الإخوان المسلمون الجزء الخامس

د. عبد الله الطنطاوي

الإخوان المسلمون

في سورية

المجلد الخامس

عدنان سعد الدين

المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، والرحمة والرضوان على صحابته الكرام، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

الكاتب:

قارئ هذا الكتاب –المجلد الخامس من الكتاب الموسوم: الإخوان المسلمون في سورية: مذكرات وذكريات –سوف يقف على خصيصة من خصائص شخصية المؤلف: ديناً، وعقلاً، وثقافة، وحصافة، وكياسة، ودهاء، واهتماماً بعظائم الأمور دون سفاسفها، واستشراقاً للمستقبل، من خلال الإفادة من الماضي بما فيه، ووعي الحاضر بتعقيداته، ومن خلال تجاربه الغنية طوال سبعة عقود، وتجارب الشعوب والأمم الأخرى.. وسوف يقلّ العاذلون والمقلاومون حوله - فيما أحسب- أولئك الذين يكثرون الجدل فيما يضرّ ولا ينفع.

تراه دائم التفكير، وهو يحدّثك، وهو يسامرك ويؤانسك، وهو يجالسك ويؤاكلك.. حديثه فيما الجماعة فيه من أزمات، وما يعترضها من مشكلات، ومعوّقات، ويقترح الحلول، فهي همُّه الكبير، لأنها المحيط الذي نشأ فيه وترعرع، وليس له من حياة في غير الوسط الإخواني، في سائر أحواله، وهو جندي، وهو قائد، وهو مُبعَد، وهو يتلقى السهام..

عندما رأى ابتعاد أبنائها عن الربانية التي أقام عليها الإمام البنا جماعته الراشدة، بادر إلى تأليف كتابه الرائع: في التزكية والسلوك. إنه صاحب مشروع وطني عربي إسلامي كبير، طالما حلم به، وعمل على تحقيقه، وبذل الكثير من جهده، ووقته، وراحته، وماله، من أجله، وكتبه كلها تصبّ في هذا المشروع الطموح الذي يبدأ في تحصين الجماعة، والتخطيط لها لتكون المؤهلة الممهدة لقيام الدولة المؤسسة على مبادئ الإسلام وعدالته وشريعته وأخلاقه.

يحدثك فيما الأمة العربية والإسلامية فيه من تخلف وعجز، لابدّ من السعي لتخليصها منهما، فتحسّ أن هموم الأمة هي ما يشغله، إلى جانب هموم جماعته، التي هي والشعب السوري المظلوم جزء من تلك الأمة التي كانت خير أمة، فصارت إلى ما هي عليه، حتى طمع بها من لا يذبّ عن نفسه، وجزءاً عزيزاً من أرضها المقدسة، حثالات وأوباش وسفلة، وأبناء الأمة في عجز مريع، لا يدفعون عن أنفسهم، ولا عن أعراضهم، ولا عن مقدساتهم.. ضاعت فلسطين، وضاع شعبها، وضاع العراق وتمزق شرّ ممزق، واحتل الأوباش رعاة البقر والخنا، أفغانستان، وعيون المسلمين حسيرة، خاسئة، تذرف الدمع في انكسار وارتباب ويأس..

سيالته الفكرية في توقد، لا تعرف الراحة، ولا ترتاح للبلواء، حتى لو كانوا يلبسون لباس الكبار، ليظهروا بمظهر الكبار في الأعين الكليلة.

والروح الجهادية ظاهرة في كل ما خطّته يمينه، ومنها كانت انطلاقته ومنطلقاته، حيثما كان، في حلّه ومرتحله، ومنذ يفاعته، نما معه، واشتدّ به عدوه، ومن هنا كانت علاقاته، وما تزال، مع كل من يحمل راية الجهاد، مع قلة النصير، وخذلان من كانوا يرفعون رايته وتخاذلهم، أولئك الذين ظنوا النصر وشيكاً وغير مكلف، أما هو، فلم يضعف، ولم يفتر، ولم يصبه كلل ولا ملل، ولا ونى، حتى هذه اللحظات التي يصارع فيها أشدّ أنواع المرض.. بارك الله في عمره، وشفاه وعافاه وألبسه ثوب الصحة والعافية.

