بدر الدّين بريبش المبدع الخجول
أديب الزوايا المنسيّة..!
خواطر مرسلة حول صديقي بدر الدّين الذي رحل فجأة..!
عبد الله لالي
بسكرة الجزائر
من مواليد الستينيات وبالضبط في 18 أكتوبر عام 1964 ، في حارة عريقة من حواري عروس الزيبان ( بسكرة - الجزائر) إنّها ( حارة الواد ) ، وعندما نقول ( حارة الواد ) في بسكرة تصرف الأنظار مباشرة إلى وادي سيدي زرزور الذي يحفّ بالمدينة من جهتها الشرقيّة ، وسيدي زرزور هذا الولي الصالح الذي طبقت شهرته الآفاق وسارت بحديثه الركبان. في حين كان سوق الحشيش( السوق الأكثر شعبيّة في تاريخ بسكرة الستينات والسبعينات) يحفّ بها من جهتها الغربيّة.
وحارة الوادي حارة شعبيّة عريقة تفرض على الذي يعيش فيها، مهما كان مستوى أسرته المعيشي، تفرض عليه أن يحتك بالطبقة البسيطة من الناس، وأن تطبع في ذاته صور البؤس والحرمان المختلفة التي تعيشها هذه الطبقة ، كما يأخذ من أخلاقهم وسلوكاتهم الفطريّة التي تتميّز بالعفويّة والسذاجة في كثير من الأحيان.
عاش بدر الدّين بريبش حياة بسيطة هادئة يرضع من لبان المجتمع البسكري؛ ثقافته الشعبيّة المتجذرة في عمق أمتنا الحضاري، ودرس بمدارس بسكرة الناشئة؛ متوسطة العمودي ، وثانويّة ابن خلدون والمعهد التكنولوجي للتربيّة.
أمّا ثقافته خارج الإطار الرسمي المؤسسي فقد نشأ على تشرّب تراث الأمّة ، ومخزونها الإبداعي في عصور الازدهار، وكان يتابع ككل المثقفين في تلك الفترة الإصدارات القليلة والقيمة في الوقت نفسه ، التي تصدر في الجزائر وعلى رأسها مجلّة الثقافة ومجلّة مقيدش ، كما كان يتلقف بكثير من اللهفة ما يأتينا من خارج الجزائر على فترات متقطعة ، مثل مجلّة المستقبل والوطن العربي، ومجلّة العربي الكويتيّة الشهيرة، ومجلّة الدوحة والفيصل، وغيرها من المجلات والدوريات التي كانت تصنع لنا تنوّعا ثقافيّا في تلك الفترة.
لمّا أحسّ من نفسه قدرة على مداعبة القلم وتحبير الكلمات؛ أخذ يصوغ كلاما جميلا في هيئة قوالب شعريّة متميّزة ، فشدّ انتباه زملائه إليه وشاعت أشعاره بينهم فسمي شاعر القسم.
وفي يوم ما تفتقت قريحته الإبداعية فولج عالم القصّة بجدارة واقتدار ، مصحوبا بنفسه الشعريّ وروحه الفنيّة العذبة، وتفرغ للقصّة ونسي الشعر أو كاد.
لم أنشأ معه في حارة واحدة ولا في مدينة واحدة، فقد كان هو مدنيا وكنت أنا بدويّا ، على قرب المسافة بيننا، ولذلك لم أعرفه إلا في أواخر الثمانينيات ، عندما جمعتنا الملتقيات الثقافيّة والفكريّة ، وجمعتنا جمعيّة أضواء ودار الثقافة أحمد رضا حوحو ( في عهد المرحوم الشاعر عمر البرناوي والذي أعترف أنّه فتح لنا أبواب دار الثقافة ، رغم اختلاف توجهاتنا الفكريّة وتناقضنا الإيديولوجي وكان رحب الصدر معنا إلى أبعد الحدود، ولعلنا أخذنا منه القدرة على الاختلاف مع الآخرين دون معاداتهم أو إقصائهم من حياتنا)، وكانت السهرات الرمضانيّة في التسعينيات تجمعنا في دار الثقافة ، فنقرأ القصّة ونستمع لغيرنا يقرأونها ، ونتحاور في شتى مناحي الفكر والثقافة.
