـهذا النصر مؤتلق | أملاًوأنـتـتم قوة .. جاه بـدرب قـد عشقناه وأنـتم بعض بشراه |
والشاعر وإن كان قد استخدم الشكل العمودي التام في التعبير عن أغلب تجاربه الشعرية إلا أن ذلك لم يكن من منطلق الانحياز المتعصب لهذا الشكل بحيث يراه الشكل الوحيد للشعر العربي .. فهو كناقد ومبدع يدرك أنه لا ضير من استحداث أشكال جديدة تنبثق من الأصل الثري الضارب في عمق أعماق ثقافتنا الأدبية. ما دام هذا الجديد غير منبت الصلة بجذور الأصالة، مضيفًا لحركة الشعر العربي ما يمكن أن يكون أكثر تواؤمًا مع بعض التجارب الشعرية خاصة تلك التي تنحو منحى (دراميًا) أو قصصيًا.
وذلك ما فعله في قصيدته "شيخ يحكي موت الفارس" (ص 47) .. وقصيدة أخرى بعنوان "العقاد والأسوار المنهارة" (ص 18) . فهو في قصيدته "شيخ يحكي موت الفارس" يتجه ـ من حيث البناء الفني ـ اتجاهًا دراميًا قصصيًا يوظف فيه أسلوب السيناريو وأسلوب التداعي بشكل أثرى تجربته الشعرية المنطلقة من المحور العام لقصائده الديوان وهو التفاعل مع واقته أمته .. وجاء الشكل "التفعيلي" لهذا العمل الشعري متلائمًا تمامًا مع طبيعة التجربة.. فالشاعر يحكي عن شيخ طيب بالقرية اجتمع لديه بعض الفلاحين ذات مساء. فأخذ يقص عليهم جوانب من سيرة رمز من رموز التاريخ الإسلامي المضيء وهو خالد بن الوليد .. ويستدعي البطل الإسلامي وهو على فراشه قبل موته ليقول قولته المشهورة "لا نامت أعين الجبناء" بعد أن يحكي للمحيطين به ما أصاب جسده خلال سنوات جهاده في سبيل الله.. قائلاً:
لا حول ولا قوة إلا بالله
قد خضت زحوفًا مائة أو أكثر،
ورويت سيوفي من دمّ الأعداء
ورسمت برمحي خارطة الحرب الشعواء
حتى أصبح ما في جسمي شبر واحد
إلا وبه من حد السيف كلوم
أو أثر من طعنة رمح نجلاء
وبه من أثر نصال القوم رسوم
وأموت اليوم على فرشي كبعير
لا ذاقت طعمَ النوم عيونُ الجبناء
ثم يسترسل الشيخ (كراو) ساردًا بطولات خالد ومواقفه الجهادية في الغزوات والمواقع الإسلامية.. غير أن أولئك الذين استمعوا إليه من فلاحي القرية وبدا إعجابهم بالحديث في قولهم:
أكمـل يا سيدنا الشيخ،
حديثك كالشهد المعسول
يتغير حالهم في صباح اليوم التالي ... فكأن كلام الليل لهم قد دهن بزبد ضياء شمس اليوم التالي. وقد عبر الشاعر عن موقفهم هذا من خلال بنية شعرية حوارية خلابة. إذ دار الحديث فيما بينهم على النحو والتالي:
- عمن كان الشيخ يقول؟
ـ عن شخص يدعى .. يُدعَى.. إني والله نسيت
ـ عن شخص يبكي إذ يلقى الموت على فرشه
ـ شيء عجب والله ..!!!
ـ كل منا يتمنى أن يلقى الموت على فرشه
ـ قد ضيع منا هذا الشيخ السهرة أمس
ـ منه لله ..
ـ قد ضيع مني فرصة عمري .. آخر حلقات التليفزيون
ـ وأنا ضاعت مني فزورة نللي.
.. إن الشاعر يوجه أشعة كشافاته النقدية هذه المرة إلى جانب سلبي خطير في حياة الأمة وهو التأثر بالبث الإعلامي الساذج والمتدني الذي يبعد المستسلم له عن قضايا أمته.. بل عن قضاياه الحياتية الجادة والتزاماته الاجتماعية والوطنية .. دافعًا إياه إلى التأسي بالنماذج المشوهة التي أبرزها الإعلام الموجه المتأثر بالبث التغريبي والصهيوني .. ولعله يكون من الأهمية بمكان ألا ننهي الحديث عن هذه القصيدة الدرامية قبل أن نشير إلى أن الشكل التفعيلي لهذه القصيدة لم يحل دون إثراء التجربة الشعرية بموسيقى آخاذة سواء موسيقى تفعيلات (بحر الخبب) ...أو الموسيقى الداخلية للألفاظ والعبارات... أو موسيقى القوافي - التي وإن لم تجيء وفق النسق العمودي - إلا أن الشاعر حرص على أن يغذي بها تجربته لتكون عامل جذب لتفاعل المتلقي إلى جانب دورها الفني في تشكيل التجربة الشعرية، وكأن الشاعر- وهو ناقد أدبي أيضًا - أراد أن يقول: إن الخروج على الشكل العمودي باللجوء إلى الشكل التفعيلي في تجربة شعورية تستدعي ذلك لا يعني أن نجرد القصيدة من خصائص فن الشعر الموسيقية والإيقاعية والزخرفية ما دام ذلك يجيء بغير افتعال ومتساوقًا مع البناء الفني.
... ,بعد، فإننا بصدد ديوان ثري يكشف عن شاعر مقتدر صادق الموهبة .. وإن الاستغراق في تناول المزيد من قصائد الديوان قد يؤدي بنا إلى دراسة طويلة ليس هنا مجالها. ومن ثم نؤثر أن نكتفي بهذا القدر مشيدين بالديوان وبذلك الاتجاه الإسلامي المضيء الذي تنطلق منه موهبة صاحبه.
هامش:
د. جابر قميحة: شاعر وناقد وأستاذ جامعي مصري.. ولد بالمنزلة عام 1934م.
ـ حصل على درجة الدكتوراه في الأدب الحديث من جامعة القاهرة عام 1979م.
ـ من دواوينه الشعرية .. لجهاد الأفغان أغني عام 1992م، والزحف المدنس 1992م.