الأستاذ المؤلف شخصية عامة، ذو طموح غير محدود، لو أتيح له الأعوان الصادقون من ذوي الكفايات، لقطع أمداء وسيعة في تحقيق مشروعه الكبير، ولكن الظروف القاسية التي مرَّ بها ومرّت الجماعة، من كيد، وحسد، وتربص، وترصد، وسعي حثيث لتشويه سمعته، وتجريح كل عمل يقوم به، والتشكيك فيه، من الداخل والخارج، من (الأصدقاء) والأعداء على حدّ سواء، كل ذلك، حال دون أن يأخذ الرجل الصلب مداه في النهوض بمشروعه، برغم حركته الدؤوب التي عُرف بها، فهو لا يكلّ ولا يملّ، ولا ينام، ولا يترك من يعمل معه ينام.. لا يستريح ولا يدعهم يستريحون، وهذا لم يعتده الإخوان، فكان من بعضهم ومنه ما كان، فتعثّر السير، وتعكرت النفوس، وكانت النتيجة ما نراه الآن.

وقارئ هذا المجلد، سوف يتساءل بحق وصدق: من كان يظن أن رجلاً مثله –مثل المؤلف الكبير- يمكن أن يقوم بكل هذه الجهود، وبكل هذه الاتصالات، في وقت لم يكن ليتيح له شيئاً معقولاً من الإمكانات المادية، والظرفية، لينهض بهذه الأسفار.. الأعباء.. من بغداد إلى السودان، إلى الأفغان، إلى جاكرتا، فالجزائر، ومصر، وماليزيا، وفلسطين، واليمن، وتركيا، وأوربا وأمريكا، وسواها من بلاد الله الواسعة الشاسعة، ليس سائحاً، ولا متفرجاً مترفاً، بل هو في مهمات شاقة، تدفعه إليها، وإلى خوض غمارها وغمراتها، هموم دعوته، وهموم المسلمين التي تشغل حيزاً عظيماً من نفسه، وتتجافى بجنبه عن المضاجع ولذاذات العيش الرغيد، والحياة المترفة التي تهيأت له، فأعرض ونأى بجانبه عنها..

ويتساءل قارئ هذا المجلد الذي كُتب على عجل، ومن الذاكرة، وفي ظرف مرضي قاسٍ جداً: تُرى.. لو هيئت لهذا الرجل الإمكانات اللازمة، والأعوان الأكفياء، والمكاتب والدراسات: ماذا كان سيفعل؟.

والجواب: سعادة أبي عامر في نصبه:

وما في طبّه: أني جواد   أضرَّ بجسمه طول الجمام

إنه هو ذاك.. فقد كنا نقرأ سعادته في وجهه، ويطالعنا بها لسانه الذرب، بعد كل جولة يجولها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً.. ولم تتمكن الهموم الثقيلة من أن تطغى على سعادته التي كانت في تنائي الراحة عنه، وتجافي لذيذ المنام عن عينيه المرهقتين، وحرمانه من الطعام الذي اعتاد، والوطاء الذي تركه وراءه..

تغشاه سعادته وهو يسعى في أفغانستان ليجمع قادة المجاهدين الأفغان، مع كبار المسؤولين العراقيين، ليؤمن لهم المال والسلاح، وليجمع القادة المجاهدين على كلمة سواء بينهم، بعد أن تمزقت صفوفهم، مخافة أن تذهب ريحهم.. وكذلك الأمر في السودان، واليمن، وباكستان، والجزائر، وسواها من بلاد العروبة والإسلام.