وبدأ بدر الدّين بريبش - الذي كان معروفا في الوسط القريب منه باسم ( بادي )- بنشر قصصه ومقالاته في مختلف الصحف والجرائد الوطنيّة ومن أهمّها الخبر، السلام ، النصر، أضواء ، العقيدة، النور.
وأذكر أنّه كان مراسلا لفترة ما لجريدة النور ويكتب فيها الأخبار المحلّية ، وكنت التقي معه باستمرار فنتناقش في الوضع السياسي والأجواء الأدبيّة والثقافيّة المختلفة ، فنتفق كثيرا ونختلف أحيانا، ولكنّه كان ذا أدب جمّ وحوار هادئ لا يعلو صوته ولا يحتدّ أو يشتدّ ، ويبقي الباب دوما مفتوحا لـ ربما وقد ، فتحا لآفاق التلاقي وتلاقح الآراء غالبا ومجاملة أحيانا حرصا على المودّة ودفعا لإحن النفوس وسخائمها.
قطعنا سويّا شوطا معتبرا في الجمعيّة الخلدونيّة نتجاذب الفكر من أطرافه والأدب بكلّ فنونه، تجمعنا الندوات واللقاءات الحميميّة في مقهى الحريّة بوسط مدينة بسكرة، حيث يجتمع معظم الأدباء والمثقفين ، حتى قال أحد الأصدقاء، لو أننا هجرنا هذا المقهى لخسر خسارة كبرى وأغلق أبوابه.
وكنّا نكتب وننشر قصصنا أو مقالاتنا وآراءنا النقديّة ولا نحلم بطبع نتاجاتنا الأدبيّة ، إلى أن قامت جمعيّة أضواء بمحاولة جريئة وطبعت لنا عملا مشتركا، في شكل في غاية البساطة ولكنّه كان ظهورا أوليّا في كتاب مطبوع ، أو هو كتيّب بشكل أدق، وكان عنوانه الذي اختاره لنا الأستاذ زين الدّين بومرزوق إن لم تخني الذاكرة؛ ( ذاكرة عرائس الرّمل ) ويبدوا أنّ العنوان راق الجميع وقدّم له الأستاذ الأديب زين الدين بومرزوق بمقدّمة جميلة.
كان الكتاب عملا مشتركا قدّمت فيه نماذج قصصيّة لأربعة من كتاب القصّة في بسكرة، وهم الأستاذ المبدع والأديب المتميّز الزاهد في النشر على جودة بضاعته ، وعلو كعبه في فنّي القصّة والشعر على حدّ سواء ؛الصديق سعد سعود شخاب، والأستاذ سليم بوعجاجة والأستاذ المرحوم بدر الدّين بريبش ، وصاحب هذا المقال على ضعف بضاعته وقلّة حيلته.
كلّ كاتب اختيرت له ثلاث أو أربع قصص وضعت بالمجموعة، ولقد كتبت عنه الصحف والجرائد في حينها، وأعطوه بعض ما تستحق من العرض والتعريف ولكن ( لا نقد ولا تحليل )، وأنا أقول دائما، ولعلّي سمعت هذا الكلام من غيري ولا أذكر قائله:
( الصمت هو حكم بالإعدام على العمل الإبداعي ) ، وأضيف فأقول والنقد - حتى ولو كان قاسيا - هو إحياء لهذا العمل وبعث آخر له في ساحة السجال الفكري والثقافي.
وعندما فتحت إذاعة بسكرة الجهويّة أبوابها ، أشرعت لنا أذرعها بكلّ حب وترحاب وكان بدر الدّين بريبش من السبّاقين – متعاونا – للعمل بها ، ولم يكن يهتم بأيّ مردود مالي أو يسعى إليه، بل لقد اخبرني فيما أذكر أنّه لم يكن يعلم طوال الأشهر الأولى لعمله بالإذاعة؛ المقابل المادي لكلّ حصّة يقدمها ، وأكثر من ذلك فلقد أخبرني عندما كان يقدّم حصّته الإذاعيّة ( جولة في سيدي روم ) أنّه ينفق في إعداد الحصّة من حرّ ماله أكثر من المقابل الذي يتلقاه على هذه الحصّة.
