سلطان المادية 5

سلطان المادية

- 5 -

د. نجيب الكيلاني

لقد استطاع المؤمنون الصادقون أن يدركوا أبعاد الإسلامية، منهجاً وسلوكاً، ونظرية وتطبيقاً، حق الإدراك.. ومعنى ذلك أيضاً أنهم فهموا الهدف والوسيلة، كان الهدف هو الله، وكان الطريق إلى رضاه هو التمسك بآيات كتابه، وسنة نبيه، ولم تكن الحياة عند المسلم مادية صرفة، ولا روحانية مطلقة، بل كانت الحياة صورة سوية، وانسجاماً مع واقع الإنسان، وتوافقاً مع طبيعته وفطرته، ومزيجاً بين الروح والجسد، والدنيا والآخرة، دونما إفراط أو تفريط.

إن البناء العقائدي أو الفكري للمسلم بناء دقيق متوازن، قائم على أسس قوية، ودعائم صلبة، يستلهم الوحي الأمين، ويجوب الآفاق بعقل متفتح حر، وبصيرة نقية تربت في بيئة طاهرة تأنف من الإثم والفساد والتلوث.. في إطار هذا الفهم، وفي ظل تلك العقيدة استطاع المسلم أن يضرب في جنبات الأرض، فلا يصدر عنه إلا الصدق في الفعل والقول، وبرغم إيمانه بالحرية إلا أنه ملتزم.. ملتزم بشرع الله العادل المنزه عن الهوى أو الانحراف، ومن ثم فقد كان المسلم في حربه أميناً مع عقيدته، وكان في سلمه مرتبطاً بمبادئه، وفي تجارته لا يتخطى قواعد الوفاء والولاء، وفي علمه لا يخضع لضغوط المنفعة أو التعصب أو الانحراف، فالعلم يؤمن بالصدق والموضوعية، ويرتكز على التجارب والمقدمات والمشاهدة والاستنتاج، وهي الجوانب التي تحتاج إلى الجهد البشري، أما شرع الله بنصوصه وشروحه فهو فوق الشك أو المعارضة..

في هذا الجو المشبع بالصدق والأمانة والإيمان، لم يفرز المسلم إلا كل عظيم وجليل في أقواله وأفعاله، فعلى المستوى الفردي كان الإخاء والمحبة والتضحية، لهذا ولد المجتمع المتآزر المتحاب، ووجدت الحضارة الكبرى التي ما برحت تشيع الأريج والمجد في ثنايا التاريخ، والتي ما زالت تطل علينا كتجربة حية لا مثيل لها.. وعلى مستوى الجماعة كان التنظيم الدقيق، والتشريع الإلهي, والعدل الاجتماعي.. نعم.. كان هذا النجاح بسبب وضوح الهدف أو الغاية، وبسبب نظافة الوسيلة وجلاء أصولها ومسالكها..

لقد أدرك أعداء الإسلام ذلك..

