أعداء الإسلامية 2

أعداء الإسلامية

2

د. نجيب الكيلاني

إذا كانت الإسلامية على هذا النحو الفريد من حيث النظرية والتطبيق، فلماذا توجه إليها سهام العداء المسومة؟؟

وما السبب الكامن وراء الحملات العنيفة التي تعد وتدفع لهدم صرحها، ودك بنيانها؟؟

وإذا كانت البشرية في مرحلة الطفولة القديمة تتصرف بسذاجة وحماقة، فما هو العذر الذي يقدمه عصرنا – عصر التقدم والعلم والتكنولوجيا – لما يكنه من خصومة قاسية مريرة للإسلامية؟

وإذا كان هذا العداء لا يحقق مصلحة حقيقية للبشرية، ولا يخدم قضاياها المصيرية فيكف نفسر تلك الهجمات المتتالية التي لا ترحم؟؟

أسئلة عديدة تدور في ذهن أي باحث، وتؤرق العاملين في الحقل الإسلامي، والواقع أن الناس أعداء ما جهلوا، فهناك فئة من الناس ليس لديها الوقت أو الرغبة لتحري الحقيقة، إنها ألفت مذهباً بعينه، أو فلسفة في الحياة استساغتها، وليست على استعداد لتحري الحقائق، وتمحيص ما يعرض عليها من أفكار ومبادئ، وهذا الصنف من الناس ينظر إلى الموضوع نظرة سطحية، فيرى حال المسلمين وما آلوا إليه من تمزق وتخلف، وما هم فيه من تناقض ووهن وكسل، فيتبادر إلى ذهنه أن الإسلامية بذلك قد جانبها التوفيق في خلق جيل قوي يفهم الحياة العصرية فهما سليماً، وأنها لو كانت كما يصورها أصحابها لقضت على أمراض مجتمعاتها، ولخلقت أمة قادرة على تخطي الصعاب ولأمكنها أن تسير في مقدمة الأمم الراقية، ولبرزت مثيلاتها في كل أنواع النشاطات الإنسانية من علمية وثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية، ولا شك أن الصورة القائمة التي تقدمها المجتمعات الإسلامية صورة قاتمة لا تشجع الغالبية العظمى من رجال الفكر والسياسة، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.

لكن هل استطاعت شعوبنا الإسلامية أن تتمثل المعاني الإسلامية وتفهمها حق الفهم، وتطبقها في واقعها المعاصر؟؟

إن المسلمين أنفسهم قد تراخوا عن فهم الرسالة وأدائها على الوجه الأكمل، ولم يتحمسوا لمضامينها الفكرية التحمس الكافي، بل اتخذوا من الفلسفات الوضعية – فلسفات الأعداء - منطلقاً لتصوراتهم وحياتهم الجديدة ومن ثم فإن الإسلامية في عصرنا لم توضع بعد موضع التجربة والاختبار حتى يمكن الحكم على أصالتها في مجال التطبيق، فضلاً عن أن الفلسفات المعادية استطاعت بخبثها ودهائها وإمكانياتها الهائلة أن تثير الشكوك حول الإسلامية ومضامينها، ووجدت تلك الفلسفات الفرصة سانحة لإثارة الشبهات بسبب بعد المسلمين عن تراثهم، وعدم اهتمامهم به، وعزوفهم عن فهمه وإدراك أسراره، وعظمة ما فيه من مبادئ وتفسيرات.

نعم إن إمكانيات الأعداء قوية ومبهرة، لأنهم قطعوا شوطاً كبيراً في مجال التقدم والسيطرة والنفوذ، فسخروا ما لديهم من قوة وعلم ونفوذ لسحق أفكار الآخرين وهدمها، وذلك من خلال الغزو الفكري الذي جندوا له أفتك الأسلحة وأخطرها.

وإذا كان لدينا المسلم ديناً وميلاداً وأرضاً، فإن ذلك المسلم يفكر كما يفكر الأعداء، ويلبس مثلما يلبسون، ويأكل كما يأكلون، ويسلك في الحياة اليومية سلوكاً يكاد يكون صورة طبق الأصل من سلوك الأعداء، ولهذا السبب تميعت شخصية المسلم واندثرت أو كادت، فهو من الناحية الجغرافية والتاريخية مسلم، وهو في فكره وسلوكه غير مسلم، إن ذلك التمزق الفكري والوجداني قد جعل منا مسخاً مشوهاً لا يعبر بحال من الأحوال عن الشخصية الإسلامية المتميزة، ومن هنا كان إنتاجنا في الفكر والفن والفلسفة إنتاجاً مستعاراً من غيرنا، لا يمت بصلة تذكر إلى تراثنا وعقيدتنا، بل إن هذه الشخصية المتميعة الهلامية أصبحت تكيل الاتهامات جزافاً لكل ما هو إسلامي، باسم العصرية تارة، وباسم التقدمية وحماية التطور تارة أخرى، وباسم البعد عن التعصب والرجعية والجمود حيناً آخر، وإذا كانت الفنون لها أعمق الأثر في تشكيل الفكر والوجدان، فقد قلد مفكرونا الأعداء فيما يكتبون، لذا نجد القصص والأفلام والمسرحيات والأشعار أغلبها يستعير الموضوعات والأساليب الغريبة، ويبرز الشخصيات الشاذة في تصرفاتها وأفكارها، والتي تنبع تصوراتها وسلوكها من منبع آخر دخيل غير منابعنا الأصيلة، ولهذا قل ما يمكن أن نسميه بالفن الإسلامي أو الأدب الإسلامي أو الفكر الإسلامي، وكان حرياً بكتابنا وعلمائنا أن يستلهموا تراثهم ومبادئهم وضمائرهم، فلا يسقطوا في براثن التقليد،

ولا يبعدوا عن المكونات الأساسية لشخصيتهم.

ولا يذوبوا في أتون الغزو الفكري الذي ابتلاهم الأعداء به...

 من هنا نرى أننا – بهذا السلوك - قد أصبحنا ألد أعداء  أنفسنا... نعم نحن السبب الأول والأساس في هدم مفهوم الإسلامية في عقولنا وقلوبنا ومجتمعاتنا...

إن المرأة المسلمة قد تؤدي الصلاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت وتقر بالتوحيد، لكنها قد تسير حاسرة الرأس، عارية الصدر والذراعين، ثوبها فوق ركبتيها، وتقلد الأجنبيات في سلوكها مع الجنس الآخر.

ونرى الرجل المسلم يعرف عن تاريخ أوربا والعالم، وعن تاريخ الاقتصاد العالمي أكثر بكثير مما يعرفه عن تاريخ الحضارة الإسلامية الرائدة وفكرها واقتصادها، حتى الكليات والجامعات تركز أيما تركيز على أصول الفكر الغربي ومدارسه ولا تكاد تهتم بأصول الفكر الإسلامي واقتصادياته وقوانينه.. وماذا يريد أعداؤنا غير ذلك؟؟ لقد تحقق لهم ما يريدون على أيدينا نحن، واستطاعوا أن يدمروا حصوننا من الداخل وبأيدينا، ومن ثم فلا مناص من أن نضع أسساً جديدة للتربية والتعليم في بلادنا الإسلامية، أسساً تنهض عليها تنشئة الأجيال وتعليمها وتوجيهها، هذه الأسس لا بد أن تكون مستمدة من منابع الفكر الإٍسلامي ومدرسته القرآنية وآدابه المحمدية.