وعندما صدرت مجموعتي القصصيّة الأولى ( فواتح ) أقامت لها الخلدونيّة أمسيّة احتفاليّة بدار الثقافة أحمد رضا حوحو ، وأعدّت حولها كلمات نقديّة عجلى من طرف الأستاذ الدكتور صالح مفقودة والأستاذ بدر الدّين بريبش ، وتدخل كثير من المثقفين والمتتبعين بالتعليق عليها. لكن أغلب الكلمات كانت هي إلى المجاملة أقرب منها إلى المدح، نظرا إلى أنّ الأمسيّة احتفاليّة وليست نقديّة، ولأنّ أغلب الحضور أصدقاء وإخوان ومعظمهم لم يكن مهيأ للنقد الأكاديميّ، إلا أنّ بدر الدّين شذ عن الحضور وتناول في مداخلته المجموعة، بشيء من النقد الموضوعي.
وبعد انصراف النّاس واختلائه بي ؛ خشي أن أكون قد تذمّرت من نقده أو غضبت ، فتقدّم منّي وقال:
- لقد رأيت أنّ الجميع سيثنون على المجموعة ويقدّمون المجاملات البروتوكوليّة اللازمة في مثل هذه المناسبات ، فأردت أن أبدي رأيي صراحة – ونحن على اتجاه فكريّ واحد – حتى لا يقول المخالفون لنا أنّنا نجامل بعضنا بعضا ، على حساب الفكر والإبداع والنقد الموضوعيّ ، فلا تغضب منّي.
وبطبيعة الحال لم أكن غاضبا، ولم أغضب منه يوما قط ، فقد كان لسان الصدق الذي ينطق به لسانه، وطيب القول الذي ينثره من حوله يمنع أي إنسان أن يغضب منه. فقلت له:
- لا عليك. فوالله لأنا سعيد بنقدك أكثر من سعادتي بثناء الآخرين ومدحهم ، ومعظم ما أوردته من ملاحظات على مجموعتي ( فواتح ) ، هي في الصميم وأنا موافق على جلّ ما قلته فيها. وهذا حافز يدفعني للتطوير والإجادة.
ورغم أنّنا أصبحنا نعمل في المكان نفسه ( متعاونين في إذاعة بسكرة )، إلا أنّ لقاءاتنا قلّت ولم نعد نجلس مع بعض مدّة طويلة ، فقد تشعبت بنا دروب الحياة وانشغالاتها واستغرقتنا كليّة، ولكننا منينا أنفسنا بتغيّر الوضع وتبدل الأحوال.
وفي اللحظات التي نتقاطع فيها – أحيانا – بعد أو قبل التسجيل في الإذاعة أو في وسط المدينة؛ نتبادل حديثا خاطفا، لا يبلّ الصدى ولا يشفي الغليل ، وأذكر أنّ آخر مرّة إلتقيته فيها منذ شهرين تقريبا قبل وفاته ، حدّثني عن طبع مجموعته القصصيّة الأولى ( بقايا الذاكرة المحنّطة )، وكان يتأسّف ويتحسّر على أنّ النسخ التي ستعطى له لا تتجاوز العشر، وهو محتار كيف يوزعها على الأصدقاء والإخوان.
ولم ألقه بعدها إلا بعدما جاءني نبأ وفاته وكان صدمة هائلة ، أحقا مات بدر الدّين ؟
في جنازته التي انتظرناها منذ صلاة الظهر تقريبا إلى صلاة المغرب وامتدّت إلى صلاة العشاء، التقيت بثلّة من الأصدقاء المثقفين فتجاذبنا أطراف الحديث حول ذكرياتنا مع بدر الدّين ، ثمّ امتدّ بنا الحديث - ساعات – إلى مختلف شؤون الفكر والثقافة فقال الأستاذ عبد الحليم صيد – كاتب وباحث في التاريخ – معلقا على هذه الجلسة الثقافيّة في جنازة بدر الدين:
- إنّ أهل الفضل والخير من أمثال بدر الدّين؛ حتى جنائزهم تكون مباركة. إنّنا لم نجتمع منذ سنوات ونتحاور في شتى فنون الفكر والأدب كما كنّا نفعل في سنيّ الطلب والشغف بالعلم والمعرفة، وشاء الله أن تكون جنازة بدر الدّين ملتقى ثقافيّا وفكريّا، ليس لنا وحدنا بل لعشرات إن لم نقل لمئات المثقفين والمبدعين الذين حضروا جنازته، فرحمه الله رحمة واسعة.