ومن ثم أدخلوا في روع القادة والمفكرين والفنانين وعلماء الاقتصاد والسياسة.. أقول أدخل أعداء الإسلامية في روع هؤلاء جميعاً أن الرخاء المادي هو هدف المجتمعات الحديثة.. الرخاء المادي أو السعادة كما يطلقون عليها.. واستطاع قادة الفكر والرأي أن يدخلوا على المسلم من كل جانب.. وحاصروه بهذا الفكر المسموم صباح مساء، إذا فتح الصحيفة أو قرأ المجلة، أو دخل السينما والمسرح، أو اطلع على كتاب، وجد هذه الفكرة المشئومة تطل برأسها، لا شيء سوى الرخاء الاقتصادي أو الانتعاش الاقتصادي.. لقمة العيش.. الترفيه.. وأصبح كل شاب أو فتاة لا يفكر إلا في العائد المجزي، والمرتب الضخم، وأدوات الحياة الحديثة من تليفزيون وثلاجة وغسالة وسيارة بصرف النظر عن إمكانياته المحدودة، المهم أن أحلام الشباب كلها تحوم حول الدخل الكبير والاستمتاع بالحياة وما فيها من وسائل مستحدثة للمرح والراحة وقضاء الوقت بطريقة مسلية.. نحن لا ننكر على أحد أهمية العامل المادي في انتظام أمور الحياة الدنيوية.. ولكننا نعترض بشدة على أن يكون الجانب المادي هو كل شيء.. أو أن يصبح الاستمتاع بمباهج الحياة المادية هو الهدف الذي لا غاية بعده.. ونستنكر الضلال الإعلامي الذي يزين لنا هذه الحياة التافهة، وينقل عن أوربا وأمريكا الصورة المغرية لتكالب الناس على المتع وكل ما يدور في فلك الحياة المادية من مخترعات وسلع استهلاكية أو مطعم ومشرب وملبس، إن القيم العليا بالنسبة للمسلم هي الأساس.. ولا يمكن أن تكون مقاييس السعادة "بالكم".. فالملايين لا تسعد صاحبها، إذا وقع فريسة القلق والخوف، أو بات يعذبه الأرق واليأس، أو ظل يتلوى من آلام عضوية أو نفسية مبرحة.. فالمادة ضرورية في الحياة وليس من الضروري أن تتناسب الضرورة المادية مع "الكم" المادي نقصاً أو زيادة، والذين يرتكبون الحماقات من أجل الحصول على المتع المادية إنما ينظرون إلى الغد نظرة قصيرة حمقاء، فليس الوجود منصباً على الحياة البسيطة القصيرة التي نحياها، ولا على الانتصارات الصغيرة التي ترضي غرورنا وكبرياءنا، ولا ترتبط من قريب أو بعيد بعقيدتنا، وعندما تكون المادة غايتنا، فستتحول الدنيا إلى مزرعة تعسة يتخاطف فيها الناس الثمرات أو تصبح غابة مكتظة بالحيوانات المفترسة والوحوش، لا يفوز فيها إلا من أوتي القوة والسطوة والصولجان، ولا حياة فيها للضعفاء والمساكين، والحياة المادية الصرفة لا تسمع فيها صوتاً يهتف باسم الله، ولا همسة حب لتعس، ولا ترى فيها من يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ولا تجد من يتسابقون إلى التضحية والعطف والإيثار وإعلاء كلمة الله..

والحياة المادية الصرفة تخلق الأنانية والأثرة والحقد، وتصيب الناس بجنون المنافسة، وتجنح بهم إلى الخوض في دروب الفساد والرشوة والنفاق والوساطة والمحسوبية والدعارة، أو تجر إلى الذل والخوف والعبودية، وهذا ما حدث في الغرب والشرق، في العالم الرأسمالي والشيوعي، حينما سيطرت المادة، وأصبح تأثيره خطيراً في الفكر والسلوك والفن والسياسة والاقتصاد..

أعود فأقول: إن أعداء الإٍسلامية قد صدروا إلينا هذه المفاهيم، وملأوا رؤوسنا بالأفكار الشاذة الغريبة عن ديننا وعقائدنا، وأصبحت جماهيرنا تتبع – دون وعي- هذه الفلسفات المادية المتطرفة، ونسيت جماهيرنا أن الله هو الغاية.. وليست المادة هي الغاية.. إن المادة مجرد وسيلة من الوسائل العديدة التي تمدنا ببعض الطاقة التي تساعدنا في الوصول إلى الله.. فعندما نعرف الله ونؤمن به، نعرف بالضرورة قيم الحب والعدل والإخاء والتضحية والصبر، وندرك أن التقوى خير الزاد، وأن المؤمن الحق هو الذي تتحول حياته إلى حلقات متصلة من الصبر والجهاد في سبيل الله، لأجل أن تصبح كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى..