هذه واحدة والثانية: أن وسائل الإعلام برغم ما فيها من برامج دينية وتلاوات قرآنية، قد أصابها الاضطراب والخلل، وعشش فيها التناقض والتخبط، فهي إلى جانب فقراتها الدينية المباشرة تخلط السم بالعسل، فنرى تمثيلياتها ومسلسلاتها وندواتها تمضي مقلدة للغرب في نظرته للحياة والكون والإنسان، وتؤثر في الوجدان والفكر أعمق تأثير وأخطره، هذه الوسائل الإعلامية تفسح الطريق أمام الفكر المنحل، والتصور المنحرف للعلاقات الإنسانية، سواء في الصلات الفردية أو الاجتماعية، فالزوجة تحب وتعشق وتخرج وتمارس لعبة الشيطان مع رجل غير زوجها، في إطار من التبرير الزائف، تبرير المفاسد والانحرافات والرذيلة، والمجرم يبدو في إطار المظلوم المغلوب على أمره، والانتهازيون يسمون انحرافهم مهارة ولباقة وذكاء.. والمتحللون والمصابون بالشذوذ والهوس ينسبون ذلك إلى فلسفة جديدة قوامها الحرية وإشباع الرغبات، مخافة السقوط في براثن العلل النفسية، ومركبات النقص، فماذا تجدي الأحاديث الدينية، والتلاوات القرآنية، أمام هذا الركام الهائل من المفاسد والانحرافات والفوضى الفكرية والسلوكية؟؟

إن الممسكين بزمام الرأي والتوجيه والتربية نماذج بشرية عليلة لا تستطيع أن نقوم على تربية جيل، وتسهر على توجيه أمة من الأمم، ولا يمكنها – بحكم نشأتها وتربيتها وثقافتها – أن تقدم الإسلامية في إطار سليم صحيح، ولا تستطيع أن تتصدى لسهام الأعداء، لأنهم في الواقع – سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا - فرقة من ذلك الجيش الهائل، جيش الغزو الفكري..

لذلك فإنني أقول مرة أخرى: إننا نشكل قوة ضاربة تعادي الإسلامية وتساهم في القضاء عليها، وهيهات أن نستطيع أن نفعل شيئاً قبل أن تزاح هذه العوائق من الطريق، وتوضع أمانة التوجيه والتأثير في الرأي العام، في أيد أمينة تقدر المسؤولية وتعرف الطريق السوي إلى الهدف الأسمى.. إلى الإسلامية باعتبارها منهجاً في الفكر والسلوك..

وليس معنى ذلك أن نقف مستعدين منتظرين حتى يأتي إلينا من بيدهم الأمر ليأخذونا إلى حيث مراكز الدعوة والتوجيه... لا.. هذ1 غير معقول، بل علينا أن نتحرك ونأخذ للأمر عدته من علم وثقافة وتجربة وعزم، ثم نزاحم هؤلاء المنحرفين بالمناكب، ونأخذ أماكننا بالكفاءة والجدارة وتقديم النماذج البديلة.. تقديم البدائل هو الحل فالناس لا يمكن أن يعيشوا في فراغ، وإذا أردنا أن نزيح صناعة زائفة، أو فكراً منحرفاً، فلا بد أن نغرس مكانه النبتة الصالحة في التربة الصالحة، ونواليها بالري والغذاء، حتى تورق وتثمر وتترعرع..

وعلينا أن نعرف جيداً كيف يفكر عدونا، وكيف يخطط ويرسم، وكيف يمضي في معركته، وما هي الطريقة التي يوهن بها قوانا وعزائمنا ومعتقداتنا، وعندئذٍ نستطيع أن نعد الأسلحة المضادة التي تفل سلاحه، وتفشل مخططه..

وهذا يجرنا إلى الحديث عن الداعية الإسلامي الجديد في عصرنا الحديث.

هذا الداعية يجب أن يكون مؤهلاً التأهيل الكافي المناسب. مستخدماً أدوات العصر ووسائله في مجال الإقناع والتأثير حسبما أسلفنا في الفصل الأول، وعليه أن يتخذ عدته من كل ما يحفل به عصرنا من معارف وثقافات، إنه في حاجة بديهية إلى الإلمام بتراثه الإسلامي إلماماً معقولاً شافياً، ولا بد له من دراسة علم الاجتماع والدراسات النفسية في حدود الإمكان، ولا بد له من معرفة أصول علم الاقتصاد، وقدراً من فلسفة الفنون والإعلام وغير ذلك من ألوان المعرفة التي أصبحت ثقافة عامة في عصرنا ولا غنى لأي مثقف عنها..

هذا الإعداد أمر لا مفر منه، وإلا فكيف أضع عالماً من علماء الدين التقليديين في مواجهة طائفة من المثقفين العصريين أو الجامعيين، ثم لا يستطيع الإجابة أو عقد المقارنات بين الإسلام وغيره من الفلسفات المعاصرة، إن احتياجات الحاضر، ومشاكل المجتمع والواقع الحي الذي نعيشه والتساؤلات الملحة في مجالات السياسة والتربية والفكر والفن والاقتصاد، كلها تفرض نفسها فرضاً على ندواتنا ومجالسنا وصحفنا، ولا بد من تحليل كل ذلك، ورده إلى أصوله كي نصل إلى الطريق الصحيح.. طريق الإسلامية..

ولا بد من الاهتمام بالطفل اهتماماً خاصاً قبل سن المدرسة، وفي أثناء سنوات الدراسة، إن بلادنا الإٍسلامية لم تعط الطفل حقه الكامل حتى الآن، فهو متروك لمشيئة الأبوين، وتوجيه البيت، مع أننا نرى في أوربا مثلاً سينما للأطفال ومسرحاً للأطفال وعديداً من صحف ومجلات الأطفال، وكتبا خاصة بهم، ونوادي يمرحون ويتعلمون ويتربون فيها، إنهم هناك يغرسون في أطفالهم ما يريدون لهم من توجيه وتوعية، فينشأ الطفل على المعاني والقيم التي يريدونها أما أطفالنا فيعيشون في ضياع، وإذا ذهب إلى المدرسة وجد نفسه تائهاً في حجرة دراسية قد تضم ستين طفلاً، ولا يجد من المناهج الإسلامية الناجحة الشيقة ما يشده إلى ينابيع دينه، ومن ثم نجد أطفالنا يتحلقون حول شاشة التليفزيون، أو يجلسون مستمعين للمسلسلات الإذاعية مثل الكبار تماماً، وهنا يتعلمون عبارات الغزل، والنكات البذيئة، وحيل العصابات والقتلة والغشاشين، فينشأون في جو فكري مسمم، ويخرجون إلى الحياة الكبيرة حيث الشارع بتقاليده المنحرفة، وحيث السلوك بضلاله وشذوذه، وحيث الصراع والزحام المجنون الذي لا يرحم.. فكيف يصح هذا الطفل في المستقبل رجلاً يتمثل الإسلامية فكراً وسلوكاً بعد أن افتقدها في البيت والمدرسة والشارع وفي وسائل الإعلام المختلفة؟؟

أمر آخر لا بد من التعرف عليه، وهو أن هناك نوعاً آخر من العداء نستطيع أن نسميه "عداء المصلحة" وهذا العداء يحمله أولئك الذين تتعارض مصالحهم مع سيادة الإسلامية وسيطرتها على مناحي حياتنا فالذين يستغلون العباد، ويسخرونهم بأبخس الأثمان، ويسرقون جهودهم وعرقهم ويوجهونهم الوجهة التي تتفق وأهدافهم، هؤلاء الطغاة يخافون على سلطانهم أن يزول، وعلى مكاسبهم أن تنمحي أو تتناقض، ومن ثم فهم أعداء لأي تغيير أو تطور بيمس مصالحهم ويتعارض مع مخططاتهم.

وفئة أخرى وثيقة الصلة بالفئة الأولى قد ألفت حياة الإباحية والبذخ والسقوط، ويقضون أيامهم في العبث ومعاقرة الخمر، وارتكاب الفواحش أو الموبقات، هؤلاء جميعاً – وإن كان غالبيتهم من المسلمين اسماً- يخافون العقوبة، ويقفون مذعورين أمام مبادئ العفاف والشرف، فقد ألفوا العيش في مستنقعات الرذيلة، تلك التي يجنون من ورائها المتعة الزائفة والمكاسب المادية أو الدنيوية التافهة، ولذا نراهم يسيرون بين الخلق بدعوى الجاهلية والإباحية والفوضى، ويزعمون أن تلك هي الحرية التي هي من حق الجميع، حرية العقوق والفسوق، ونسوا أن مثل تلك الحرية المزعومة هدم لأنفسهم ولمجتمعاتهم ولأوطانهم.وليت الأمر يقف عند هذا الحد، لأنهم لا يكتفون بالممارسة المشينة لهذه التصرفات، وإنما يروجون لها، ويفلسفونها ويعتبرونها ضرباً من التقدم أو التحضر أو المدنية، ويفرزون في ظلها الأفكار والفنون والآداب المسمومة، فتبدو هذه الانحرافات الخطيرة وكأنها هي الواقع الذي يجب أن يكون، وهي الفلسفة السليمة التي يجب أن يسيروا على نهجها، هؤلاء جميعاً تتلمذوا على أيدي أساتذة الدمار والانهيار من مفكري الاستعمار والإلحاد والصهيونية، ونسوا أو تناسوا أن في ذلك فساد الدنيا والآخرة، وأن الخانعين المستهترين لا يمكن أن يبنوا أمة، أو يحققوا نصراً، أو ينالوا استقلالاً، أو يقودوا أجيالهم إلى حياة الرفاهية والشرف والرفعة، وهل في الإمكان أن تنهض حضارة أصيلة حقيقية على أساس هذه الألوان من العفن والانحراف والتحلل؟

وإذا كان هؤلاء المارقون يظنون أن الدول التي سبقتنا في مجال التقدم والعلم والتكنولوجيا، تتخذ هذا الأسلوب منهجاً في حياتها، ودستوراً لسلوكها، فإن ذلك لا يمكن أن يعتبر حجة مقبولة، لأن الحضارة الغربية تخفي مساوئها وعللها وراء ستار كثيف من التقدم الصناعي، وقد اعترف مفكروها وفلاسفتها بما يعانيه الفرد من تمزق وحيرة وقلق، فكثرت بينهم الأمراض النفسية، والانحرافات الخلقية، وتمزقت أسمى الأواصر، وما علينا إلا أن نقرأ آدابهم ونطلع على فنونهم، لنرى النماذج البشرية المحطمة، والبدع الأخلاقية الغريبة، وذلك كله – باعترافهم - إيذان بانهيار قريب لتلك الحضارة، ولا شك أن الحروب المدمرة، والفلسفات الشائهة، وموجة الخنافس والمخدرات وقضايا القتل الجماعي والشذوذ الجنسي والفضائح الفتاكة، وظلم الأقوياء للضعفاء، لا شك أن هذه الأوبئة كلها هي بداية النهاية لأمم تخفي مساوئها وعللها وراء التقدم الصناعي أو التكنولوجي الظاهري..

إن حضارة الغرب هي حضارة ظاهرة.. لأن العلوم الظاهرية من كيمياء وكهرباء وفسيولوجيا وغيرها، استطاعت أن تدرس الإنسان من خلال أنشطته الظاهرة للعين في المعامل أو تحت الميكروسكوبات، أو بمختلف وسائل العلم الحديثة، لكن حضارة الظاهر تلك لم تستطع أن تتعمق باطن الإنسان أو داخله، لم يتيسر لها أن تفهم وجدانه وروحه وأشواقه وفطرته السليمة، لأن هذا المجال الميتافيزيقي (أو ما وراء الطبيعة) هذا المجال الغامض المجهول لا يمكننا أن نستمد معرفتنا عنه إلا من خالقه.. من الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي خلق الخلق، وهو الذي أودع فيهم من الأسرار والحقائق ما لا يعرفه أحد، ومن ثم فإن طبائع الأمور تقتضي أن الخالق وحده هو القادر على صوغ القوانين والخطوط العريضة لمسيرة الإنسان في هذه الحياة.. من هنا كانت رسالات السماء التي تضمنت شريعة الله عز وعلا...

لهذا فإن الحضارة الحديثة التي أغفلت هذه الحقيقة قد حادت عن الطريق، وانصرفت عن المنهج السليم، وأصابها الغرور بسبب الفتوحات التكنولوجية والعلمية في مجالات علوم الظاهر، وظنت أنها قادرة على اقتحام علوم الباطن، وقدمت التافه القليل فيما يسمى بعلم النفس، والعجيب أن تلك الحضارة قد اعترفت بعجزها وقصورها في وضع تصور صحيح للإنسان في باطنه، وإذا كان علماء الحضارة قد اتفقوا على القوانين العلمية التي استخلصوها من التجارب والمشاهدة فيما يتعلق بعلوم الظاهر، إذا كان العلماء قد فعلوا ذلك فإنهم قد فشلوا فشلاً ذريعاً في الكشف عن النواحي الميتافيزيقية، ولم يصلوا فيها إلا إلى بعض الحقائق التي وصل إليها الدين، ثم اشتطوا فأتوا باستنتاجات خاطئة في هذا المجال أيضاً، وكان الخطأ الأكبر حينما حاولوا تطبيق تصوراتهم المتهافتة المضطربة في واقع الحياة.. وهذا كله يعود بنا إلى إقرار الحقيقة الواقعة ألا وهي أن الخالق هو الخبير بخلقه، وأن التصور الديني لهذا الجانب في حياة الإنسان أقوى التصورات وأصحها...

إذن فالكائن الحي الذي ربته الحضارة الغربية كائن شائه ناقص، واقع بين براثن القلق والتمزق والخوف والملل والشطط والانحراف على الرغم من أنه ينعم بالمنجزات المادية والصناعية التي تحققت له لكنه شقي روحاً وقلباً ووجداناً.. هذا هو ردنا على أولئك الذين يستشهدون بالتقدم الصناعي على تفوق الحضارة الغربية وسيادتها في كل مناحي الحياة..

نعود مرة أخرى إلى ظاهرة العداء للإسلامية، فنقول: إن هناك نوعاً آخر من العداء يرتبط بطبيعة النفس البشرية، ألا وهو تشبث كل ذي عقيدة بعقيدته، وهذا واضح طوال حقب التاريخ، فاليهودية ترفض النصرانية استمساكاً بتراثها القديم،والنصرانية تكره الإسلامية واليهودية معاً في واقع الأمر، وكل ذي عقيدة أو دين يدفعه تعصبه وكبرياؤه أحياناً إلى محاربة ما يضاد فكره أو يختلف معه، وهذا نوع من العداء مورث وشائع، بل إننا نجد مثل هذا العداء بين أصحاب المذاهب المختلفة في الدين الواحد، ومنطق العلم يرفض هذا اللون من العداء لأنه يتنافى مع الموضوعية، ومنطق الدين هو الآخر يرفض ذلك العداء أو التعصب الأعمى، وكثيراً ما تحمل آيات القرآن الكريم على أولئك المكابرين الذين يحتجون بتبعيتهم لآبائهم وأجدادهم، ويشيحون بوجوههم عن كل نور جديد يقتحم ظلمات حياتهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ، وإنا على آثارهم مقتدون".

إن إغلاق العقل عن أي فكر جديد، ورفضه ابتداء دون فحص أو تمحيص يعتبر ضرباً من الجمود والتعصب، وحينما أعلن الجهاد المقدس في الإسلام، لم يكن ذلك الجهاد من أجل غزو أرض، أو استغلال شعوب، أو نهب ثروات، وإنما كان لفتح الطريق أمام شعوب الأرض كي ترى النور وتختار.. "لا إكراه في الدين".

كان الجهاد من أجل هدم أسوار السجون والإكراه والكبت والقهر التي ترزح تحتها شعوب الأرض، ولهذا لم نسمع في التاريخ عن إنسان عذبه المسلمون كي يعتنق دينهم.

هذا النوع من العداء للإسلامية يجب أن نقابله بالمنطق، بالجدل العلمي الموضوعي.

ولنتناول الآن بعض أعداء الإسلامية بشيء من التوضيح...

(يتبع)

              

(1) الزخرف – آية 23

(2) البقرة آية 256