* * * *
بقايا الذاكرة المحنّطة
وأخيرا صدرت مجموعة بدر الدّين القصصيّة( بقايا الذاكرة المحنّطة )، صدرت قبل وفاته ببضعة أسابيع أو بالأحرى تسلّم نسخه العشر منها، قبل وفاته بيسير وكنّا ننوي الاحتفاء بها في الجمعيّة الخلدونيّة، لكن القدر كان أسرع وحكمة الله أكبر وأعظم.
ولم يسعفنا الحظ في أن نحصل على نسخة منها، غير أنّ الأستاذ عبد الحليم صيد استطاع أن يستعير نسخة من عند أخيه عبد اللطيف، فاطلعنا عليها وأخذ على عجل بعض الصور المستنسخة من بعض الصفحات.
تبدو الطباعة متوسطة ، الغلاف جيّد واللوحة الفنيّة المختارة يبدو أنّها اختيرت بعناية ، تعبر بدقة عن حجم التشاؤم الساخر والمعاناة المرّة التي طبعت جلّ قصص المجموعة الواحدة والثلاثين.
تنسيق الكتابة – بالنسبة للتطورات الحاصلة في مجال الطباعة والنشر – يعتبر سيئا ولكن الطبع على كلّ حال يعتبر أفضل من عدم الطبع ، وكما قال بعض أصدقائنا من الكتاب:
- من لا ينشر أو يطبع كأنّه لم يكتب.. فهو غير موجود.
حظيت المجموعة بتقديم الأستاذ الكبير والأديب الشهير؛ الدّكتور عبد الله ركيبي وهي شهادة ذات وزن يعتدّ بها في الميدان النقدي وكان ممّا قاله عنه، مسجلا اسمه في سماء الخلود الأدبي:
' ..ويزداد المرء إعجابا بصاحب هذه المجموعة القصصيّة ( بقايا الذاكرة المحنّطة )، لما يعرف أنّ صاحبها يهتمّ بالعلم فهو متخصص في الفيزياء والتكنولوجيا..".
وقد أثار طلب القاص بدر الدّين بريبش من الدكتور عبد الله ركيبي أن يقدّم لمجموعته ؛ أثار في نفسه خواطر جمّة منها تنويهه بولاية بسكرة التي لطالما أنجبت كما يقول : ( كثيرا من الأدباء والكتاب والإعلاميين ونبغ فيها شعراء ومفكرون وباحثون ).
ويقول أيضا أنّه فكر في المواهب التي لا يوجد من يأخذ بيدها، ويكشف عن إبداعها، لاسيما تلك المواهب القابعة في الزوايا المنسيّة من القرى النائيّة والدشور المعزولة.
كما قدّم أيضا للمجموعة الأستاذ الشاعر صمودي نصر الدّين، وهو صديق حميم لبدر الدّين بريبش رحمه الله.
ثم تتلوها مقدمة القاص نفسه والتي يتحدّث فيها عن مجموعته بتواضع كبير ، ويكشف عن بعض خبايا وأسرار كتابة قصصها.
تتألف المجموعة القصصيّة ( بقايا الذاكرة المنحطة )، لبدر الدّين بريبش من واحد وثلاثين قصّة قصيرة اختلفت في حجمها كما يقول الأديب عبد الله ركيبي من صفحة واحدة إلى ثلاث وأربع صفحات في أحيان قليلة ، وهو يسمّي أغلبها أقصوصة ، وإن لم تعد هذه التسمية شائعة الآن ، فالمصطلح المنتشر بكثرة هو القصّة القصيرة أو القصّة القصيرة جدّا ، ولنستطيع الاقتراب أكثر من مجموعة ( بقايا الذاكرة المحنطة )، سنأخذ عيّنة من خمس قصص نقرأها بشيء الإيجاز غير المخلّ.
وهذه القصص هي:
- بقايا الذاكرة المحنطة والتي أخذت المجموعة تسميتها منها.
- مذكرات رجل ميّت.
- الطابور.
- الهديّة الخيرة.
- لن يسقط القناع.
