فن اليوميات..
د/حنان فاروق
دروب الأدب والكتابة كثيرة تتنقل بين واحاتها وبساتينها فتجد دائماً ماتريد خاصة إن تفطر فؤادك كمداً وأنت تتابع الفضائيات حين تكشر لك عن أنيابها ولاتجد في فيافيها الواسعة ماتستظل به من الرمضاء غير النار والخسار..هذا بالطبع لاينطبق على جميع الفضائيات فى جميع الأوقات فلقد اتفقت مع قلمي ورواد كلماتي اتفاقاً غير معلن من قبل على أن التعميم ضد المنطق ولا نستطيع البتة إنكار فضل بعض البرامج الثقافية والعلمية والوثائقية والدينية في تنمية الحس الثقافي لدينا نحن العوام الذين قد لايحظون بمقابلة ومحاورة العلماء فى شتى المجالات والمثقفين والأدباء إلا من خلال تلك النوافذ الزجاجية المفتوحة فى بيوتنا ليل نهار تارة على شكل تلفاز وأخرى حاسوبية تطل بنا على هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف المدعو بالإنترنت أو الشبكة العنكبوتية..لكن مشكلتنا التي توجعنا جميعاً مع تلك النوافذ هي طغيان الطالح على الصالح والمرض على الصحة والفساد والإفساد على الصلاح والإصلاح..قد يقول البعض أنى أرى الصورة من منظور ضيق وبمنظار أسود..وهو ما أحدث به نفسي فى كثير من الأحيان خاصة عندما أرى أو أجد مايسرنى في نفس الساحات التى تضايقنى وتثير أعصابي وربما اشمئزازي عندما تصر هي لا أنا على ذلك.. ولذلك فقد قررت أن أترك النقد والتعليق على المساوىء مؤقتاً لأطل برأسي على فن أحبه وأراه من أجمل دروب وفنون الكتابة على الإطلاق حيث تختلط فيه المتابعة الدورية لأرض الواقع بالتاريخ بالجغرافيا بالأدب بالفن بالقص بأدب الرحلات بخلفيات الكاتب ومرجعياته وبيئاته التى خرج منها وانتماءاته التى يرتبط بها بوجهة نظره بآراء الآخرين ..إنه درب مميز من الأدب ربما كان هو أصل كثير من الفنون القلمية بطريقة مباشرة وغير مباشرة..هذا الفن هو فن كتابة اليوميات والمذكرات..ففي هذا الفن متسع ومتنفس للكاتب والقارىء على حد سواء..فبالنسبة للكاتب تعتبر اليوميات نوعاً من صيد الخاطر يرصد فيها فكره وانفعالاته وتفاعله مع الحدث الذى قد يأخذه إلى مناطق من الذاكرة لم تكن فى الحسبان وقت وقوع الحدث بيد أن الإنسان عامة إذا راقب فكره وجده يرحل فى الثانية الواحدة مسافات زمنية ومكانية بعيدة قريبة تنقله
عبر رحلته العمرية والخبراتية ..وربما أيضاً أخذته إلى رحلات الآخرين الذين تأثر بهم سلباً وإيجاباً وتركوا علامات واضحة في فكره ووجدانه لم يلحظها هو نفسه إلا حين متابعته للأحداث..ذلك الصيد الذى قد يمر على الإنسان العادي بادئاً بشرود منتهياً بابتسامة و دمعة أو انفعال يختلف شكله باختلاف طبيعة رحلته هو الرصيد الثمين الذي ينتظره الكاتب ليحافظ عليه في ركن من أركان أفكاره ليبدعه إنتاجاً فنياً صادقاً غير مفتعل ولامصطنع.. يصل إلى الناس على طريقة (مايخرج من القلب يدخل إلى القلب) ..ولهذا فاليوميات تتيح الفرصة للكاتب أن يحفظ جواهره الثمينة دون أن تمتد إليها يد الظروف والضغوط والانشغالات وتضعها في سلة المهملات غير مأسوف عليها ولا على كاتبها..