فالتبشير بالحياة المادية الصرفة ومباهجها، وجعلها هي الغاية التي لا غاية بعدها، كانت هي الغارة التي شنها أعداء الإسلامية على أمتنا، ومن ثم فقدنا تميزنا، وانماعت شخصيتنا، ولم نعد تلك الأمة التي لها مواصفاتها ومعاييرها الصادقة، وتشريعاتها الإلهية، أصبحنا كائناً شاذاً غريباً يرتدي أية أزياء، وينطق بأي لسان، ويحكم بأي قانون، ويلهو بأي فن وتحولت الساحة الإسلامية إلى أخلاط عجيبة، أو أصبحت كالثوب المرقع، وتفتح أذنيك فتسمع كل شاذ وغريب من المشرق والمغرب، وتنظر بعينيك فتجد حلفاً: الصليبية والشيوعية والاستعمار والإلحاد والمبادئ الشاذة، كلهم يخوضون معركة شرسة.. ضحاياها.. كل ضحاياها منا نحن.. نقتل أنفسنا بالأسلحة التي يقدمونها لنا، وننفق على الولائم والسهرات الحمراء، والسجون السوداء من المعونات التي يتفضلون بها علينا كذباً وبهتاناً، كل ذلك الطوفان من الحقد والتدبير الحاقد قد مسخ الوجه الإسلامي لأمتنا، وحول حشودنا المؤمنة عن غايتها النبيلة، وفتح لها باب الضياع والخسران على مصراعيه، لكن الأمر لم يكن بهذا اليسر وهذه السهولة، لقد تيقظت الفئات المؤمنة الواعية، ورأت ما يدبر للإسلام من مكيدة، وما يحاك لشعوبه من دسائس ومؤامرات قاتلة، فحاولت جاهدة أن تكشف عن وجه الحقيقة، وتشرح أبعاد التآمر الدامي، واتخذت أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة منهاجاً لها، ودعت هذه الفئات جموع الناس إلى العودة إلى الحق وإلى طريق الله.. طريق النجاة والعدل والحرية والخلاص.. وما كان من المتوقع أن يسكت أعداء الإسلامية عن دعوات البعث الإسلامي الصادق، وليس من المعقول أن يقف الأعداء مكتوفي الأيدي، وهم يرون كل ما بنوه ينهار ويتحطم.. فكان أن أعطت إشارة البدء.. وهكذا فتحت السجون والمعتقلات، ونشأت طبقة جديدة من الجلادين المرتزقة، تربوا في أحضان العسف والفساد والعبودية، فاستباحوا دماء الأبرياء، وأعراض الأنقياء، فقتلوا.. وفرضوا الحراسة.. وسلبوا... ونهبوا.. وملأوا الصحف والإذاعات والمجلات ألواناً غريبة من الأكاذيب والترهات، وألصقوا بالشرفاء والأبرياء من رجال الدعوة الإسلامية أبشع التهم، وخلقوا عالماً من الوهم والأكاذيب.. وظنوا أن ذلك هو ختام المعركة ولن يقوم لدعاة الإسلامية بعدها قومة...

لقد كانت مدارس السجون هي المنطلق الثاني للمخطط المادي بعد المنطلق الأول وهو انحراف الغاية.. وفي السجون اتخذت أساليب عجيبة لزعزعة العقيدة، وتوهين عرى الإيمان، ودك ما تبقى من حصون شامخة في قلوب الرجال الأتقياء.. وقصة الطغاة مع كتائب العقيدة والإيمان قصة معادة قديمة، فهي مواجهة فظة بين الحق والباطل، يستغل فيها الطغيان كل ما أوتي من قوة وبطش وحقد، ليحتفظ بالسلطة في يده، ويشبع في نفسه نزوات الغرور والمجد الكاذب، متوهماً أنه بذلك يحمي أمن الوطن والمواطن، ناسياً أنه بذلك يجر الوطن للخراب والدمار، ويقتل في النفوس نزعة الحب والحرية، ويخرج من مدرسته الفاشية جموعاً تسير تحت كنف الذل والهوان، والمستذلون لا يستطيعون أن يحققوا استقلالاً، أو يحموا أرضاً، أو يخلقوا كرامة، أو يصنعوا تقدماً، حتى ولو كانت جرائمهم ترتكب باسم التقدمية أو باسم الصالح العام.. ونسي هؤلاء أو تناسوا أنهم بذلك يعتبرون ألعوبة في يد أعداء الإسلامية، إذ يمدونهم بالوسائل الخبيثة الخسيسة، ويروجون لطغيانهم، ويلتمسون لانحرافهم المعاذير.. هؤلاء الطغاة هم أعداء الإٍسلامية، وإن كانوا مسلمين، وهم أنصار الاتجاهات المادية الصرفة، والهادمون لمعاقل الحرية والإيمان وكرامة الإنسان.. كم في السجون والمعتقلات من مآس تشيب لهولها الولدان.. ولعل التصفية الجسدية هي أقصر الطرق للقضاء على الإيمان، ولكن التدمير النفسي للمؤمنين في السجون هو أبشع وأحط وسيلة ترتكب في حق الإنسان والإيمان، لأنها عملية خبيثة تستخدم فيها حيل علم النفس، وتجعل من الإنسان الذي كرمه الله حقلاً للتجارب فيصبح المخلوق البشري شبيهاً بحيوانات المعامل، وتوجه إليه أقذع ألوان السباب والشتائم، ويخضع لتجارب مريرة من العزلة والتجويع والتخويف، وإلصاق التهم والنقائص والرذائل بالمثل العليا ورجالها الأطهار، والبحث في الدين عن سند مخترع أو قول ضعيف، أو اللجوء إلى التحليل الخاطئ والتفسير المنحرف، والتأويل المغرض في جمع النصوص والقرائن لإدانة الأبرياء، والنيل من معتقداتهم، وبذر بذور الفتنة والشكوك وسوء الظن بين الأخ وأخيه، والزوج والزوجة، والجندي والقائد، ومحاولة تدمير الكوادر التنظيمية للمؤسسات الإسلامية، كل ذلك تحت ستار حملة إعلامية ظالمة، تعتمد على الكذب والتلفيق لإثارة الجماهير المخدوعة، وتحطيم الروح المعنوية لدى المجاهدين في سبيل الله، وانتزاع الاعترافات المطلوبة – المخترعة - بوسائل التعذيب الشيطانية المستوردة من خبراء أوربا وأمريكا وروسيا وغيرها، هؤلاء الخبراء الشياطين الذين جندتهم المادية الملحدة، والصليبية الحاقدة دون وازع من دين أو ضمير، والهدف الأكبر من وراء ذلك هو صرف دعاة الإسلامية عن رسالتهم المجيدة، وعزلهم عن المجتمع، كما فعلوا حينما حاولوا عزل الدين عن الدولة، ولا يمكن أن ينجو من هذه الفتنة الشرسة، وتلك الحرب النجسة إلا من حمى الله.