وهي عيّنات يصلح أن نستخلص منها أسلوب بدر الدّين بريبش في الكتابة القصصيّة ، وخصائصه الفنيّة والتقنياته المستخدمة في ذلك ، ولأنّ بدر الدّين لم يكن مكثرا من كتابة القصّة لاسيما في السنوات الأخيرة فإنّه من الصعب للغاية تتبع التغيرات التي حدثت في أسلوبه أو التطوّر الذي ناله خلال ما يزيد عن عشرين سنة مارس فيها الكتابة بمختلف أجناسها، بدءا بالشعر ثم القصّة والمسرح والتمثيليات الإذاعيّة والمقال أيضا.
بقايا الذاكرة المحنطة:
يبدو أنّها أكثر قصص المجموعة أهميّة، كما يبدو أيضا أنّ كاتبها معجب بها كثيرا ، والدّليل على ذلك أنّه سمّى بها مجموعته القصصيّة، كما أنّني أعلم انّه نشرها في أكثر من منبر أدبي.
والقصّة تروي مأساة فتاة عانس تعاني من قساوة مرور الأيّام وانصرامها دون زواج ، رغم أنّها كانت تحظى بجمال كبير وتعمل مدرّسة في بعض المؤسسات التربويّة ، وتتفاجأ ذات يوم بتلميذ عندها يكتب عبارة جميلة جدا ، فتستبعد أن تكون هذه العبارة من إبداعه ، وتسأله ممن أخذها فيخبرها أنّه نقلها من أحد دفاتر أبيه فتذهل لهول المفاجأة ، لقد كان نصّ العبارة:
( إنّني إنسان بسيط ، أكره المغامرة وأكره الحبّ بالتقسيط ، إنّني أحببتك لأكمل نصف ديني ..فلا تضيّعي الوقت واسمعيني ).
الذاكرة الآن تنبعث من مرقدها مثل طائر الفنيق يخرج من رماده ليبعث حيّا من جديد، هذه العبارة المدوّنة في دفتر التلميذ هي العبارة نفسها التي قالها لها أبوه منذ عدّة سنوات، طالبا الزواج منها، لكنّها نأت عنه وأعرضت وهي اليوم تعض أصابع الندم والحسرة.
القصّة في جملتها تصوّر مشهدا مأساويّا من المشاهد المؤلمة التي بدأت تنتشر في مجتمعنا بكثرة مثل الفطر، كثير من الفتيات يعرضن في زهرة شبابهن عن الخطاب، انتظارا لفارس الأحلام الأسطوري لكنّه في النهاية لا يأتي أبدا فيستسلمن لأوّل خاطب ، بعد أن يتقدّم بهنّ السنّ، أويغرقن في دوّامة الأحلام التي لا تنتهي فيكتشفن عالم العنوسة القاسي، ويئدن فيه أنفسهنّ.
الطابور:
لعلّ من الظواهر الاجتماعية الأكثر حضورا في حياة جزائر الثمانينات وبداية التسعينات هو الطابور، وهو كذلك عنوان إحدى قصص المجموعة، وفي الطابور يدور حديث ذو شجون... سياسة ، ثقافة ، هموم اجتماعيّة...
يعلن بدر الدّين بريبش عن بداية قصته بهذا التقرير القاطع:
" الانتظار متعب ، ورائحة الدّخان خانقة "
ليلج بعد ذلك إلى عالم الطابور المدهش:
" أنا بصراحة لم أقم بتجربة الطابور قبل اليوم.. لست مدللا كما تعتقد ... ولست ابن الآخرين ...أنا إنسان بسيط ... وأبسط مما تتصوّر "
إنّها قصّة معلّم مدرسة يقف في الطابور في زمن الندرة أو زمن الاحتكار، من أجل الحصول على قطعة لحم، من الأروقة الحكوميّة التي توفره من حين لآخر بثمن مقبول، وبعد حديث طويل وحوار ساخر، يأتي اللحم فتتزاحم الأجساد وتتشابك الأيدي والأرجل ... من أجل ماذا ؟ من أجل قطعة لحم.
ويخرج معلم الصبيان ! من الطابور صفر اليدين ...!!
الهديّة الأخيرة:
هذه القصّة تبدأ بثلاثة أبيات من الشعر لصديق الكاتب؛ صمودي نصر الدّين:
"يا ليت العمر يعود إلى قلبي أضناه تصحره
ويعود إليه وفي يده غصن أعياه تعلّقه
لكنّ العمر يمرّ وفي خلجات القلب تحرّقه...."
