أدبيات الرسائل الإلكترونية

الرسائل الإلكترونية وتطور اللغة في المجتمع

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

شهدت السنوات الأخيرة سرعة في التواصل بين البشرية، بانتشار الإنترنت والهواتف المحمولة وغيرها من وسائل الاتصال؛ وقد كانت لذلك آثار مادية وثقافية واجتماعية، وما نركز عليه في هذا المقام الآثار الثقافية لهذا التواصل من خلال النص المكتوب في الرسائل الإلكترونية في الهاتف المحمول والرسائل الإلكترونية في البريد الإلكتروني. أو المحادثات الفورية بالكتابة على (الشات) وما استتبع ذلك من تغير في لغة الخطاب بين الناس، تلك اللغة التي تتأثر بعوامل البيئة المحيطة فتطورت طبقا لتتطور هذه البيئة.

إن تتبع الرسائل الإلكترونية في الهاتف المحمول التي تبث على شاشات الفضائيات يقف بنا على تشكيلة العقل العربي وما يفكر فيه؛ فبعضها ينقل كلاما لا قيمة له ليعبر عن عقلية فارغة، وبعضها يكتب كلاما رمزيا يدرك المشاهد أنه موجه لشخص ما عبر هذه القناة أو غيرها، وبعضها يكتب شيئا دينيا انطلاقا من فكر معين يعتقد به...إلخ، ولكل وجهة هو موليها.

لن أحلل الرسائل التي تحمل مضمونا فارغا، فيكفي ما أنفق فيها من أموال كي توضع على هذه الشاشة، ويكفي ما ضاع من وقت لكي نقرأها، ولكني سأقف على بعض الأدبيات الظريفة التي شاعت على مواقع الإنترنت بحيث أصبحت الرسائل الإلكترونية المتداولة عبر الهاتف المحمول أشبه بفن التوقيعات المتعارف عليه في أدبنا العربي؛ حيث إن ذلك الفن كان يعتمد على قول حكيم أو شعر رصين بعبارة مختزلة مختصرة تتكثف تحت ظلال حروفها معانٍ كثيرة، وقد عرّفها ابن عبد ربه في العقد الفريد بقوله: "إذ كان أشرف الكلام كله حسنا، وأرفعه قدرا، وأعظمه من القلوب موقعا، وأقله على اللسان عملا، ما دل بعضه على كله، وكفى قليله عن كثيرة، شهد ظاهره على باطنه، وذلك أن تقل حروفه، وتكثر معانيه. ومنه قولهم: رب إشارة أبلغ من لفظ. ليس أن الإشارة تبين ما لا يبينه الكلام، وتبلغ ما يقصر عنه اللسان، ولكنها إذا قامت مقام اللفظ، وسدت مسد الكلام، كانت أبلغ، لقلة مؤونتها وخفة محملها. قال أبرويز لكاتبه: "اجمع الكثير مما تريد من المعنى، في القليل مما تقول".

وفي تاج العروس نرى تعريف التوقيع بأنه  يكون ردا مقتضبا من السلطان أو ولي الأمر على رسالة ما وقد يكتب في ظهر الرسالة أو تحتها ومن ذلك أن أحدهم رفع إلى السلطان أو الوالي شكاة فكتب تحت الكتاب أو على ظهره: (ينظر في أمر هذا ويستوفى لهذا حقه) ورفع إلى جعفر بن يحيى كتاب يشتكى فيه بعامل فكتب على ظهره: (يا هذا قد قل شاكروك وكثر شاكوك فإما عدلت وإلا اعتزلت) ورفع إلى الصاحب بن عباد كتاب فيه أن إنسانا هلك وترك يتيما وأموالا جليلة لا تصلح لليتيم وقصد الكتب إغراء الصاحب بأخذها فوقع الصاحب فيه: (الهالك رحمه الله، واليتيم أصلحه الله، والمال أثمره الله، والساعي لعنه الله).