إن التصفية الجسدية والنفسية التي خطط لها أعداء الإسلامية كانت جزءاً من مخطط كبير، وليس أدل على وجود هذا المخطط من الحقائق التالية:

أولاً: إن ضرب التجمعات الإسلامية كان يحدث في أكثر من بلد إسلامي في أوقات متقاربة، نراه في مصر أو في باكستان أو في المغرب العربي أو السودان أو الحبشة أو تركيا أو أندونيسيا أو الفليبين.

ثانياً: اتخاذ نفس الأساليب في ضرب التحرك الإسلامي مما يوحي باتفاق تام على تطبيق خطة عامة للوصول إلى الهدف الخبيث.

ثالثاً: تآذر وسائل الإعلام مع السلطة، واتخاذها الكذب والتلفيق والحملات الظالمة ضد الأبرياء...

رابعاً: إجهاض الحركات الإسلامية قبل أن تبلغ مرحلة القوة والتأثير الكاملين.

خامساً: مطاردة الأفراد، والتضييق عليهم، إذا بدا أن لهم فكراً مؤثراً، أو لمعوا في مجال القيادات الجماهيرية، ومحاولة صرف الناس عنهم بأية وسيلة من الوسائل..

سادساً: يظهر أعداء الإسلامية أنفسهم وكأنهم هم وحدهم الفاهمون لحقائق الإسلام، والحافظون لتراثه، والمدافعون عنه.

سابعاً: التمسح في الفكر الإسلامي، وإلصاق شعاراتهم وفلسفاتهم ببعض النصوص التي يشرحونها على هواهم، بطريقة تخدم أغراضهم، كل ذلك باسم التطور، وباسم التصور الديني لحقائق الدين في العصر الحديث أو بالأسلوب المعاصر، وفي الوقت نفسه يرمون المخلصين من الرجال بالجمود والرجعية، وبالتخلف والتعصب، ويظهرونهم بصورة منفرة تشمئز منها النفوس، حتى المحاكمات التي كان يساق إليها دعاة الإسلامية، كانت تعقد بطريقة سرية، وفي ظل السلطات الاستثنائية، حتى لا تعرف الجماهير الحقيقة.

وتحضرني في هذه المناسبة حادثة مذبحة سجن طرة في 1/6/1957 والتي راح ضحيتها 21 شهيداً، وعدد كبير من الجرحى، لقد صدر بيان رسمي آنذاك في الصحف المصرية، وأذاعته وكالة تاس السوفييتية، هذا البيان يقول: إنه حدث صدام بين بعض السجناء وحراس السجن، وقد أدى هذا الصدام إلى وقوع بعض الإصابات بين الطرفين.. هكذا كان البيان.. لم يذكر أن هناك ضحايا.. ولا لمن ينتسب هؤلاء الضحايا، ولم يحدد سبب الصدام الذي كان في الواقع صداماً من طرف واحد.. ولم يذكر البيان أن النيابة قد أمرت – رغم أنفها- بحفظ التحقيق.. ولم تذكر الصحف شيئاً عن أولئك الشهداء الذين قتلوا ودفنوا في صحراء العباسية في أعوام 1954،1955،1965، أكان هذا هو العدل والحرية وميثاق الشرف؟؟..