هي قصّة شيخ طاعن في السنّ يقف في حرّ الشمس، انتظارا لمجيء الحافلة ويطول به الانتظار حتى يقول أحد المنتظرين معه:
( يبدو أنّ الحافلة لن تمرّ اليوم ...إنّ حليمة لا تفرّط في عادتها القديمة ..)
ويصف الشيخ بقوله راسما لوحة من الأمل العذب :
" أمّا الشيخ رغم بقائه وحيدا فإنّه لم يفقد الأمل وراح يغازل الانتظار بحبّات سبحته العاجيّة.." ولمّا طال الانتظار بالشيخ راح يرسم على الأرض بعصاه؛ صورة لفتاة جميلة:
" كان يبدو وكأنّه ساجدا حين أراد أن يطبع قبلة على جبينها..
لم يرفع الشيخ رأسه وإلى الأبد " وترك منديلا كبيرا فيه دميّة وبعض الحلوى وورقة صغيرة كتب عليها:
" عيد ميلاد سعيد يا ابنتي حنان، جدّك الذي يحبّك."
لن يسقط القناع:
" وجه المدينة شاحب كوجه عمّي مسعود الذي يجلس في مدخل الحيّ ، الصمت...النظرات الحادّة ؟ "
إنّها قصّة تصوّر النفاق السياسي والتلوّن المستمر ، الذي يمارسه أناس أدمنوا السّلطة والتشبث بالكراسي ، فهم يضعون لكلّ زمن قناعه المناسب. في بداية الأحداث يحاول البطل – بعد نذر إعصار التغيير – حمل حقيبته الدبلوماسية والرّحيل:
" ينتابني الخوف الشديد . أحمل حقبتي الدبلوماسيّة. أبحث عن تذكرة سفر لرجل عادي .."
ويفاجأ بأنّ كلّ أماكن السفر محجوزة ، وبعد محاولات يائسة للهروب يعود إلى البيت وهو يقول:
" وما زلت أحدّث نفسي حتى وصلت إلى البيت حاولت البحث عن قناع جديد، ودور جديد، لليوم الجديد ".
وهكذا لن تسقط الأقنعة ، إنّها قصّة رمزيّة مشفرة ، مكثفة ذات إيحاءات متعدّدة ..
مذكرات رجل ميّت:
إنّها من القصص الطريفة والمثيرة في المجموعة، لم أقرأها من قبل أو لعلّني قرأتها ونسيتها، وقد قرأتها بعد وفاة بدر الدّين – رحمه الله – ببضعة أيّام فشدّني فيها هذا المشهد المثير ، يقول الكاتب على لسان بطله الذي أراد أن يمثل دور الميّت، ويعرف أثر ذلك على المحيطين به من أهله وأصدقائه:
( في الصباح تجمّع كلّ الأهل وكان العويل ... وراحت النسوة تعدد في خصالي الحميدة وكيف كنت أكرم النّاس وكيف كان بيتي مفتوحا للجميع...كان الصراخ يزعجني إلى درجة أنّني تمنّيت أن يعجلوا بالدّفن – فإكرام الميّت دفنه – كنت قرّرت أن أكشف الحقيقة إلا أنّ اللعبة أعجبتني... ) إلى أن يقول:( عندما أخرجوني وحملوني على النعش كان حشدا كبيرا من النّاس يمشي خلف جنازتي لقد حسدت نفسي على هذا العدد الكبير من الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم...).
هذا المقطع المدهش من القصّة كأنّه تصوير حقيقي لجنازة بدر الدّين – رحمه الله – كأنّه استشف الغيب أو كما تقول العامّة ( نطقت على لسانه الملائكة ).
أكتب هذه الأسطر أو أختمها بالأحرى - لأنّي كنت قد بدأتها منذ مدّة، ولم يتيسّر لي إنهاؤها- وقد مرّ على وفاة الأديب والقاص والإعلامي الأستاذ الصديق بدر الدّين بريبش أكثر من أربعة أشهر، والصدمة ما تزال ماثلة في النفس ، والألم مستكن في القلب، ولذلك لا يطمع القارئ الكريم في دراسة موضوعيّة وتحليلية مفصّلة لنتاج بدر الدّين الأدبي، ولعلّ ذلك يكون بعد حين من الزمن، تذهب معه الانفعالات وتزول الأشجان.