إن كلام الأقدمين ينطبق على حالتنا المعاصرة فالرسائل عبر الهاتف المحمول مدفوعة الأجر، ومحدودة بالحروف، وكلما زادت الحروف عن الكم المسموح به للرسالة فإن ذلك يتطلب مالا أكثر، ومن ثم كانت الحاجة إلى النظام البرقي والتفكير في اختيار الكلمات المعبرة عن المراد؛ فاحتاج الناس إلى إعمال عقولهم فالإيجاز بطبيعة الحال أصعب من التطويل.

والوسيط الذي كانت تكتب عليه مثل هذه الرسائل القصيرة تمثل في المراسلات الخطية التي ما زالت قائمة إلى الآن، ولكن الوسيط الآن اختلف فأصبحت رسائل المحمول تحمل قدرا من هذا الاختزال ولا تعدم أن تجد فيها تهنئة ظريفة أو اعتذارات لطيفة أو مداعبات خفيفة ...إلخ وأذكر في هذا المقام أن أحدهم طالت فترة انقطاعه عني فكتب رسالة إلىَّ يهنئني بالعيد نصها: (من محب مقصر إلى عزيز كريم، كل عام أنت بخير)

وأتصفح بعض المواقع لأجد الخدمة المجانية للرسائل الإلكترونية في الشبكة الإسلامية مثلاً، وبها بعض الرسائل المختزلة الجميلة ومبوبة تبويبا يحتوي على شعر وحكم وأمثال، وتهنئة زواج والأخوة والصحبة والعتاب والمناسبات السعيدة ومحبة النبي ونصرته وتهنئة العيد والعلم والأدب والأخلاق والوعظ والتذكير وتهنئة المولود ....إلخ.

ويلحظ في هذا التبويب أن ثمة اهتمامات عكستها الظروف الراهنة التي يعيشها الناس كمحبة النبي ونصرته كموضوع يتجدد دائما خاصة في ظل قضية الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. وأختار من هذه الرسائل عدة أنماط كالحديث النبوي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، أو كالدعاء في مناسبة زواج على سبيل التهنئة (اللهم جملها بحليتين .. قلب رحيم وعقل حكيم)، أو التهنئة بالعيد مثلا نقرأ (قبل الغَيْر وزحمة السَيْر - أقول كل عام وأنت بخير)، وتأتي رسائل (sms) لتصحح خطأ ما، كالخطأ اللغوي مثلا كأن نقرأ هذه الرسالة: (لا تقل فلان منبهر .... وقل فلان مبهور)، هذا ناهيك عن الرسائل التي تأتي للدعاية التجارية، أو للمشاركة في احتجاجات سياسية ...إلخ هذه الأهداف التي تؤدى بلغة مكثفة لتؤدي أهدافا محددة.

 أما ثقافة البريد الإلكتروني والشات ففضلا عن قضائه لكثير من الضروريات التي نحتاجها إلا أنه يعطي مساحة أوسع للتدوين والإبداع، ولكنها تعكس طبيعة التطور في المحادثات عبر هذه الوسائل التي أدت إلى تطور اللغة في مفرداتها وتراكيبها حتى في لغة الخطاب العادي فكثيرا ما نسمع (cancel) في خطابات الناس بمعنى تجاهل، بل ربما نقرأ أبجديات وكتابات لم نألفها ولم نتعلمها، فالبعض يسهل عليه أن يكتب بالإنجليزية، فيكتب العربي بالحروف الإنجليزية بل يجعل الأرقام دالة على الحروف فمثلا حرف (ع) يكتب (3)، والخاء يكتب (5)، والحاء يكتب (7)، والهمزة تكتب (2) والطاء تكتب (6)، فترى مثلا كلمة مثل (محمد) مكتوبة في محادثة (mo7mmad). وهذا بطبيعة الحال جديد على اللغة، وظواهر تحتاج إلى جمع ودراسة بحيث نقف على مدى تطور اللغة في عصر العولمة؛ فاللغة هي وعاء الفكر .ولكن على أية حال فما نقلناه بالإضافة إلى إثارته لهذا الموضوع المهم نزر قليل، إلا أنه يوقفنا على أن الرسائل الإلكترونية بأنواعها السالفة الذكر تمثل ضحكا ولعبا وجدا وحبا، كما يقولون.