إن عداء المادية للإسلامية عداء لا يعرف الرحمة ولا العدل، ولا يرعوي من وازع من دين أو ضمير، هذا العداء الخبيث يتزيى بأزياء مختلفة خادعة، تخفي وراءها كل حقد ومكر، وهذا العداء قد استغل الفكر والفن الزائفين في الترويج لبضاعته، واستطاع أن يموه ويرشو ويعد ويهدد، ويجر وراءه المخدوعين من رجال الدين ورجال القلم، تحت شعارات براقة مسمومة، ومن ثم لم يكن في استطاعة الجماهير أن تكشف الحقائق إلا بين فئات قليلة من الناس كان لها من عمق النظرة، وصدق البصيرة، والالتزام بمنهج الحق، ما يجعلها تنجو من السقوط بين حبائل الشياطين، أو تنخدع بالألفاظ البراقة والشعارات الخادعة..

ليس العجيب إذن أن تحشد هذه الحشود كلها لضرب الإسلامية، وليس العجيب أن تكون المعركة على هذه الدرجة من الشمول والدقة والتخطيط الجهنمي، ولكن الأعجب من هذا كله، أن يخرج من تلك المحن القاسية رجال ما زالوا يؤمنون بالله، لم يتزعزع إيمانهم من خوف، ولم ترهبهم الدماء التي سالت، ولم يوئسهم النصر الكاذب الذي حققته أجهزة القمع أو الجلادون الغلاظ الأكباد.. أليست هذه معجزة؟؟ إنها سر من أسرار الإسلامية التي حفظها الله وحماها من شر المفسدين على مختلف العصور..

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نرفع الشعار الإسلامي الخالد في مواجهة المادية حيث يقول الله في كتابه العزيز "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا".. فالمسلم يعمل لعمران الدنيا وخدمة البشر، والاستمتاع بنعم الله في الأرض بالشروط التي شرعها الله سبحانه وتعالى، على أن يكون الله من وراء القصد، وحتى تكون كلمة الله هي العليا، فالدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء، وعلى المؤمن أن يأكل ويشرب ويلبس دون إسراف، وأن يراعي حقوق الآخرين في ماله وصحته وعلمه ودينه، ملتزماً بالقيم الإنسانية العليا، مؤمناً أن المادة وسيلة لا غاية، وأن مظاهر السلطة والقوة  شر داهم إذا استغلت في تحقيق الأنانية والأثرة والأمجاد الشخصية، وهي طاعة وعبادة إذا مهدت الطريق المستقيم لبني البشر كي يسيروا تحت لواء الحب والإخاء، والطهر والنقاء، والصدق والتعاون، والجهاد في سبيل الله، ونشر الحق والفضيلة كي يسعد الناس ويأمنوا على عقيدتهم ومستقبلهم، وأعراضهم وأموالهم، وكرامتهم وحريتهم..

* ولا شك أن سيطرة المادية على حياة المسلم تمسخ شخصيته، وتفقده السمات والملامح والأفكار التي تجعله مسلماً حقيقياً، وهذا هو سر تميع الشخصية الإسلامية في مجتمعاتنا كما قلنا، فلا النساء يمثلن حقيقة المرأة المسلمة اليوم إلا ما ندر، ولا الرجال في متاجرهم ومصانعهم ودواوينهم تبدو عليهم صفات الرجال المؤمنين الذين حققوا أعظم وأعدل حضارة عرفها التاريخ، ولا دور العلم في بلاد المسلمين تكتسب الصفة الإسلامية، بعد أن سيطرت المناهج المادية الملحدة على العلم والفكر والفن والسياسة والاقتصاد والتشريع..

أرأينا كيف تمكنت المادية من تدمير الأمة الإسلامية منهجاً وسلوكاً، وأن هذه الفلسفة قد أوجدت مشكلات وأمراضاً وانحرافات لا يمكن أن يكون الإسلام مسئولاً عنها بأي حال من الأحوال؟؟ وإذا لم يدرك علماؤنا ومفكرونا وقادتنا هذه الحقائق فلن يتحقق لنا النصر، ولن تحل لنا قضية، ولن ننال الحرية الحقيقية، ولا الاستقلال الذي ننشده، ولن نستطيع في ظل المفاهيم السقيمة أن نتخذ المكانة اللائقة بنا، تلك المكانة التي أرادها الله لنا "كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس".