الأدب والإنسان في زمن النهايات
ملف من إعداد: محمد سعيد الريحاني*
في مائدة مستديرة حول موضوع "الأدب والإنسان في زمن النهايات" شارك فيها نخبة من المبدعين والنقاد العرب وأدارها الكاتب والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني في أفق بلورة رؤى أدبية تساهم في فهم الراهن الأدبي وتنمية سبل كفيلة بتطويره.
وقد تركزت مداخلات الأساتذة المشاركين حول المحاور الستة التالية:
1- ما جدوى الكتابة والقراءة في زمننا المعاصر وماذا تبقى من قيمة الإنسان قارئا وكاتبا؟
2- ما بين الإنسان المستمع في ثقافة السمع التقليدية والإنسان المشاهد في الثقافة الحديثة، ثقافة العين والصورة والحقيقة ، ما محل القراءة والإنسان القارئ؟
3- في زمن الموت والنهايات (نهاية الفلسفة، نهاية الإيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الإنسان...)، هل تعتقد بمقولة "موت المؤلف" في التنظير النقدي الأدبي؟
4- التخلي عن التأزيم والتباكي والعرقلة والتشاؤم والسوداوية هي السمة المميزة للأدب النامي عالميا منذ أواخر القرن الماضي مقابل العودة إلى البراءة والتفاؤل والحب والحلم والحرية. أين تموقع الإنتاج الإبداعي العربي الجديد؟
5- عرف الإبداع السردي تطورا مستمرا لصورة "الإنسان" في مرآة العمل الإبداعي ابتداء من "البطل الأسطوري" ومرورا ب"البطل المنكسر" ووصولا ب"الشخصية العادية". أي المرايا أصدق لعكس صورة الإنسان العربي؟
6- في زمن العولمة والقرية الكوكبية والتقارب بين الشعوب، هل تعتقد أن هذا التقارب يتم لفائدة الإنسان أم على حسابه؟
المحور الأول
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: ما جدوى الكتابة والقراءة في زمننا هذا وماذا تبقى من قيمة الإنسان قارئا وكاتبا؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: أرى سؤالك يحمل هما غائرا إلى آمال عريضة محبطة في أعماقك، ربما لك بعض الحق في ذلك، العالم اليوم كثير الصخب، متعدد المشاكل، من كل الأنواع. شريحة واسعة من الناس لا تجد في الواقع فسحة تستوعب إمكاناتها، تحقق طموحاتها عليها، على صعيد أعلى، أمتنا تتعرض لتجريح مادي وثقافي سنوات طويلة، التقصير هنا وهناك ليس من الخارج دائما، من الداخل أراه أكثر، على صعيد عموم العالم تواجه الناس مشاكل تصحر وتلوث بيئة وتدمير مناطق خضراء بقياسات كارثية وازدياد هوة بين الفقراء والأغنياء مصحوبا بازدياد نزعات مادية تقربنا إلى حالة حيونة وغيره مما يترك آثارا موجعة في النفس خاصة المرهفة. في مثل هذا الحال طبيعي أن نتساءل، بل ويتسرب شك إلينا، عن جدوى القراءة والكتابة، وقيمة الإنسان قارئا وكاتبا. هذا جد طبيعي، المدن والبنايات صارت تبنى لا حسب مقاسات الإنسان وإمكاناته، كما كانت سابقا في المدن العربية والإغريقية القديمة، بل حسب استيعابها لحركة جمهور وحافلات وأهداف دولة، جعل ذلك البعض يشعر غربة حتى في مدينته دع عنك المدن الغريبة. والدي زارني مرة في مدينة أوربية، دهش لعرض الشارع، قال: ما هذا؟ لازم نأخذ تاكسي لنعبر الشارع، الواحد لا يجد نفسه هنا!
قبل التوغل بعيدا في الرد علينا الانتباه كي لا يجرنا السؤال، أي سؤال، إلى مصادر صياغته، يلون ردنا بلونه، يفرض علينا ردا خافيا في ثناياه، فنكون غير موضوعيين، غير منصفين للواقع الحقيقي، الذي هو غير الواقع المفترض، الذي تنطلق منه تصوراتنا وأسئلتنا، بل وأجوبتنا أيضا. نقيض هذا يقال انتهى الواقع الموضوعي. الواقع الذاتي فقط هو المؤثر حاليا. لكل واقع حقائقه. الحقائق تتصارع. الغلبة للقوي. والقوي يكون قويا بمعرفته. في رأيي إن المعرفة التي تتيح صنع سلاح مثلا يُتغلب به على خصم لا قيمة لها إذا لم تمتزج بمعرفة كيف ومتى ولماذا يُستخدم في الأقل. إذا لم يُحسن الصنع قد ينقلب السلاح وبالا على مستخدمه، كما حدث في العراق مثلا. المعرفة التقنية أو امتلاك التقنية غير كافية إذن لامتلك وأدافع عن حقيقتي، هويتي، ذاتي، ضروري لها المنطق الذي به أصون المعرفة وأحقق أهدافي. وصلنا مستوى ثالثا من التفكير: إذا كان يهمني فقط تحقيق أهدافي فإن ذلك قد يجرني على المدى البعيد إلى تدميرها إذا لم أحسب لكل شئ حسابه، خذ الضفدعة التي ظلت تشرب الماء لتصبح كبيرة كالبقرة فإذا بها تنفجر، نشاطات المعامل والشركات التي تنتج ولا تفكر بالبيئة، النتيجة ثقب طبقة الأوزون، صلع يغزو رأس أمنا الأرض، نشاطات الساسة الذين يفكرون بمصالح بلدانهم فقط ويحتقرون غيرهم، النتيجة تزايد العنف، تحول العالم إلى مكان للعذاب بدل أن يكون فردوسا حقيقيا، وهذا ممكن، بتضافر الجهود والتفاهم، السويد قطعت شوطا في هذا المضمار، بنظرتها الانسانية إلى شعبها وإلى شعوب العالم في آن، ربما ليس على درجة بارزة لتعقد الوضع العالمي، لكنها تفعل ما في الوسع لملائمة المطلوب بالطموح. ضروري أن تكون المعرفة ذات بعد إنساني لجعل هذا العالم طيبا، قد تقول ابتعدنا عن موضوعنا، لا بأس، التحليق ضروري لرؤية موضع صحيحا، التعامل مع العالم يعتمد على مقدار ونوعية معرفتك، من هنا تأتي اهمية القراءة والكتابة وجدواهما، من هنا تبقى للكتّاب قيمة كبيرة، ليس كل الكتاب طبعا، هؤلاء أنواع، كما في أي صنف، الكاتب الذي يساعد في التعامل مع العالم بطريقة تجعله أفضل والقارئ أفضل غير الكاتب الذي يعرض الجانب المظلم منه ومن الآخرين. هكذا الكتب، هكذا القراء، هؤلاء يبنون العالم أيضا بما قرأوا وعرفوا، ليس بما موجود فقط أمامهم تبنى تصوراتهم، سلوكهم، نتائجه. إذن للكتاب التنويري والنبيل والمتفائل عن معرفة لا عن غفلة أفضلية، مَن يختاره يقرأ على النهج الصحيح.
عالمنا الآن مكون من عوالم صغيرة، لكل منا عالمه الخاص دون أن نعلم ربما، بالقراءة نتعلم كيف نؤثث عالمنا بأفكار وتصورات ومشاعر وسلوك بطريقة مريحة لنا ولغيرنا، البعض يرمي الكتاب جانبا ويكتفي بالتلفزيون والمقهى، هذا شأنه، الكتاب يعلم التفكير أي الأصالة، غيره يعلم التقليد أي العيش في الظل، هكذا يختار كل منا الحياة التي يريد، ويكون الإنسان الذي يريد، ليست كل الطيور نسورا.
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: من البديهي أن سكان العالم ككل ليسوا كتابا ولا قراء.. ومن البديهي أيضا أن من يقرأ ويكتب، ليس مبدعا بالتأكيد.. لذلك فالمبدع ـ ككاتب ـ كائن مغاير تماما، له حساسية خاصة، يعيش بمزاج منفرد، وله علاقة خاصة مع العالم.. يستمع إلى كل هؤلاء الذين يقرؤون أو لا يقرؤون، الذين يكتبون أو لا يكتبون.. ليعبر في لحظات "توتر/ارتخاء" عن بعض من حالاتهم، وعن شيء من غموض الكون. إن العالم في حاجة دائما إلى من يشاكسه عبر الرصد والقبض والتفتيت والتمزيق.. إنه لا يستقيم إلا إذا أحس بأن أناسا ممن "يثقلونه" يتعاملون معه كعاهرة تعرض نفسها في غنج، ولا تدري بأن من بين من يراها لا يشتهيها دائما بل قد يشتمها. إن الإنسان المبدع أو الكاتب المبدع كالناظر إلى العاهرة: ظاهره يعطي الانطباع بأنه سـ.. وداخله يريد فهمها.
أظن أن فعل القراءة هو الذي يجعل منا أرقى كائنات الكون روحانية، وفعل الكتابة ما يجعلنا أناسا بالفعل. إن القراءة ليست مجرد بَحْلَقَةٍ بصرية في السواد على البياض، والكتابة ليست تشتيتا عشوائيا للسواد على البياض... بل هما فعلان يعليان قيمة الإنسان المفكر ويجعلانه سيد التجريد.
مداخلة الناقد المغربي محمد الإحسايني: السؤال عن جدوى القراءة والكتابة هو متعلق بـ فعل ملازم للكاتب – أي كاتب- والقراءة والكتابة ببساطة، من غير التعمق في دلالتهما، ترتبطان مبدئياً بعلاقة دياليكتيكية: الكتابة تبدو فعلاً ملازماً لا يتعدى عند ولادته، فاعله، أي الكاتب؛ لكن بعد أن تتم الإطلالة الموضوعية، تخرج من ملكية الكاتب، فتتعدى الكتابة ُ بوصفها فعلاً قابلا للتحريك إلى أهداف معينة، أوتنتكس، فترتد إلى لازميتها. وهذا يعني موتها في المهد، ما لم يطور الكاتب أدوات اتصاله بـ القارئ من مختلف أوجه التطوير. أما الفراءة؛ فهي نوع من التلقي، ولكنه يفرض على الكاتب قبل أن يفرض على المتلقي الذي يسعى الكاتب إلى إيجاده. ومن هنا؛ فكل كاتب ، هو بالضرورة قارئ؛ لكن من أي نوع؟ الجواب من فئة خاصة،لا يقرأ أي شيء قابل للقراءة أوغير قابل لها، ولا يستمع إلى أي شيء قابل للسماع أولا، ولا يصرف نظره إلى أي شيء يُرى...بل ينتقي حسب قناعة جمالية ومعرفية، ما يقرؤه، وما يسمعه، وما يراه، وما ينطبع في ذهنه من أفكار‘ فهو يتعالى على ثرثرة الصحف، وخطب الساسة المرهقة للأعصاب. ومع ذلك،هناك نوع من التلقي يُفرض على الكاتب فرضاً، فليس اختيارياً كسوابقه من التلقيات
ومن هنا،تبدو العلاقة الجدلية بين القراءة والكتابة في اللحظات الأولي التي يُفترض أنها هي المؤسسة لفعل القراءة والكتابة الصامت في مجمع الكلمات، وإن بدا أن تلك اللحظات يصعب رصدها.فحينما ينغمس الكاتب في فعل الكتابة، وحتى عندما لا يصل إلى هدف منشود،يجد أن ذلك عادة فاضلة،وأنه قد كتب شياً ما،وخرج من دائرة الكبت لحرية ما. بيد أن الكتابة ليست هي الرغبة أو بديلاً لها دائماً،فمعاناة الكاتب كثيراً ما ينساها المجتمع الذي يصدر الأحكام عن تهور،وسوء بصيرة. إن كان هناك من رغبة، وهذه مفارقة،فيصعب إرجاعها إلى قراءة النصوص وحدها، في تغافل عما يترسب في أعماق اللاشعور.ومن ثم، تأتي رغبة عارمة، تجتاح الكاتب،تدعوه من طرف خفيّ،إلى قراءة النصوص، والبحث عن فهمها تحت سلطان التأمل، أي حب الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها، وتهذيب الميول الجامحة الخارجة عن النطاق الإنساني، أو مواجهتها بالتضامن، والتحسيس بفداحتها بين الحين والآخر.
الخلاصة: الكتابة أو القراءة، من خلال ما تقدم، ظاهرتان ثقافيتان ملازمتان لوعي الإنسان ملازمة أدوات التعبير الأخرى المباشرة والضمنية.وهناك الطالب الجامعي الذي تنتهي عنده القراءة والكتابة، عند أوراق الامتحان والتخرج، فينزوي مثل أستاذه، في وظيفة ما، وفي السؤال عن الترقية ليس إلا، فيموت موتاً بطيئاً في منفى الأصقاع الباردة معتقداً أن مهمته انتهت عند الشهادة العليا، أوعند التقاعد. وإذا مااستمررنا في التوسيع في القراءة بدلالا تها الوظيفية،نجد أسبابها وغاياتها أخذت تتضاءل وتتفاوت في تلاشيها بين المد والجزر، وبشكل مخيف،إذ أخذت تفقد استقلالها في الغرب الذي يحتذى. ففي بلجيكا وغيرها من البلدان الأوربية، يمارس أصحاب الأسهم سلطتهم على التحرير، وعاد الصحافي المسكين إل عاداته القديمة التي لم تعد تجديه شيئاً، كما أشارت إلى ذلك صحيقة " بوليتيك" اكتوبر 2006، فإن الأمر لا يتعلق هذه المرة بـ" الحيوانات المرضى بالطاعون"؛ بل بوسائل الإعلام حيث يعاني التحرير فيها مالم يكن يعانيه من قبل، إلا نادراً من تأثير الضغوط الاقتصادية، والخسائر بالنسبة للمساهم الذي لم يكن له أدنى تخوف.وقد عرفت الصحافة البلجيكية في السنين الأخيرة عدة وفيات مدوية فأصيبت الجرائد الفرنكوفونية اليومية لليسار، واعتبرت سنة1999 سنة سوداء بفقدان نحو 120 وظيفة، إلا أن وسائل الإعلام الأخرى لوحظ تصاعد نفوذها فأخذت المشاريع الصحافية تتنامى إجابياً. هذا ما قد نظنه باقياً من قيمة الإنسان في دول أوروبا الغربية، قارئاً وكاتباً، أمام زحف وهيمنة وسائل السمع البصرية المتطورة بشكل هائل. فما هو القول في العالم الثالث، والدول النامية؟
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: الكتابة والقراءة هما فعل يأتيه الإنسان، بتلقائية أو بإصرار و التزام. هذا الفعل لابد له كغيره من الأفعال من شروط، يتعذر عليه أن يقوم من دونها. ومن هذه الشروط ما هو معرفي ثقافي، ومنها ما هو نفسي، ومنها ما هو اقتصادي اجتماعي..إلخ. والسؤال عن جدوى هذا الفعل اليوم لابد يقتضي استحضار ما حضي به قبل اليوم من جدوى، على سبيل المقارنة من جهة، وعلى سبيل تدارك الشق الثاني من السؤال المتمثل في" قيمة" الإنسان. أي هل كانت للإنسان قيمة كقارئ وكاتب فيما مضى؟ أم أنه كان فقط يتوهم هذه القيمة؟
من وجهة نظري كواحد من أفراد المجتمع العربي الإسلامي،أرى أن المدرسة لقنتني أن للإنسان ،عالما كان أو متعلما، أهمية وستظل هذه الأهمية، إلا في حال ما إذا غادر هذا المجتمع عباءة قيمه المؤسسة له، لأن كل مجتمع تبنيه قيمه. والإنسان قارئا أو كاتبا هو بالضرورة أحد الشقين، إما عالم بفن أو متعلم لفن ما. ليبقى السؤال : أي علم نتعلم؟ و أي عالم نريد؟ وقياسا عليه، ماذا نقرأ؟ و أي مقروء نروج له؟
أما عن قيمة الإنسان فإننا، فيما أرى، إلى الآن لم نوجد "كإنسان" لكي نوجد كذوات ذات" قيمة" . فكما أنك تجد في دولة من الدول العربية استقلالا ممنوحا، ودستورا ممنوحا، ووزارة ممنوحة، و امتيازا ممنوحا... تجد"إنسانا" ممنوحا، وقيمة ممنوحة...في الغرب الإنسانية أبدعت نفسها بإبداعها لمفهوم وتصور خاص عن نفسها، انطلاقا من استحضارها في مجال الإدراك لعموم ما يشكل قضيتها الحياتية. فما كان للتاريخ إلا أن يعين على ترسيخ مجموع تصورات الكائن ومفاهيمه في علاقته بذاته و بالآخر. فأضحى الحل هنا والآن، ومبدعه هذا الإنسان الذي يمشي فوق الأرض. فالفكر يتجدد والأزمات تتخطى.. والإنسان يبدع نفسه، لأنه معني بكل شيء، ولأنه حدد أبعاد قضاياه الوجودية وانصرف إليها...
أما نحن فإلى الآن ندرس البطولة ونحن خارج مدار البطولة، ندعي العلم ونحن نشيد معوقاته، ندرس مبادئ الاتكال والقطيعية باسم الحرية والإخاء... وننسج الأسطورة لكي نحفل بمصالحة مع عظيم تناقضاتنا . فكيف بمن هو جائع يمكن أن يقرأ؟ وكيف بمن هو مشرد أن يقرأ؟ وكيف بمن تقصف مدرسته أن يقرأ؟ وكيف بمن لم يرى المدرسة قط أن يقرأ؟ وماذا سيقرأ؟ إذا كان أصلا وجودك ككاتب محتاج إلى بطاقة اعتراف وكتابك محتاج إلى رخصة للصدور..محتاج لبطاقة الحزب لكي يستفيد من الدعم الحكومي، ومحتاج لوسطاء وظروف..وكواليس ليرى النور ! لذلك فأنا لا أرى من قيمة للإنسان في وضعنا قارئا أو كاتبا إلا في طابور النضال، لصياغة الوجود وصياغة المعنى. ولا أرى أن القراءة والكتابة ذات جدوى إذا لم تنهمك في ذلك.
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: أميل الى اعتبار ملفوظ كلمة إنساني كمدخل لفهم هذا الحضور الفاعل والحقيقي للكاتب ولصوته المتفرد الراوي أو الشاعر أو التشكيلي أو السينمائي..هذا المبدع الفنان الذي يجعل الكتابة وسيطا للتعبير عن لحظات الألم والفرح والرغبة والحلم..، إذ عبر هذه القيمة المعرفية تنفتح مسافات للتفكير، ومن خلال صوته الذي ينكتب ويقول..كل ذلك فقط من أجل هذه الرغبة المسكونة لفن القول ولفن الكتابة، وأعتبر أن فعل الكتابة والتعبير يمكننا أن نوسع فجوة الإنساني بالمقارنة مع باقي فصائل الموجودات...
المحور الثاني
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: ما بين الإنسان المستمع في ثقافة السمع التقليدية والإنسان المشاهد في الثقافة الحديثة، ثقافة العين والصورة والحقيقة ، ما محل القراءة والإنسان القارئ؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: أفهم من سؤالك أنك ترى أن الانسان تحول من عهد الاستماع بالراديو إلى عهد الفرجة على التلفزيون. هذا واقع. موضوع الحقيقة آخر، هذه لها مؤسسات تصوغها وتسوقها لعالم تتصارع فيه حقائق متنوعة مختلفة، كيف؟ هذا موضوع خاص لا نناقشه هنا لسعته. لكن ما محل صمت القراءة والانسان القارئ في هذا العالم الصاخب المليء بالصوت واللون فهاذا سؤال حيوي يفرض وجوده. التفكير العميق عملية كيمياوية تدور في رأس الإنسان، حاجة بيولوجية لا يستطيع الإنسان المعاصر الاستغناء عنها، لذلك لن يستغني عن الكتاب، إذ يحفز إمكانيته على تطوير واستثمار أفكاره لصالحه بنسبة عالية أكثر مما يوفره له منها التلفزيون والراديو، لذلك سوف يظل المفكر يلجأ إليه. ارتفاع مستوى المعيشة، ما يسير العالم إليه، لصالح هذه الميزة، تميزنا عن حيوان مستسلم لقدره، المفكر يروض قدره. ليس مصادفة يقرأ الشخص في السويد مثلا بمعدل كتاب واحد في الأسبوع، رغم وجود آلاف القنوات السمعية والبصرية حوله، هذا مؤشر حاسم لحال تسأل عنه.
لاحظ أيضا ان القراءة اليوم لم تعد مقتصرة على الامساك بكتاب والتمدد في الفراش والسباحة مع الخيال كما كنا نفعل سابقا في الخمسينات والستينات وبعدهما، القراءة الآن أصبحت أكثر ديناميكية وسعة وفعالية من السابق، بالكومبيوتر يمكنك وضع مئات الكتب تحت يديك خلال دقائق، كتب كنت تسمع بها فقط فإذا بها بلمسة تفتح أمامك، تتصفح جريدة واحدة خلال اليوم سابقا الآن كل الجرائد أمامك. الواحد منا يحيا اليوم عدة حيوات في آن. نحن محظوظون جدا بهذا. أنا أغبط نفسي لأني أعيش في هذا العصر الذي يشهد ثورة معلومات وتكنولوجيا. غدا ينتشر الكومبيوتر الكفي وتحمل معك مكتبة كاملة اينما ذهبت، هذا مكسب كبير للإنسان عموما. بمتناول إنسان الغد معلومات أوفر مما كان في الأمس، هكذا يفهم غيره من البشر ويتواصل أسرع وأفضل، فتخف حدة الحساسية بين الشعوب، تنقرض الكراهية أخيرا من هذا الكوكب المخلوق للحب. هذه الوفرة من المعلومات والعروض تتسابق من ذاتها على اكتساب عقل القارئ. نوعية القارئ تلعب دورا في نحت مصيره. القراء أنواع ايضا. هناك المفكر، هناك المستهلك فقط، وهناك الكسول، إلخ، البقاء للأصلح قانون الغاب سوف يفرض نفسه في مجال العقول أيضا، لكن بلطف هذه المرة..
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: أظن أن الإنسان الكائن الوحيد، إن لم نقل الأوحد الذي يستعمل حواسه وعقله وقلبه وحدسه... حَدَّ الاستنزاف في كثير من الأحيان، بل يدمرها من أجل المتعة والبحث عن الحقيقة... فكم نستعمل أعيننا للملاحظة والقراءة ونعرضها للخطر من أجل بلوغ "حقيقة ما" نؤمن بجدوى البحث عنها.
حقيقة، إن الزمن الذي نعيشه قد خلق للإنسان منظومة رهيبة لاستهلاك وإنتاج الصورة، وأصبح الإنسان بموجبها مممزقا تائها تتقاذفه المنتوجات وتغويه موجات التجديد فيها، بل تحول إلى عبد للتكنولوجيات البصرية الحديثة: تُعَدِّلُ سلوكاته وتوجهه وتصنع ذوقه... فالعالم اليوم، ينتج من الصور ما يتجاوز حدود الاستهلاك بكثير... إن الكثير من هذه المنتوجات لا يخاطب العقل، بل يخاطب اللذة والشهوة والغريزة، أي يتجه إلى اللاشعور بالدرجة الأولى. قد نستطيع اليوم أن نتحدث عن إنسان الصورة، هذا الإنسان الذي أصبح حيِّزُ القراءة لديه يتقلص باستمرار؛ فإذا كان المشكل مطروحا لدى المجتمعات الراسخة في تقاليد القراءة فأين نحن من ذلك؟ هناك بيوت لا تتوفر ولو على كتاب واحد، ولو كان الكتاب المقدس! نحن في حاجة إلى استعادة مجموعة من الأسئلة المتعلقة بسوسيولوجيا القراءة تبحث في طرق القراءة الجديدة وفي أشياء أخرى.
إن الطفل اليوم تنشئه الفضائيات العابرة للبيوت والمتجاوزة للرقابات، فالبيت تحول إلى ما يشبه الأستوديو: مجهز بكاميرا محمولة، وهاتف مُصَوِّر، وآلة فوتوغرافية، وحاسوب يُمَكِّنُ من التحكم في المواد المصورة ومعالجتها وتركيبها... باختصار، في كل بيت حديث منظومة لإنتاج واستهلاك الصورة بسهولة.. وهو الشيء الذي يقلل من وقت الفراغ لدى الإنسان، ويجعل عاداته تتغير، وتمر تدريجيا من طغيان القراءة والكتابة إلى المشاهدة واستهلاك الصورة. إن المشكل الحقيقي الذي يطرحه استهلاك الصور، يتعلق بأهمية الفرز والغربلة مقارنة بمشكل وفرة المواد المصورة (أفلام وثائقية، أفلام روائية، مواد سمعية بصرية متنوعة...).. إن الاستفادة منها بوعي، لا تتأتى إلا بدمج تحليل الوثيقة السمعية البصرية في المنظومة التربوية، فالتعليم عندنا يشكو من هيمنة الأساليب التقليدية على مناهجه، وغلبة التلقين ضدا على التحليل.. في حين أن الفرد اليوم مطالب بتعليمه وفق الوسائل المتوفرة لديه بكثرة، وأهمها التلفزيون. لماذا لا نجعل منه وسيلة ناجعة للتربية ونحول الإنسان المتفرج من وضع سلبي إلى وضع إيجابي عن طريق قراءة الصورة واستعمالها استعمالات علمية؟ وبالتالي نراوغ الإيديولوجيين الجدد: صناع الصورة والمتحكمين في الإنسان المعاصر بواسطتها.. فأكبر دليل على ذلك التحكم، جعل منتوجاتها شعبية أو تكاد تكون! لكل شخص جهاز على مقاس جيبه: المهم ألا يفلت!
مداخلة الناقد المغربي محمد الإحسايني: الصورة قديمة قدم الإنسان، ترجع إلى عهود بدائية، تكشف عن حضارات مندثرة، كما تبين لنا النقوش المرسومة في أحجار الكهوف والمعابد، فقد كان الإنسان البدائي يعبد الأشكال المجسمة، فترك بصماته عليها قبل أن يهتدي إلى الأديان السماوية، وقبل الانتقال إلى الأيقونات، ودون أن أستعرض مراحل تطور الصورة؛ إلى الفنون التشكيلية امتداداً من اليونان والفراعنة إلى اليوم ، فدعنا ننطلق إلى الأمس القريب جداً، يوم كانت السينما والجرائد والمجلات تأخذ بلب المشاهد والقارئ. كانت السينما تمثل النموذج المحتذى، النموذج الحضاري في الحلم الإنساني: قليل من المعارف و كثير من الخيال، صورت فظائع الحروب، والمجاعات، وكفاح الشعوب،لعبت، وداعبت المشاعر الغريزية، ما شاء الله. كان للسينما شأن عظيم، وكان الصوت فيها يواكب الصورة، والجمهور مشدود إلى الشاشة، يواكب الأخبار السياسية، والنشاطات الرسمية والرياضية، لكن على مدي أسبوع، إلى جانب الإعلانات التجارية، ومقتطفات ترفيهية كرتونية، لصالح مجتمع مصغر من الطبقات المتوسطة، وما دونها، في ندرة واستحالة تقاليد مسرحية بورجوازية.فثقا فة السمع والعين كانتا داماً حاضرتين ، بشكل، أو بآخر، لكنهما لم تتطورا بشكلهما الحالي، السريع، بجعل العالم عبارة عن قرية مصغرة،وجعل الإنسان يحصل على معلومات هامة ، وهو في بيته، وقديزاول الدراسة عن طريق الوسائل السمعية البصرية، محاولاً أن ينبذ النظام الورقي الذي يراه غير صالح بعد.غير أن الصورة لم تكن تحيل بين الإنسان والقراءة، مثل اليوم، فبقدر ما كان مشاهداً، بقدر ما هو قارئ من الطراز الأول بدافع حب الاستطلاع. وإذا كانت القراءة فيما سبق نوعاً من التأمل والاستيعاب الفلسفي للعالم الخارجي والانطباع الداخلي، فإن حوافز الإنسان قد ضعفت أمام التطور الإلكتروني في السمع البصري،وأصبحت تتجه إلى وسائل إنتاج جديدة في إدارة المعامل والشركات، فلم يبق من الإنسان سوى ظله، ويعني ذلك موت كثير من النظريات الفلسفية المرتبطة بالإنسان، الإنسان بدون تاريخ، وسوف يجيء يومٌ يقال فيه: كان إنسان سانت- بوف هناك! فالمشاهد التلفيزيونية لم تترك للإنسان العادي خيار القراءة، أمام مشاهدة أكثر من ألف قناة! بينما يوم الإنسان 24 ساعة فقط ، فماذا عن ساعات الأكل، وقضاء الحاجة، والنوم، ومراجعة نفسه، وغيره؟ هكذا يلتهم هذا التطور حقوقه، وحقوق الآخرين،معزولاً في جزيرة منفردة، منذ الطفولة، مروراً بالمراهقة، والشباب، والرجولة، والكهولة، فالشيخوخة...وها نحن في يوم لا يحفظ الطفل حتى جدول الضرب، وأحرى أن يزاول المتطابقات الشهيرة، أو لوغاريثم! فمسألة الإتقان والدراية، متروكان للحاسوب، وظلّ ُ الإنسان الباقي، هو ذلك الشبح الذي تتحكم في مصيره الآلات الإلكترونية في الحروب التدميرية غالباً أو مغلوباً.هو ذلك الشبح الذي يقتل ملايين الناس في لحظة معينة،وهويتناول قهوته الصباحية في انتشاء جنوني!
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: عندما ظهرت القهوة في المجتمع العربي انشغل الفقهاء بالجدل حول ما إذا كانت حلالا أم حراما. حينما ظهر جهاز "الفيديو" انشغل أطر الفكر و التربية بالتساؤل حول إيجابياته وسلبياته، بل إنه عد أداة للاستعمار والغزو ! واليوم يتم التساؤل حول قيم العولمة و أخطار الصورة. هذا الانشغال بالمستجد و باستمرار على مستوى الساحة العربية، وإن كان من جهة له دلالة ذات طابع صحي و إيجابي تشهد بمدى فاعلية أجهزة الأمة الحمائية، إلا أنه من جهة أخرى وإلى الآن ، ظل - رغم التحول من مركزية الفقيه إلى مركزية أصحاب التخصصات على اختلافها- انشغالا متأخرا بقضايا حيوية، لسنا الفاعلين في إبداع مقاييسها بقدر ما نحن مجرد منفعلين نتلاغى بخصوصها، وبعد برهة من النقاش و اللغو ننسحب مثل العربة خلف الحمار.
هذا واقع حالنا، فمفهوم الإنسان الذي قلت عنه إنه مفهوم ممنوح، كان في وقت ممنوحا فقط من طرف الدولة الوطنية بجهازها القيادي، وفق ما يخدم مصالحها. لكن اليوم أضحت الدولة تابعة، و أصبحت السياسات التعليمية تتدخل في تشكيلها وصياغتها لوبيات غربية، و مفهوم الإنسان أصبح بدوره يمنح بشكل مغاير. ونحن مجرد صفحة للكتابة، مجرد أجهزة عصبية للترويض في إسطبلات منتشرة في ربوع الخارطة العربية. الصورة والصوت هي مجرد وسائل لتحقيق الغاية. والغريب أن الرأسمال العربي المستلب بدوره انخرط في عولمة القيم الغربية بدل عولمة قيمه التي يقف الآن على حافة فقدانها !
إن الكتابة كما هي عند ابن عربي وغيره من المتصوفة تتسع كمفهوم لتشمل العالم بأسره، فالوجود كتاب خط بإرادة خالق، وما على الإنسان إلا أن يتدبر ويعتبر من خلال استقراء عالم الشهادة. في الإسلام يمكن أن نقول إن الإنسان يكتب أفعاله و أقواله، داخل إحداثيتي الزمان والمكان في لحظة الوعي، لأنه يبدع حياته ويكتبها من خلال مراجع معينة. من هنا فالصوت قد يكون أداة للكتابة الجمالية، كما أن اللون والشكل والحركة... والصورة عموما أداة لاشك لها محمولاتها الدلالية.. إنها كتابة، فالملعب قد يكون صفحة للكتابة الجسدية في اعتبار المتفرجين واللاعبين في مباراة كرة القدم. كما أن الإنسان حامل الشهادة هو صفحة معبأة بالمهارات وهكذا دواليك.. لقد اختلف مفهوم الكتابة وتعدد، ولكن مبدأي الدال والمدلول مازالا مرتبطين بالمنتج المعاصر. لذلك فأنا أقترح مناقشة الأمر في مستوى أبعد، من خلال معرفة: كيف يمكن أن نتعامل مع المعنى الجديد المبثوث في الأشكال الكتابية الجديدة؟ أما القراءة والكتابة فحتما ستبقى ولكن بأشكال و ألوان !
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: يبدو أن السؤال المعدل من سؤالكم يظل هو النحن، ماذا أعددنا في دولنا الثالثية والتي تعاني من ويلات انكساراتها المتوالية، ماذا أعددنا لهذا الجيل من طبيعة المتلقي، وهذا الجيل الذي نرغب أن يحمل هم الأسئلة، وحتى أكون واضحا..نحن لا زلنا نتلمس خطواتنا الأولى في هذا العالم المسكون بثورة الصورة، فأسلافنا أدركوا وعرفوا كيف يخططون لمسارات حيواتهم وإبداعاتهم بشكل جعلت بعض الأعمال ترتبط بمرجعيات وفضاءات صورية من تاريخ حافل بإشراقات، لكننا نحن اليوم لا زلنا سجناء لمنطق مغلوط، وحتى نظامنا التربوي لا يشجع على خلق هذا الوليد القادر على التشبع بهذه القيم..
المحور الثالث
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: في زمن الموت والنهايات (نهاية الفلسفة، نهاية الإيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الإنسان...)، هل تعتقد بمقولة "موت المؤلف" في التنظير النقدي الأدبي؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: اعتقد إن هذا الموت الذي تفضلت بالكلام عنه صادر عن ثقافات مختلفة لكن تقليدية، أكانت صادرة عن يسار أو يمين، ارتكزت غالبا على ما هو غير واقعي، انفجار المعلومات ينهي تأثيرها الفتان السابق، ظهر الواقع بصورته الحقيقية، باعتباره مرجعا وفاحصا للأفكار، هكذا يمكن قلب صياغتك وجعلها: نعم ماتت الفلسفات القديمة ونبحث الآن عن فلسفة جديدة، هذا يحدث تلقائيا. في جلسات الغرام لم يعد الأذكياء يتكلمون عن القمر بقدر كلامهم في مشاكل العالم، بالطبع مشاكلهم الخاصة في قلبها، هذا ما يجب أن يكون، التفكير لا يجب أن ينسلخ عن بيئته، نعم ماتت الإيديوليوجيا، التي قسمت العالم إلى فقراء وأغنياء، إلى سود وبيض، إلى رجال ونساء، نبحث عن افكار جديدة ترتكز عليها صياغات تساعد في حل مشاكل الحاضر والمستقبل، لذلك ظهرت أحزاب البيئة مثلا، أحزاب جديدة قائمة على البرنامج السياسي الآني، متغيرة أيضا مع تغير الواقع. الفلسفة دخلت في صميم حياتنا، هذا حسن لأنه ينزل الفلسفة من عليائها حيث الانسان تصورات ومُثل إلى ساحة هو موجود عليها فعلا.
الفلسفة لا تموت، لأنها حاجة حياتية، هي ليست ترفا أو مقضية للوقت. الفلسفة أداة لفهم الواقع وتغييره أيضا، نحن نتفلسف ترى، فلماذا تموت، يموت منها ما هو غير صالح للبقاء، الفلسفة تساعدنا أيضا في تدعيم وتزيين عالمنا بالأفكار الجميلة، في ترشيد حياتنا اليومية لإعادتها إلى صواب إذا جنحت بعيدا. الفلسفة نشاط عقلي واسع، لتنظيم نشاط البدن والمجتمع وتفسير الكون. منها ظهر العلم، والآن يندغم بها من جديد، ليجعل حلوله لا من أجل الانتاج فقط بل ومن أجل ترشيده أيضا. من غير فلسفة نعود القهقرى إلى الحالة الحيوانية. من غيرها نحن على فوهة بركان كالحة.
كما إن التأريخ لم ينته، أراه كل يوم يبدأ، والأنسان الحقيقي لم ينته، بل أراه يبدأ وجوده الحقيقي، حين ينتهي من التخلص من أوهامه، يكتشف ذاته الحقيقية. العالم الآن على منعطف حاد، من هنا ظهرت هذه التصورات عن النهايات وسواها. حين انتهت الحرب الباردة تصور المفكرون: خلص، وصل التأريخ غايته. انتصر القطب الواحد وسوف ترتب كل الأمور بهيئة هرم. لكن ها نحن نرى حربا باردة جديدة على الأفق، دع عنك هل يمكن استقامة عود الحضارة على قطب واحد؟ أم أنها تحتاج عدة أقطاب؟ ليقعد قدرها كما يجب. ما هي هذه الأقطاب؟ وهل لأمتنا قدرة على أن تكون إحداها، نعم؟ لا؟ لماذا؟ أرض منطقتنا ما زالت بكر تماما، المشكلة أننا لا نزرعها حقا بما نحتاج بل نستورد أطعمتنا الحقيقية والفكرية جاهزة، من هنا الترهل الذي نعاني منه. المشكلة الأكبر في منطقتنا لماذا لا نستطيع التأسيس لأفكارنا ولمؤسساتنا الحقيقية كما يجب. كانت الأمور تجري بشكل عشوائي سابقا، الآن بدأت تنتظم؟ اعتقد إن الكلام عن النهايات رجعي فعلا، يراد لنا به أن نسلم أنفسنا لأقدارنا لا أن نحاول السيطرة عليها وتذليلها لمصلحتنا ومستقبلنا.
قد يكون ذلك الكلام مناسبا لأولئك الجالسين في مغاطسهم المعطرة مسترخين لكن الأهل هنا على أرض هذه المنطقة كانوا وما زالوا مكتوين بالحاجة لكل شئ، في حاجة لتغيير حياتهم إلى الأفضل، كيف يمكن تحقيق هذا من غير كلام في الأقل، والكلام أيا كان فحواه فلسفة، أنا لا أجد فرقا بين الفلسفة الأكاديمية التي تدرس في المعاهد ولعلها ماتت حقا والفلسفة الحقيقية التي نتكلم فيها في أي مكان للوصول إلى حقيقة. ثمة فرق بين فلسفة تصور لك السراب بحرا وفلسفة تكشف لك ما السراب وماذا وراءه هناك وأين البحر وماذا في أعماقه. ما قيل عن النهايات لهم. ولنا أن نقول كلمتنا. والمؤلف هنا باعتباره ملهما بالحقائق، باحثا عنها، يظل أكثر حياة من كل معاصريه. لعلك تذكر كلمة همنغواي قبيل انتحاره: كلهم يتقاعدون إلاّ الكاتب.
من ناحية فنية أنكر الروائي الفرنسي غرييه ما قيل عن حكاية موت المؤلف والرواية الجديدة. قال ذلك الكلام خدعة، سببها رولان بارت. وهو نفسه شارك في صياغتها. قال أيضا لم يكتب يوماً سوى عن نفسه.
وأنا برهان أقول: المؤلف الحقيقي هو الوجود، لن يكف عن الوجود، والمؤلف الكاتب هو صوت الوجود.
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: أتهيب أحيانا كثيرة من إعلان هذه النهايات لكونها تحمل في ثناياها بنيات تحيل على حياتها، ففي الوقت الذي نعلن فيه موت أو نهاية الفلسفة، نستشف العودة القوية لها، ولو كنا دائما في حضنها، فالإنسان لا يمكن أن يتخلى عن التنظيم كأبسط خاصية فيه... بالفعل نرى أن العالم اليوم لم ينتج فلاسفة نسقيين كبار، ولكنه يفكر ويقبض على الشظايا بفلسفات متباينة.
وفي الوقت الذي نعلن فيه موت الإيديولوجيا، نجد أنفسنا نحيا بها شئنا أم أبينا في ظل انتشار أكثرها تعقيدا... أما التاريخ، فكل مجموعة صغرى تتشدد اليوم أكثر من أي وقت مضى في الاحتفاء بعلاماتها التاريخية الكبرى... أما حين نعلن موت الإنسان، فهذا يعني أن العالم انتقل إلى مرحلة متدهورة جدا على المستوى القيمي، وعلى مستوى توليد المعنى من ذاته ومن الطبيعة التي ينتمي إليها بكل ورطة، بغض النظر عما تعنيه المقولة من انتصار للعلوم الإنسانية. فمنذ أن أعلن نيتشه ـ كأول فيلسوف جريء في القول بعد سقراط ـ موت الله للدلالة على الإكثار من التفكير في الميتافيزيقا و"قتل الإنسان".. نلاحظ العودة القوية اليوم للغيب والدين... إن الإشكالية (القتل والإحياء) تعود إلى أن الإنسان كائن معقد يعيش بين الطبيعة والثقافة: الإنسان المتردد، الإنسان المستنجد، الإنسان العاشق، الإنسان الممل... فما دام العالم يقدم لنا نفسه دائما كطلسم بفعل غموضه الدائم، لن ينفك الإنسان عن القتل والإحياء كسمتين مميزتين لتفكيره، فالإنسان يقتل أفكارا ويحيي أخرى حسب حاجاته، وبحسب الطوارئ.. إن الطارئ لحظة فكرية مهمة في الإنسان.
أما بالنسبة لمصطلح "موت المؤلف"، فنجد مثلا أن الفيلسوف ميشيل فوكو، قد عنى به في العمق قتل التاريخ الشخصي للمؤلف نظرا لتداخلهما بالنسبة للمتلقي.. ودَعَا إلى إحياء التاريخ الفكري له، باعتبار أن الكثيرين قد ذهبوا إلى ربط فكره ـ في كثير من الأحيان بشخصه وبانتكاساته وشذوذه ـ الذي بحث في كبوات الذات الغربية (شذوذ، حمق، سجن...)؛ لذلك فموت المؤلف، تعني حياة الكِتَاب، وحياة القارئ... وما يعنيني من كل هذا أن يبقى الفكر حيا وألا يُبْلى ويَبْلى...
عندما أحاول تدبر كل تلك المفاهيم في محيطنا الثقافي المغربي، ألاحظ أننا لم نصل بالفعل لا إلى زمن الإيديولوجيا ولا إلى زمن المؤلف ولا إلى زمن الفلسفة ولا إلى... حتى نقتلها... يجب أن نفكر في إحيائها وبعد ذلك نتحدث عن موتها.
مداخلة الناقد المغربي محمد الاحسايني: دعني أجيب عن واحدة من تلك النهايات، لأن باقي النهايات أثارت نقاشاً مستفيضاً بعد انتفاضة 1968 ، فقد سبقتها نهايات أخرى أثيرت في ندوة البنيوية والماركسية بفرنسا محاولة التمييز بين الإنسان، وعلوم الطبيعة. ومن النقاد من اعتبر إذذاك أن الإنسانية ليست سوى مجرد وهم.وهو إعلان يندرج في الاستباق المبكر .
ومع أن كل موت يتبعه بعث، فقد ظل راسخاً في أذهان النقاد الكبار نص محاضرة ألقاها ميشال فوكو 1969 تحت عنوان:" من هو المؤلف؟ "، أحدث ذلك رجة في المجتمع الفلسفي بفرنسا. جاءت هذه المحاضرة بعد مقال لـ رولان بارث. إنهما نصان تسارع طلاب الآداب إلى تصويرهما ونسخهما فبل أن يكونا جاهزين. وبذلك، تم الإعلان عن ميلاد قانون النظرية الأدبية للأعوام السبعينيات : مابعد البنيوية أو ما بعد التفكيكية.ناهض كلاهما التاريخ الأدبي اللانسوني) غوستاف لانسون( الميني على الطريقة الفرنسية، نهاية القرن19 فهما خصمان لهيمنة تاريخ الدراسات الأدبية، بل كانا يقاومان الأدب الذي يهتم بدراسة علاقة النص بمؤلفه، أو باعتباره تعبيراً عنه تبعاً لمذهب يختصر في العناوين المعتادة للأطروحات الأدبية:س، الرجل والعمل الأدبي. كان سانت – بوف يبجث في الإنتاج الأدبي مركزاً على شخصية مؤلفه، فكانت جهوده ومنهجه التاريخي تنصب على المؤلف غافلاً عن دلالات النص.وكانت جهوده، وهو الطبيب الذي تحول إلى ناقد،منصرفة إلى بيوغرافيا المؤلف...
وهكذا نبذ فوكو ورولان بارت كثيراً من المفاهيم المؤسسة لثقافة القرن 19 .رأى فوكو أن هيمنة الإنسان في القرن 18 وبالخصوص في القرن 19 كظاهرة فلسفية يقف عائقاً دون دراسة العلوم المرتبطة بالإنسان ذاته. فالنزعة الإنسانية بمثابة عائق ابستيمولجي . كان ذلك موتاً مبكراً للمؤلف بشكل ما. " ما جدوى من يتكلم ". باختصار،الميل إلى الأدب الطلائعي، أدب بيكيت، وبلانشو .إذن السير نحو غياب المؤلف ، بغية تحييده. وطل فوكو مصطبغا بـ بلانشوية داعياً إلى التخلص من ثيمة "من يعبر". إنها نظرية أدبية نزعتـُها، غالب الأحيان تؤسس على محمولات الأدب مقولتها المبنية على اختيارات مميزة، أو تواطؤات لحظية بانتمائها الى الطليعة الأدبية: تلك كانت المقدمتان لموت المؤلف (المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى) .
إذا كان الجواب عن سؤالكم: نعم ، فذلك أيضاً هو نهاية الإيديولوجيا نهاية حقيقية، والتحول إلى اقتصاد السوق، والعولمة، واختصار العالم في قرية صغيرة عن طريق وسائل الاتصال السمعية البصرية، وهو ما حدث فعلاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسيادة المؤلف الواحد: القطب الأحادي.ولهذا النظام مزاياه ومساوئه.فالمكانة المخصصة للمؤلف متنازع فيها، وهي من القضايا التي لم يحسم فيها.فإذا ما تحدثنا عن المؤلف،وجوده أوغيابه، لن تغيب عن أذهاننا صورته، حتى عندما نمارس نظرية الأدب كمعطى مباشرفي النقد، وحيث يهيمن شرط وجود النقد: التاريخ، التعليم، ممارسة النقد الأدبي، نقد النقد، تاريخ الأفكار النقدية إلخ...فنعود للمؤلف حتماً. الأجدر بنا أن نتساءل: هل مات المثقف؟
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: يجب الانتباه أولا إلى أن هذا الذي تسميه"زمن الموت والنهايات" هو ليس إلا مطمح يبغي خطاب و إيديولوجية ما تكريسه داخل شروط وسياقات معينة. فمثلا نهاية الفلسفة حينما قال بها ماركس كان يقصد- من بين ما يقصد- نهاية الفلسفة التي بلغت أوجها في شخص المثالية الألمانية كما تبلورت مع "هيجل" . وبالتالي ضرورة موت هذا النسق من التفلسف ليعوض بالمادية الجدلية كما صاغ أسسها. كما أن نهاية الفلسفة كان يقصد بها أيضا، ضرورة الانتقال من طور الارتباط بالتنظير الفكري و القناعة الداخلية إلى طور الممارسة العملية الثورية. وبالتالي نهاية الفلسفة من خلال استثمارها كوسيلة لتغيير العالم.
العكس تماما يتضح لو أننا أخدنا مفهوم النهاية عند"هايدغر"أو عند "فيتجنشتاين".إذ أن الأول يرفع شعار موت الفلسفة باعتبار المآلات التي انتهت إليها في ظل مركزية العقل مند سقراط و أرسطو، وبالتالي فهو يتجاوز كل ما هو عقلي وكل منتجات العقل لكي يترهبن في كهوف المرحلة ما قبل السقراطية التي كانت الذات(الدازين) تعيش في حميمية مع موضوعها من خلال الشعري و الأسطوري والطبيعي والخرافي، وبالتالي فهو ينتصر لكل هذه الأمور.أما فتجنشتاين( وللإشارة فالفلاسفة الثلاث جميعهم ألمان)،فنهاية الفلسفة عنده تمثلت في الشعار الذي أنهى به أطروحته العقلانية الوحيدة قبل أن يعارضها و يهدم كل مضامينها المنطقية الأداتية في إخلاص لشعار الصمت. مادام ليس ممكنا قول غير ما قيل، ومادام التفلسف متعذر بغير اللغة العادية...
فخطاب نهاية الفلسفة مثلا يجب أن يعقبه شعار موت الفيلسوف فعليا في هذا السياق الأخير. لكننا نلاحظ كيف تناول هايدغر من خلال كتابه"الوجود والزمن" مجمل مواضيع الأنساق الفلسفية التقليدية كوحدات للتفكير. صحيح أنه أفرغها من محتواها ليعوضه بمحتوى آخر، غير أنه على كل حال أعلن موت تفلسف و استبدله بآخر. عين الأمر حصل مع فيتجنشتاين الذي يشاع أن مرحلته العبثية الشعرية التي كان شعارها الصمت لم تكن إلا تدشينا لأشكال مغايرة من التفلسف مهدت لعبثية وعدمية ديريدا و أصحابه في ما يعرف بمدرسة ما بعد الحداثة.
لذلك كله فنهاية الفلسفة هو إعلان عن ميلاد فلسفة بديلة، ونهاية الايدولوجيا هو إعلان عن ميلاد إيديولوجيا بديلة... وموت الإنسان هو إعلان عن ميلاد إنسان آخر مشروط و مطلوب وفق الظروف الجديدة والتعديلات الطارئة في خارطة الاعتبارات. فهل موت المؤلف إذن إعلان عن ميلاد مؤلف جديد؟
صحيح أن للنص كينونته الخاصة التي تعكس بصمة كاتب في زمان ومكان ما.هذا النص الآن بين أيدينا يقوم كشاهد على بصمة كاتب ما.. كان، ولكنه الآن منهمك في لحظة مغايرة من لحظات تطوره. لذلك فالنص بنيويا معزول بشكل أو بآخر عن الكاتب، لكنه حتما يتضمن بصمته. إنه قبر ترقد فيه معان ودلالات كثيرة أراد لها الكاتب أن تؤبد ..هكذا.. في النص. فكيف بالمؤلف يموت يا ترى؟ ! بدوري أطرح السؤال مستنكرا.
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: هذه المقولة تبدو مؤطرة لوضعنا الثقافي العربي المأزوم، لكنها لا تصلح لمشاهد ثقافية أخرى حيث للكاتب وضعا اعتباريا، وللمفكر مكانة خاصة في تأطير الصرح الحضاري لأمته، والفنان هو المرجع الجمالي لهذه التعبيرات الكلية، ودور النشر هناك يعتبر الطفل فيها سيد الأسياد في خططها التأليفية..
المحور الرابع
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: التخلي عن التأزيم والتباكي والعرقلة والتشاؤم والسوداوية هي السمة المميزة للأدب النامي عالميا منذ أواخر القرن الماضي مقابل العودة إلى البراءة والتفاؤل والحب والحلم والحرية. أين تموقع الإنتاج الإبداعي العربي الجديد؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: هذا سؤال رائع حقا لأن الرد عليه قد يكشف لا فقط ما في عمق أدبنا العربي المعاصر بل وما في عمق مجتمعاتنا العربية المعاصرة، باختصار اقول أنا قرف من الكثير مما أقرأ بالعربية، بضمن ذلك ما يصدر ممَن يسمون جهلا بكبار، ليس فقط لخلوه من معنى أو تناقضه مع نفسه أو انهزاميته أو صراخه غالبا، بل وأيضا لما يتسم به من اصطناع وحذلقة وتأدب مفتعل وتزويق بعيد عن روح الفن الحقيقي، التي هي بساطة وصدق وحيوية ونزعة مستقبلية. لذلك قلت يوما بمقابلة معي تسعون بالمائة مما ينشر اليوم يُرمى غدا بعيدا. حتى نجيب محفوظ الذي تربينا عليه لم يعد يرضي تطلعاتي، كتب متأثرا بافلام ستديوهات، نعم حصر الكون في حارة، إنما كان الأفضل لو أخذنا بأدبه إلى الكون، نعم أيضا الفنان يكتب عما في الظل، لكن أروع اللوحات رسمت بعرض ما في الظل والنور في آن، كما فعل الانطباعيون مثلا. للكتاب العرب الجدد التخلي عن معطف محفوظ. الحاجة لأدب انساني له روح وثابة متجددة، أدب يصدم قليلا، لكن ليس فعل هواة الكتابة اليوم بالجنس والشذوذ والذاتية الضيقة، كأنهم يكشفون لنا وجه القمر الذي لا نراه، تقصير هذا ناجم عن إن معظم الكتبة كتبوا ليس لأنهم خلقوا لها، بل لمصادفة وضعت القلم والورقة في يدهم، عبروا عن أزماتهم الخاصة أكثر من تعبيرهم عن العالم، في الأقل الذي حولهم. نعم الذات لا تتجزء من الكل، الأدب في جوهره ذاتي. لكن المسألة كيف تعي هذه الذات، كيف تصوغ الوعي. إذا بخربشات وتسويد صفحات فقط كأطفال انتهى الموضوع حال كبروا. لكن، إذا فعلت ذلك ضمن عملية تعرف ومعرفة متصلة متواصلة، وجعلت تعبيرك عن ذلك عاليا، يبقى المنتج ويكون له جدوى. نحتاج أدبا يوجه الانظار إلى العقل، إلى المسائل المعضلية التي نعاني منها، لا إلى المعدة أو ما تحت الحزام. نعم كل شئ جزء من الحياة التي نعيشها، لكن الحياة مستويات، الاهتمام بالنوعية قبل الكم أفضل، حمدا لتطور بدأ يتسرب إلينا من ثورة المعلومات، هامش الحرية الآن أكبر، سابقا لو فتحت فمك بكلمة عن العدالة والتطور صاحوا هذا شيوعي، بعثي، امسكوه، علقوه. الآن جوائز العرب تفرض على الكتاب أن يكون ابداعهم أصيلا، انسانيا، هذا تقدم كبير، العقول تتنور، مِن فوق هذه المرة يأتي التغيير، هذا يمنح أملا جديدا في أن يكون مشروعا رصينا، لسوف يؤازره أهل العقل من كل الطبقات ويجعله تنويريا بحق. الطبقات السفلى سابقا جعلت أغلب مشاريع التغيير ثورية، لم ترفدها بتصحيح، لذلك انتكست، لم تكن ثورية حقيقية. الآن يمكنك الكتابة عما شئت ضمن حدود اللياقة العقلية واللفظية طبعا، هذا مفرح، يبشر بمستقبل أفضل لمنطقتنا.
الحياة بطبيعتها متجددة، وإذا لم يعبر الأدب عن ذلك ما كان أدبا. سألني صحافي أثناء فيلم عرضه التلفزيون السويدي: لماذا تكتب؟ ماذا تريد من أدبك؟ كان سؤاله مفاجئا، طرحه عليّ دون اتفاق مسبق بيننا، الكاميرا تسجل، قلت في الحال: أن يساعد أدبي الناس ليتقاربوا، ليكونوا أكبر، أن يشعروا جمال الحياة أعمق. ما قلته برنامج في الحقيقة، كامن في لا وعيي، يوجه ما اكتبه. أيضا سألتني نخبة من مثقفينا في مالمو: ما المهم في الأدب برأيك؟ قلت: في هذا الحال يتكلم الروائي عن ضرورة المضمون الجيد والشكل المتين، علاقة التفصيل بالكل، إلى آخره، وينسى غالبا عنصرا هاما، لا نراه على سطح العمل الأدبي، إنه الروح التي يكتب بها العمل. روح يائسة أو مشتتة أو صغيرة أو كاذبة لا يمكن أن تكتب أدبا جيدا في اعتقادي الراسخ. يجب أن تكون روح الكاتب كونية عن اندغام بالكون، متحدية عن معرفة واسعة، صادقة عن رغبة ملحة في تجاوز الألم لتحترق في نفس الوقت من أجل العمل، لا من أجل الكسب، الأعمال المكتوبة من أجل مكافأة أو جائزة بائسة. التي تتحدى كل الجوائز هي التي تفوز أخيرا بجائزة عن جدارة. كل المهن يمكن أن يفكر ممارسها في الاستفادة منها، إلاّ الكتابة، الكتابة فعل استشهادي مجدٍ، قلت هذا قبل أربعين عاما على غلاف روايتي (ضباب في الظهيرة) وأعيده اليوم. الكتابة ألق الروح، طبعا صعب على الواحد أن لا يكون كاذبا هذا اليوم، من هنا فرادة كاتب وقيمته، إذا انطفأ الألق بكذب، أو قمع، أو غيره، هزلت الكتابة وكُسفت.
السؤال هنا كيف يخلق مجتمع أو بيت هكذا روح، ما في أدبنا في مجتمعنا، والعكس صحيح، حين نتغير إلى الأفضل نكون أفضل ويكون أدبنا أفضل، هي معادلة غير هندسية طبعا.
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: كم مرة يساهم الحزن في توازننا.. وكم مرة نحتاج إلى لحظة فرح تجعلنا نحب الحياة ونقبل عليها بكل شغف! إن الإنسان كائن حزين دائما، وكائن فرح دوما: هذا الإنسان "الفرح/الحزين" هو الإنسان!
إن الإنسان لا ينفك يعيش الحياة دون انشطار بين الألم واللذة، بين الحلم والسوداوية.. إنه يظل دائم التأقلم مع المتناقضات.. يعيش الحياة بكل تَّأحْلُمٍ.. والتأحلم حالة بين الألم واللذة، وبين الحياة والموت.. حالة الإنسان المتأقلم الحالم المتألم.. حالة بين التأمل الحالم، والحلم المتألم.. تأقلم مع امتدادات الخيال الجامح، وتكمشات النفس المحبطة الوحيدة المتألمة.. إن هذه الحالة هي ما تلخصه العبارة الدارجة المغربية المعروفة"أَحْ"، إنها مونيم يتكون من فونمين ينطقها الإنسان في أقصى لحظات اللذة، وفي أقصى لحظات الألم... فالإنسان اليوم، وأكثر مما مضى، إنسان مُتَأَحْلِمٌ نظرا للظروف المتغيرة من حوله بسرعة، فلم يعد العرس عرسا، ولم يعد المأتم مأتما.. إذ للكل طقوس احتفالية! فكما نلجأ لخدمات المُزَيِّنَةِ في العرس، نلجأ لخدمات النَّوَّاحَة في المأتم... وغيرها من مظاهر الإعداد الأخرى والطقوس الاحتفالية.. ألا يودع الناس العزاب الميتين بالزغاريد إلى القبر؟ ونودع كل ميت بعد تطهيره وسكب ماء الزَّهر على جثته وعلى قبره؟!
مداخلة الناقد المغربي محمد الإحسايني: هذا السؤال، يصعب الإجابة عليه مالم تكن هناك إحصائيات جاهزة ومتابعات نقدية مستمرة غيرمتقطعة. وإذا كانت السمات التي أشرتم إليها هي السمات المميزة للأدب النامي أواخر القرن الماضي، ففي نظري أنه يصعب حصر السمات المميزة في مختلف الأجناس الأدبية، التي واكبتها مناهج تحديثية ضخمة عن طريق المثاقفة بالنسبة للعالم العربي: مثلاً هناك مازوخية وهجاء الذات هي السمة الغالبة على بعض الأعمال السردية بعد الهزيمة، وقد دخل العالم العربي والإسلامي اليوم في سلسلة من الهزائم والانتكاسات بعد احتلال العراق وأفغانستان، لم يشهد التاريخ أفظع منها، حتى عدما هجم التتار والمغول على بغداد.ولكن من المفروض أن تكون الانتكاسات هي الوقود لتحريك الإبداعات الأدبية، كما حدث في عهد الانحطاط ، وحتى عند انهزام ألمانيا النازية ونظام موسولوني. يصعب القطع الآن بتموقع الأدب العربي الجديد، هل وراء المتاريس؟ وراء الأسلاك الشائكة؟وراء خيم التشرد والضياع في المخيمات الفلسطينية؟ وانتظار الإبادة البشرية في كل وقت؟ من الذي يحق له أن يتكلم؟ ومن يحق له أن يصنف، يحكم ، ويدلنا على النموذج المحتذى؟
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: الإبداع العربي فيما أرى إبداع متهافت و متزلف ومتمسح بأهداب الغرب وغير مرتبط بالقضايا الحقيقية لأن الإنسان غير حر. أو ربما لأن الإنسان مستلب ويعيش على شاطئ قضاياه يتشمس ويتلهى، و يتهاطل ادعاء كلما اشتدت قيلولة الافتعال.إنه إبداع يتزلف للآخر، قد يطبخ وفق المطلوب والمرغوب فيه بحثا عن جائزة من الجوائز، أو تكريم دبلوماسي في واحدة من القاعات المصفحة. إن أكبر أزمتنا هي أزمة الإبداع. فنحن إلى الآن لم نبدع حلمنا وطموحنا، لم نشد مدينتنا الفاضلة بعد. لكي نقنع هؤلاء القراء الهاربين منا بجدوى الحلم والطموح والفعل.
أما الإبداع العربي غير المتهافت وغير المتزلف وغير المتمسح والمرتبط بالقضايا الحقيقية، فهو إبداع غير مشجع وهو إلى الآن مخنوق، ومبعد وغير مرغوب فيه . بغض النظر أكان إبداعا يعكس البراءة و التفاؤل أم العرقلة والتشاؤم. وهذا لا يعني بالمطلق أن كل إبداع مقصي ومضيق عليه هو إبداع متميز.
و للإشارة فلابد من التمييز بين البراءة والتفاؤل والحب والحلم وبين الإنتاج الإبداعي ألعدمي الذي ينساب مغرقا في التجريد والمثالية، متخذا من الذات وتعاليها اللغوي أداته الحادة لجز رقبة المشكل وخلق المصالحة والمهادنة .
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: إذا رغبنا في موقعته، يجب أن نؤكد أولا أن فرضية ذم الآخر ونقده هي أساسا نقد وجلد للذات، وتمحيصها، ولعل الإبداع العربي الجديد، لا يختلف عن هذه النظرة بحكم أن جل الإنتاجات الإبداعية في عودتها لليومي، والذات التي تبوح بألامها وانكسارتها، هذا الفعل يحتفظ بأحقيته المعرفية الكبيرة إذا ما تولدت لدينا فرضية أمل صغيرة في أن يتبوأ أدبنا مكانته الطبيعية والمطلوبة بل المفروضة..
المحور الخامس
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: عرف الإبداع السردي تطورا مستمرا لصورة "الإنسان" في مرآة العمل الإبداعي ابتداء من "البطل الأسطوري" ومرورا بـ "البطل المنكسر" ووصولا بـ "الشخصية العادية". أي المرايا أصدق لعكس صورة الإنسان العربي؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: لا يوجد مفهوم محدد واضح تحت تسمية "الانسان العربي".. لو قلتَ الانسان العربي المثقف أمكنني الخوض في الموضوع، لو قلت الانسان العربي الحاكم، رجل الشارع، رب البيت، غيره، يمكن في هذا الحال مقاربة الموضوع، بالعودة إلى انماطك: اسطوري، منكسر، عادي، أفهم أنك تقسم التأريخ في ثلاث مراحل، الأولى مرحلة تجسيد الفهم والأمل، الثانية مرحلة مواجهة وانكسار، الثالثة مرحلة تسليم بالأمر الواقع وعادية، فأي المراحل يمر بها إنسان منطقتنا حاليا؟ معلوم، الإبداع يصور مرحلة أيضا على خلفية الحدث السردي والشخصيات، هكذا يبدو سؤالك معقولا لي. الرد عليه يتطلب رؤية طبعا للوضع العربي، لعلها بالتقصي تجمع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي تحت ضوء واحد، لا بأس، هذه الأطراف متداخلة، مترابطة عضويا، تفكك لتبسيط الموضوع، قد يجمعها فنان في لوحة رمزية، لإنسان مرتبك مثلا، يتساءل المشاهد: لماذا هو مرتبك؟ هل أضاع شيئا؟ هل ارتكب جرما؟ هل هو جائع؟ لا يستطيع أن يشبع نفسه؟ لماذا لا يستطيع؟ لأنه مدقع؟ لماذا فقره؟ به عاهة؟ إلخ.. تساؤلات تتفرع رأينا من شخص واحد في جهات عديدة، كثيرا ما يقود التقصي إلى غير المتوقع، هكذا هو حال الأنسان العربي اليوم، إنه مأزوم، في مشكلة، متفاقمة لأسباب شخصية وسياسية، داخلية وخارجية، ليست أية جهة تتحمل كل الذنب عنها، ولا هي بريئة منها، ضمنا هو نفسه، له نصيب بتعقيد مشكلته وتأزم حاله. تجاوز هو نعم الحالات أو المراحل التي شخصتها بسؤالك، هو ليس عنترة، ولا الملوح، ولا الطنبوري، ولا علي بابا، هو يفكر ويسعى للخروج من تأزمه، ولا أحد يعينه، كأنه في فخ، لذللك يحتدم، يروض احتدامه بالعقل.