كنا نصافح سعادته، ونتلقاها وهي تطفح من وجهه الوضيء، وعينيه الحالمتين بمستقبل صحيح سليم للإسلام والمسلمين، ومن كلماته التي تعبر عن مكنون نفسه، وحصافة عقله، وذكاء لبّه.. سعادة تغمره في بيان لا يحتاج إلى بيان، سعادته في توحيد صف، وجمع كلمة، ووحدة موقف، ليكون المنطلق سليماً، قوياً، في تذليل العقبات، من أجل الوصول إلى الهدف المنشود.

تقرأ في حياته شوقاً عارماً للحرية التي يعشقها، وتطلعاً وعملاً دؤوباً لتحقيقها قيمةً إنسانية في حياته، وحياة شعبه، وأمته، بل والإنسانية والبشر أجمعين.. وكل ذلك في تفاؤل يتجاوز عوامل الإحباط –وما أكثرها- في تحدٍّ لا يعرف الحدود والقيود، ولا يقف أمام المعوّقات، إلا ريثما يحطمها، أو يقفز فوقها.

عرف طريقه فسكه، ولم يكن ممهَّداً، يملؤه إيمان المجاهد مذلل الصعاب، في تصميم من لا يجد الفشل أو الخوف من الفشل إلى نفسه سبيلاً.

وكم كنت، وما أزال، أعجب لتساميه على الجراح، من أجل المشروع الذي يسعى إليه، حتى إذا ما كان منه قاب أقواس، حالت الحوائل دونه، وهي فوق طاقته وطاقات من معه، فيحبط من يحبط، ويستمر هو، مستعيناً بالله، ثم بما حباه من طاقات خبيئة لا تخفى على المراقب اللبيب.

صاحب هذا الكتاب رجل سياسة وإعلام، ورجل علاقات عامة، يحسن الدخول وإدخال محاوره أو محاوريه إلى الجو الذي يريد.. صاحب مبادرة وبديهة واقتحام، كأن بيده مفتاح الجو الذي يقتحمه دونما استئذان، بحسن الحديث الذي كان قد تهيّأ له قبل الولوج فيه، يعينه في ذلك توقّد ذهنه، ودقة إحساسه بطبيعة من يحاور، وإلمامه بجوانب الموضوع، ووضوح الهدف والوسيلة إليه، وتقويمه السريع لمن يلقاه أول مرة، فينحرف بالحديث ذات اليمين وذات الشمال، ليجد المنفذ الذي يسلمه إلى لبّ محاوره، وكثيراً ما كان يصيب في تقويمه للشخصية، وتقديره للموقف، والتغلب على ما يطرأ مما لم يكن في حسبانه، لأنه قد أعدّ للطارئ عدّة، فيكسب الجولة بعون الله وتوفيقه وتسديده، وبما آتاه من فطنة وذكاء ودهاء، ومن تجارب، ومن ثقافة عامة، وبُعد نظر في تقدير الأمور والرجال، ساعدت في نجاحه بإقناع محاوريه، ليبرم معهم ما يسعى إلى إبرامه، كما ترى في توفيقه بين ياسر عرفات والمسؤولين العراقيين، وكان بينهم ما صنع الحداد، ومات بين الأفغان والعراقيين، مما سوف تقرأ تفصيلاته في هذا الكتاب المهم.

بعد محاورات شاقة بينه وبين محاوريه، كسب ثقة كثير منهم، وثقوا بعقله، وسرعة بديهته، وإخلاصه، وتجرده من المطامع الشخصية، وصدقه، وأنه صاحب رأي يتطلع جلساؤه لمعرفته، وكان تقويمهم له إيجابياً، حتى بلغ الأمر بكثير منهم، أن يكلفوه بمهمات كبيرة وخطيرة، وكان نجاحه بسفاراته، مدعاة لمزيد من الثقة بلغت شأواً عظيماً لدى بعضهم في العراق وكبار المسؤولين فيه، وفي غير العراق، الأمر الذي أثار حسد الحاسدين عليه، من الحلفاء والأصدقاء والخصوم والأعداء، وخاصة بعض كبار البعثيين وبعض قادة المخابرات، أولئك الذين نقموا عليه حركته الدؤوب، وثقة رؤسائهم به، وتكليفه –دونهم- بكثير من المهمات، واستماعهم لرأيه، وتقديرهم لنجاحاته في سفاراته، وكانوا يفاجؤون بصبره عليهم، وعدم الكيد أو التحريض عليهم، وهو يراهم يفتعلون المشكلات لإفشاله في مهماته، ولو أراد لأمكن منهم، ولكنه بشهامته ومروءته وعقله، تجاوزهم وما يثيرون، وأعرض عنهم، لأن القافلة كانت تسير، وهم مع الخوالف.

سارت به قافلته، وتمكّن من بناء علاقات سياسية، وإعلامية، ودعوية، مع عدد من الحكومات والتنظيمات ذات الشأن، وبذلك –كما سيطالع القراء في هذا السفر النفيس- جعل لأبناء الجماعة موطئ قدم في العديد من الدول العربية والإسلامية، وهيّأ للجماعة مكاتب إدارية وإعلامية وسياسية ودعوية، لتمتين تلك العلاقات، ولضبط تصرفات الإخوان في البلدان الصديقة ضبطاً حال دون أي تصرف يسيء للبلد المضيف أو يحرجه.. وبهذا جنَّب الجماعة وأبناءها، التعرض للمضايقات، بل التنكيل أو الإزعاج.

التوفيق والتسديد من عند الله الرحمان الرحيم، العليم الحكيم، الذي يهيئ لكل مرحلة رجالها، ولكل مهمة عناصر نجاحها، فللنصر رجاله في شتى الميادين السياسية، والإعلامية، والعسكرية، والإدارية، والمالية، والدعوية، ومنها العلاقات العامة التي غدت علماً منم العلوم المهمة في هذا العصر، بل في كل عصره، قد لا يكون مؤلف هذا الكتاب قد قرأ الكثير من كتبه، ولكنه –بتسديد من الله الذي حباه العقل والذكاء اللماح- نجح فيما بنى من علاقات، خاض معامعها بعقل وصبر ودهاء، وخاصة مع الأضداد المتشاكسين.

قد يحسب بعض الناس أن علاقة المؤلف مع المسؤولين في الدول والتنظيمات الصديقة، اقتصرت على العلائق السياسية، ولم يكن يهتم بالجانب الدعوي، وهو المسؤول الأول أو الثاني في جماعة الإخوان المسلمين السوريين، وفي التنظيم العالمي للإخوان.. وهذا افتئات على الحقيقة، فمن خلال ما نطالع في هذا الكتاب، وفي حدود معرفتنا وما كنا نسمع منه بعد كل لقاء مع من كان يلتقيهم ويحاورهم من قادة الدول والتنظيمات، أنه ما كان يفوّت فرصة تسنح للدعوة إلى الله إلا ويقتنصها بالتي هي أحسن، فيذكر محاسن الإسلام، ويذكّر بمبادئه الإنسانية العظيمة، ويشيد برجالاته وعظمائه في التاريخ البعيد والقريب، ويهدي بعض الكتب الدعوية لهم، ويتحدث عن دعوة الإخوان، عن مبادئها، وشعاراتها، وسيرة مؤسسها الإمام الشهيد، وإخوانه من القادة العظام، كمصطفى السباعي مؤسس الجماعة في سورية، رحمهم الله جميعاً.

وأختم هذه الفقرة بما سمعته من الداعية الأستاذ غانم حمودات، حفظه اله تعالى:

"الأستاذ أبو عامر عدنان، ممن أوقف حياته على خدمة الإسلام والمسلمين، وجعل خدمة الإسلام، والاهتمام بالمسلمين وأمورهم، أكبر همّه، ومبلغ علمه، ولا أزكيه على الله تعالى.. وقد قدّمته على الشيخ الصواف الذي كان عظيم النشاط، عالي الهمّة، وما أحسب أن عالماً من العلماء أهمَّه أمر فلسطين، كما أهمَّ الأستاذ الصواف، إلا الحاج محمد أمين الحسيني. رحم الله الجميع.".

الكتاب:

المعركة السياسية لا تقلّ أهمية عن المعارك الحربية، إن لم تفقها، والإخوان في سورية خاضوا عدداً من المعارك السياسية والإعلامية قي العهد الديمقراطي الذي جاء به الاستقلال، وتبناه رجالات سورية الذين كافحوا الاستعمار الفرنسي إلى أن طردوه، وكانت سورية أول بلد في العالم الثالث، ينتزع استقلاله من مستعمريه، إلى أن جاء الانقلابيون من العسكر، فأساؤوا، واستبدوا، ونشروا ثقافة الانقلاب والاستبداد، ثم جاء انقلابيو آذار التاعس عام 1963 فانحرفوا بانقلابهم انحرافاً ما عرفته سورية من قبل، بل ولا سائر الأقطار العربية، أعني نشر ثقافة الطائفية، والتمكين للطائفية بقوة الحديد والنار، وهؤلاء استبدوا استبداداً فظيعاً غير مسبوق في الانقلابات التي سبقت، فقد كانت السجون، والتعذيب والدماء والأشلاء، والنفي، والاغتصاب، وتخريب الضمائر، وإشاعة الفساد بين الناس، حتى غدا نهجاً لا يزيغ عنه واحد منهم، ثم عمّ المجتمع ودوائر الدولة، والجيش، والأجهزة الأمنية التي تكاثرت وتكاثر عناصرها وضباطها كالخلايا السرطانية في جسم المجتمع السوري الذي أنهكوه ببرامجهم وسوكياتهم اللاوطنية، واللاأخلاقية، وغير الإنسانية.

   وقد نزل بالإخوان من البلاء أضعاف ما نزل بسائر شرائح المجتمع المدني، واجتاح الاضطهاد الطائفي والقتل على الهوية والوشاية آلافاً منهم، وخم المكشوفون أمنياً، لأن تنظيمهم من أعرق التنظيمات السياسية السورية، ومركزهم وشعبهم وفروعهم في كل المحافظات والمدن والقرى، يعملون تحت ضوء الشمس، ودعوتهم علنية، وأهدافهم وخططهم وشعاراتهم، وكتبهم، ونشراتهم مبذولة لمن يريدها، ليس في سلوكهم ظاهر وباطن، ولم ينسّ تاريخهم ما يشين، برغم كل الكيد والتآمر والعسف الذي لحق بهم.. تاريخهم ناصع، يدعون الناس على بصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، لم يحملوا السلاح إلا في فلسطين والقنال، ولم يقاتلوا إلا الصهاينة والمستعمرين الإنكليز والفرنسيين، يدعون إلى السلم الاجتماعي، ولا يقولون للناس إلا حسناً.. إنهم مواطنون صالحون، يبنون ولا يهدمون، مسالمون لا عدوانيون، أصحاب دين وأخلاق وعلم وأدب، بعيدون من الجهالة والجاهليين ومن هم في سوك السفلة والفاسدين، فأحبَّهم الطيبون وناوأهم الأشرار والعملاء والخونة والفاسدون، فكانوا يعرضون عنهم، ولا يبغون عليهم ولا يفتئتون، وكانوا يصبروا عليهم صبر أصحاب الرسالات على الأشرار والبغاة والطواغيت.. وقد شهد لهم بهذا وبغيره خصومهم من أصحاب الضمائر، ناهيك عن عقلاء الأمة وأبرارها من الحياديين والمستقلين والموضوعيين.. إنهم خاضوا معارك سياسية مشرَّفة، وما زالوا وخاضوا معارك فكرية، وإعلامية، وكلها تشهد لهم بالوطنية، وحب الوطن، والحرص عليه، على أرضه، وشعبه، ودينه، وقيمه، ونظامه، الجمهوري، وعروبته، ووقفوا في وجه الأحلاف الاستعمارية، والدعوات المشبوهة التي تمس استقلال الوطن، وناصروا العمال والفلاحين، ودعوا إلى إنصاف المظلومين، وشاركوا في الانتخابات البرلمانية، وأسهموا في الوزارات الائتلافية، ولم تٌسجَّل عليهم حادثة واحدة تخلّ بالأمن، ولم يرفعوا سلاحاً في وجه أحد قط، إلا في فلسطين، وفي وجوه الإنكليز المستعمرين، واليهود الصهاينة الغزاة المعتدين.