بالنسبة للقارىء تتيح اليوميات فرصة للاقتراب من الكاتب..من عالمه وفكره وحقيقته مهما حاول تزييفها..فالذى يستطيع أن يخدع أحياناً لايستطيع قطعاً أن يخدع دائماً..لابد له من سقطة هنا..وكشف قناع هناك..وبنفس الطريقة يمكن للقارىء الأريب تبرئة الكاتب من اتهامات بعينها أو توجهات قد يراها البعض غريبة بل هي تتيح له تفهم وجهات نظر تبدو منافية للمنطق أو مجافية للواقع حتى دون أن يتفق معها بغير انفعالات متشنجة وردود فعل غير محسوبة لأنه ببساطة تابع أنفاس صاحبها الدورية واليومية عن كثب وفهم كيف تنقلب من شهيق إلى زفير والعكس..
أذكر أن أول ماقرأت من اليوميات والمذكرات كان (مذكرات شاب مصري يغسل الأطباق في لندن) كان كاتبها صحفياً قرر الخوض والمشاركة فى حلم شباب السبعينات-وقت قراءتي للمذكرات- الذين يسافرون للخارج فى الإجازات وغيرالإجازات للعمل آملين خوض تجربة مثيرة تساعدهم على شق طريقهم أو استبداله بآخر يحقق لهم طموحاتهم المتراكمة فى عقولهم وقلوبهم الفتية..تلك المذكرات نقلتنى وأنا على مشارف عقدي الثاني إلى عالم مختلف صحح لي أفكاراً عدة نشأت من احتكاكي بأبناء خالاتي الذين كانوا وقتها في صدر الشباب ولم تكن عروس أحلامهم الجميلة إلا السفر إلى أميريكا وأوروبا.. ولايحسبن أحد أن الكاتب قلل من شأن التجربة لكنه وضعها على المحك..جعل كل سلبياتها وإيجابياتها وضاحة وضوح الشمس من غير خطب ولاشعارات ونصائح مفرغة من الحقيقة ..كل مافعله هو أن أخذ القارىء معه إلى تجربة متكاملة يعايشه فيها يوماً بيوم...تلك التجربة الرائعة التى ربما تدخل في سياق أدب الرحلات تختلف تماماً عن تجربة الأستاذ أنيس منصور مثلاً في (حول العالم فى 200 يوم) التي انتقلت بنا بين بلدان عديدة بعينه المفتونة بالتقدم والحضارة المادية الطاغية المقارنة بين تخلفنا وتقدمهم.. السريعة التحرك الدائبة الوصف للحرية والجمال والمغامرة بكل صورها وهي رحلة لاتنقل إليك تجربة لكنها تحفزك لتكون لك تجربتك الخاصة ..وتجعلك في حالة تحليل دائم للكتابة نفسها لا للتجربة فحسب..
نوع آخر من اليوميات أو مااعتبرته أنا كذلك كان سنة أولى وسنة ثانية سجن للأستاذ مصطفى أمين ..و (أيام من حياتي) للداعية زينب الغزالي..شرح فيها كل تجربته وخبرته بطريقة سردية مشوقة أخذت قارئهما إلى منطقتيهما تماماً ولكل توجهاته وانتماءاته..والأهم هو خروج هذا القارىء المتابع برحلتين متشابهتي الأحداث مختلفتي التفاعل والخبرات والمرجعيات والخلفيات..
آه لو كتب جميع الكتاب والفنانين يومياتهم ..(وهي بالفعل كثيرة عربية وأجنبية) وآه لو حرصنا نحن على قراءة ومتابعة تلك اليوميات..من المؤكد أننا سنتعلم كثيراً ونتفاعل مع الكاتب ككل لا مع كلمات له قرأناها صدفة أو قدراً دون أن نلج إلى عالمه..دون أن نعرفه..