فالإخوان المسلمون حركة دعوية، وسياسية، وهادية، منتشرة في أنحاء المعمورة، لا تخلو منها قارة، بل ولا دولة من دول العالم، شرقية وغربيّة، مسلمة، ونصرانية، ولا دينية، ولا بد لهذه الجماعة من التعايش مع المحيط الذي هي فيه، والرسول القائد -صلى الله عليه وسلم- رائدها الأول في حركته بين القبائل العربية، ثم في بعوثه إلى الملوك والزعماء، وقد أثمرت تلك العلاقات والصلات.. وجاء الإمام الشهيد لينحت في صخر مصر وملوك مصر، والأحزاب المصرية، وملئها، ولكن التآمر عليه وعلى جماعته الربانية الراشدة لم تمهله، وامتدت الأيدي الآثمة لتغتاله وتغتال مشروعه، قبل أن يؤتي أكله، ثم كانت الكوارث والمآسي التي لحقت بالجماعة، وحدّت من نشاطها.

وأصيب الإخوان في سائر البلدان بأقل مما نزل بإخوانهم في أرض الكنانة، ما عدا التنظيم الإخواني السوري الذي نزل به من البلاء ما لم ينزل بإخوانه الآخرين قاطبة، وكانت الهجرات الجماعية بالآلاف إلى دول الجوار، بل إلى أـصقاع المعمورة، وقد تطلب هذا حركة سياسية واعية، الهدف منها: توطيد العلاقات السياسية مع الدول المضيفة، ولكسب الأنصار، وفضح جرائم النظام الفئوي الطائفي في دمشق، ولبناء علاقات ودّية، وتحالفات سياسية تقي الجماعة من غوائل النظام الدموي، وتحميها من عملائه وزبانيته وعصاباته وميليشياته المدربة على عمليات القتل والاغتيال، والتي باشرت أعمالها الإجرامية في الداخل والخارج، وبلغت ضحاياها آلافاً مؤلفة..

وفي هذا الكتاب كنز من المعلومات عن العلاقات والتحالفات بين الإخوان وبين الذين تحالفوا معهم، لا يمكن معرفتها إلا من هذا الكتاب، فأكثر الناس، والإخوان منهم، لا يعرفون الكثير مما ورد فيه.

تحدث المؤلف الكبير عن النظام الطائفي الذي أهدر دماء الإخوان، ورصد المكافآت لكل من يدل على واحد من الإخوان أو يقتله بيده، فقد أباح دماءهم لكل من يقدر عليها، وسنّ لقتلهم القانون 49 لعام 1980 الذي أطلق الناس عليه (قانون العار) في سابقة خطيرة لم تعرفها البشرية إلا في بعض العهود المظلمة، كعهد ستالين الذي اتخذوه رموز النظام قدوة لهم ولعهدهم الأسد، كرفعت أسد، فعمت فوضى القتل في كل مكان في من سورية الحضارة، في الشارع، والجامعة، والمدرسة، والجامع، والمعمل، والحقل، فكانت هجرة الإخوان إلى الجهات الأربع.. إلى دول الجوار، إلى الأردن، ولبنان، والعراق، وتركيا، فراراً بدينهم، ودمائهم، وأعراضهم.. من القرامطة الجدد.. وهو ما ينساه لهؤلاء الأباش الذين رووا أحقادهم وبؤسهم من دماء الشعب السوري عامة، ومن دماء الإخوان المسلمين خاصة..

وربّ ضارة نافعة – كما قيل ويقال- فقد فتحت هذه الهجرة آفاقاً جديدة أمام الإخوان، ما عرفوها، ولا تطلعوا إليها، وما رادوا ميادينها الفساح، غالبوا مأساتهم، وقفزوا فوق جراحهم التي لم ولن تندمل في حاضر أو قابل، فهي عميقة، عميقة، عميقة، واستقبلوا حياتهم بعزائم الجديدة بعزائم الرجال، وفتحت لهم الحياة قلبها وصدرها، واستقبلتهم بما هم له أهل، مصداقاً لقول الله تعالى: "ومن يهاجر في سبيل الله، يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة" وقد وجد الإخوان المراغم الكثير والسعة في أرض الله الواسعة، حيث حلوا وارتحلوا، لأنهم مهاجرون إلى الله أولاً، ولأنهم من صفوة الشعب السوري، همماً وعزائم، وثقافة وأخلاقاً، وانفتاحاً منضبطاً على الحياة والأحياء..

التقوا إخواناً لهم وأنصاراً حيث نزلوا، وعقدوا تحالفات مع من نزلوا بأرضهم، ومع من وصل إليهم صوتهم، وتفاعل الأحرار مع قضيتهم الإنسانية العادلة، فآووهم ونصروهم، وآخوهم وصادقوهم، وشاركوهم، وتزوجوا منهم وزوجوهم، في صور أعادت إلى الأذهان ما كان من شأن المهاجرين الأولين إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وصلى على قدوة المهاجرين وقائدهم: محمد رسول الله.

أنت واجد في هذا الكتاب، بفصوله أو تجاربه الاثنتي عشرة، كما أحب المؤلف أن يسمي فصوله، الكثير الجديد عن العلاقات التي أقامها الإخوان المسلمون السوريون مع الأردن، والعراق، ومصر، والسعودية، ولبنان، وتركيا، والسودان، واليمن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتونس، والمغرب، والجزائر، وماليزيا، وباكستان، وأفغانستان، وعن جولات المؤلف الإعلامية في أوربا وأمريكا وآسيا.

سوف تقرأ دراسات مستفيضة عن العراق، وعن التحالف الوطني لتحرير سورية، وعن النشاط الواسع الجاد لإصلاح ذات البين بين المجاهدين الأفغان والعراق القومي الذي بذل ما بوسعه لهم، وعن العراق الذي أنقذ السودان من براثن الوحش الجنوبي المدعوم من الغرب وأمريكا وإسرائيل.. أنقذه بما قدم له من سلاح هو في مسيس الحاجة إليه..

تقرأ عن المصالحة التي أجراها المؤلف بجهود مضنية بين العراق ومنظمة التحرير، ورأسها ياسر عرفات، ثم ما كان من تعاون كبير بينهما..

تقرأ دراسة جديدة ومهمة عن تونس، وفيها من المعلومات ما لا يعرفه أكثر الناس..

وتقرأ عن الجزائر ومشكلاتها ومأساتها ومحنتها بقادتها وجنرالاتها وبعض الدعاة فيها.

تقرأ دراسة جادة وجديدة عن العلويين، نشأتهم، وتوضّعهم في سورية وتركيا، وعقائدهم، وصلاتهم وعلاقاتهم المشبوهة عبر التاريخ..

تقرأ الجديد عن الأرمن وضلوعهم بارتكاب جرائم فظيعة بمشاركة إيران..

تقرأ عن الأكراد في تركيا، والعراق، وتطلع على معلومات مهمة وجديدة، لتكون عن بصيرة مما جرى ويجري..

تقرأ عما لقيه الإخوان من ترحيب في الأردن الحبيب، من الملك الهاشمي الحسين بن طلال، رحمهما الله رحمة واسعة، ومن بعض أركان دولته، ومن تنظيم الإخوان الأردنيين، ومن الشعب الأردني العربي الأصيل الذي أوى ونصر، وفتح للإخوان المهاجرين إلى أرضه، قلبه وبيته، وفهم مأساتهم، وعرف حجم معاناتهم، فعمل على تخفيف ما يعانون بأريحية العربي المسلم.

وحديث المؤلف عن العراق الشهيد لا يغني عنه أي حديث أو تلخيص، فالتجربة الإخوانية عن أرض العراق غنية، وقد تحدث عن بدايتها، وعن تطورها الإيجابي والسلبي بأمانة وصدق..

ما ورد في الكتاب القيم دراسات ومعلومات ميدانية، وليست مجرد ذكريات، وسوف يستفيد الباحثون والدارسون الكثير منه، وسوف يقفون على الأسباب الوجيهة التي أودت بالعراق ونظامه وأرضه وشعبه.. معلومات ميدانية صادقة باشرها بنفسه، في رحلات استغرقت من المؤلف زمناً طويلاً، وجهوداً، وعرقاً، ودموعاً، ثم لخصّها تلخيصاً مركزاً مكثفاً فيه توضيح وخلاصات لكثير من المسائل الشائكة التي كان لها مآلات توقعها المؤلف قبل وقوعها، في العراق، والجزائر، وأفغانستان، وسواها مما تجدها واضحة جلية وأن تطالع هذا الكتاب.

هذا الكتاب للتثقيف السياسي، برزت فيه حنكة المؤلف في عدد من المواقف الحرجة، فعالجها بطروحاته الذكية، وبمبادراته التي كانت تبهر أصحابها، فلا يملكون إلا التسليم لها..

وهو ذكريات حفظتها ذاكرته الحديدية التي لا تنسى، ومن هنا تأتي أهميته، لأنها لا توجد إلا في هذا الكتاب الذي سدّ ثغرة كبيرة في مكتبة الإخوان المسلمين خاصة، فيه ذكاء وحضور بديهة، وسياسته، وعمق، وفكر، ودعوة، وإعلام، وأعلام، وما لستَ واجده في سواه.

ومن المفيد لأولادنا أبناء الدعوة، أن يطلعوا على تجارب شيوخهم، بما فيها من إيجابيات وسلبيات، لتختصر لهم طريق التجارب والآلام، فيجتنبوا السلبيات، ويفعلوا الإيجابيات، فقد حرص المؤلف الكبير على تبيانها معاً، تبيان الإنجازات الضخمة لجماعة بطش بها خصومها وأعداؤها، وتقاعس عن النصرة أنصارها، وخاصة في غربتها القاسية، حتى ظنَّ من ظنّ أنها النهاية، ففرح من فرح، وحزن من حزن، والجماعة تصارع الأمواج العاتية، وعيونها وقلوبها معلقة بالسماء، وعقول قادتها ومفكريها تبحث في الأرض، لا لتواري سوءة، بل لتثبت به الأقدام، ذاكرين أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وإن الله على نصرهم لقدير، برغم كل الظلام والظلم والظلمات والظالمين.. تلك التي تراكم بعضها فوق بعض، في الداخل والخارج.

إني أدعوا المخلصين إلى قراءته قراءة الدارس بعمق، وأن يحاولوا سدّ الثغرات فيه، فما خلا كتاب بعد كتاب الله العزيز من ثغرات، فهو وحده لا ريب فيه ولا تناقض ولا نقص ولا زيادة، فهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير..

اقرؤوه بعمق، وبإخلاص، لعل الله يفتح العقول والقلوب، فتزيد وتنضح، ليكون الأقرب إلى الكمال، خدمة للدعوة، وللوطن، وللإنسان، ويبقى الكمال لله العظيم، والعصمة لأنبيائه ورسله الأكرمين.

كتبه المؤلف في ظرف صحي بالغ الشدة والقسوة، وأنجزه في وقت قياسي، ومن ذاكرته الحديدية الحية التي أتعبته وأتعبتنا، وجرت عليه وعلينا الخصومات، لأنها لم تنس شاردة ولا واردة، فتعب وأتعب، وأرجوا أن يثاب عليها ولا تتره معقّباتها..

والحمد لله أولاً وأخراً.

وصلى الله على سيد الخلق محمد المبعوث رحمة للعالمين.

وآخر دعوانا: أن الحمدُ لله رب العالمين.

8/ 10/ 1430هـ

27/ 9/ 2009م