يبدو لي نحتاج مرآة من عدة وجوه لعكس صورة الانسان العربي اليوم. هو ليس بالبساطة التي يتصورها عنه مَن لا يعرفه جيدا. تبادلت في شارع كلاما عابرا مع صباغ احذية مصري، بهرني بضميره الحي وسعة معرفته وحسن خلقه، وتكلمت مع عجوز عراقي، لا يعرفني ولا أعرفه، أدهشني بشجاعته وأمله الكبير رغم يأس قاتل حوله. وتكلمت مع جندي سوري، تعال وتفرج على عظمة وطيبة انساننا العربي من غير مكابرة ولا تفخيم. وتكلمت مع مغاربة مشارقة أيضا معظمهم بقلوبهم. هؤلاء وغيرهم من عامة الشعب هم ملح الأرض الذي لا يفسد، ليس في ما أقوله رومانسية، عيني لا تغفل عن سوءات موجودة أيضا، لكن على جانب آخر، المثقف العربي أمس كان للحلم رأس نفيضة، اليوم بدأت كثرة منه تتخلى عن الحلم، تتواطأ، ربما انتقلنا من مرحلة الحلم إلى إعادة صياغة الواقع ومعه أنفسنا. الواقع يفرض شروطه ايضا. والإنسان العربي يدخل رحاب العصر الحديث حاملا أزمات عديدة معه، بها وبه يكون أقوى مما كان، اليأس ليس من طبع الإنسان، خاصة إنسان منطقتنا، بالصعوبات يتقسى، لكن لا ينكسر.
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: من الصعب جدا أن نرصد تحولات وتبدلات وتقلبات.. "البطل ـ الإنسان" العربي، خاصة من خلال اللغة العربية المكتوبة، فالرصيد السردي العربي الحديث، لم يصل بعد إلى شَمِّ نسمات الهواء العربي، ولم يصف حركات "البطل" العربي... الذي يمكن أن نعتبره بطلا بدون بطولة: لا أقصد هنا البطل الذي ينتصر، وإنما البطل الذي يتغير، والذي يكون له مسار مستقل يمكن من خلاله أن يتميز. فالبطل العربي ضاعت بطولته، وتكاد تتلاشى داخل عتمات الشفهي، ويكاد يصبح بطلا معزولا بفعل هجوم نماذج البطولة الغربية؛ إنه بطل بدون كاريزم لأن البطل يعرف كيف يصنع لنفسه كاريزمه الخاص الذي يجعله يستفيد من امتداد وشساعة البقعة الجغرافية التي يتحرك فيها، ويشاكس الثقافات التي يتاخمها، ويخلق لنفسه لغة تنتعش من اللهجات واللغات المحلية... وتُغْنِي لغة الكتابة لتخرجها من قمقمها، فلغة القصة مثلا هي لغة تحول البطل، وليست لغة لا تتيح للبطل التحول: تخنقه وتشد أنفاسه! فكم من بطل نراه في اللغة يُفْحِمُ، وكم من بطل في الواقع لا نراه في اللغة بطل! هذا بعض من حال البطل المغربي العربي: بطل يقود نفسه يوميا نحو المشنقة، ويُصْدِرُ العفو عن نفسه في آخر لحظة. بطل ينهض لكي يسقط... وكلما نهض بطل، سقط آخر، وكأننا في أولمبياد عربية مفتوحة للبحث عن بطل: أي بطل.
في لحظات تاريخية مهمة من أرشيف "البطل ـ الإنسان" العربي، انقسم الناس حول مفهوم البطل: طائفة تراه بطلا استثنائيا، وأخرى تراه عكس ذلك تماما!
إن البطل العربي بطل مفارق يعيش في الحدود القصوى للتناقض: بطل تسكنه المخدرات والدين والجنس والسياسة.. بطل يشرب الأسبرين حَدَّ الادمان من أجل أن يهدأ رأسه الدائر الدائخ باستمرار... بكل ينفق ميزانية دويلة من أجل أن يظل ما بين فخذيه "حيا"!.. بطل يمكن أن يتجرد من كل شهوات البطن والفرج ويسكن في الحفر والدهاليز... إنه بطل فاقت "أسطورته" دلائل اللغة!
مداخلة الناقد المغربي محمد الإحسايني: مرايا غرفة المصادفة الأرضية لمجيد طوبيا.
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: الإنسان في اعتباري وجد لحظة عبر عن نفسه، و تحقق لديه الإدراك بأهمية ذلك، فراح يعدد تفاصيل كينونته ببصمته الخاصة. ومساحة الإبداع هي المنضدة التي تتداخل على سطحها كل الثقافات لتتلاقح التجارب وتتكامل الرؤى. ونحن الآن من حيث الزمن في نقطة أكثر تقدما في هرم التاريخ في علاقتنا بالذين سبقونا في صحراء الإبداع. سواء أكان الإبداع جماعيا كما هو الأمر بخصوص أناشيد و أساطير القبائل البدائية أو كان الإبداع فرديا معلوم صاحبه أو غير ذلك. وربما كان الذين سيأتون بعدنا أكثر حظا و وفرة منى في ذلك.
غير أنه على مدار التطور المستمر لصورة الإنسان في مرآة عمله الإبداعي بين الأمم، كان لنا كأمة صورتنا الخاصة وبطلنا الملحمي الخاص، في أساطيرنا التي قد يعتور وجهها بعض الغبش اليوم، لكنها قائمة على كل حال في وجداننا و خيالنا. كما هي قائمة في مراجعنا الثقافية وذخائر متوننا... فما علينا إلا نفض الغبار عنها بشكل تقدمي. وليس مهما في رأيي أي نمط من أنماط الشخصية ينبغي أن يتناولها الإبداع، لأن مجال الحرية واسع أمام المبدع، كما أن الحرية هي الرداء الوحيد الذي يجب أن يستدفئ به الكاتب والمبدع دوما، حتى نتخطى ونتطور بعيدا عن القوالب السكونية التي ألفناها في حكم نظرتنا للأشياء و الأمور. إذ لا فرق بين بطل وبطل آخر، ولا فرق بين شخصية وشخصية أخرى، ولكن الفرق في النظرة وزاوية التناول، وحدود القضايا المتناولة...هل الطرح طرح نهضوي إمتاعي إيجابي أم تراه طرح عدمي عبثي سديمي ظلامي؟ وهكذا...
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: عندما يتخلص المبدع من الآخر، وعندما يترك أبطاله الخارقين الوهميين والذين ظلوا يأسرون الصورة بكاملها، عندما يشتم رائحة الأرض بصدق، عندما يؤطر رؤيته بحمولة إنسانية مفتوحة، حياته المرآة التي تقترب من ذاته، لا صورة مستوردة من حمولات إبداعية غريبة..عندما يفكر المبدع بهذا المنطق وعندما تحكمه هذه الرؤية حينها يمكن لصورة الإنسان العربي أن تحضر بجميع المرايا وبجميع ألوانها، لكنها في النهاية ستكون مرايا صادقة وحقيقية ومليئة بالإنسان داخلها..
المحور السادس
من المائدة المستديرة
تقديم محمد سعيد الريحاني للإشكال: في زمن العولمة والقرية الكوكبية والتقارب بين الشعوب، هل تعتقد أن هذا التقارب يتم لفائدة الإنسان أم على حسابه؟
مداخلة الروائي العراقي برهان الخطيب: العولمة ليست ابنة اليوم، الطوفان العظيم لم يغرق بلاد النهرين فقط، اغرق العالم كله، والفردوس الموعود لا لشعب معين، بل للأخيار من كل الشعوب، للعولمة إرهاصات ممتدة إلى حلم الإنسان الأول، ربما منذ طلع كلكامش إلى الأعالي بحثا عن سر الخلود. العولمة ليست ابتكارا وبدعة جاءت بها الشيوعية أو الرأسمالية، قبلهما الاسلام طمح لنشر رايته على كل أمصار الدنيا حتى حصل تعارض بين مُثله العليا والواقع الاقتصادي لأول بلد دخله خارج بيئته الأصلية، اسبانيا. تحريم الخمر غير ممكن في اوربا، جزء من اقتصادهم ونمط حياتهم قائم عليه، هكذا شعرت المنطقة باغتراب عن نفسها فطلبت جيرته لا ظله، لا تستطيع تغيير جغرافيتها، وبالتالي اقتصادها وحياتها، ذلك أحد الأسباب وهو مهم جدا لخروج العرب من اسبانيا، وكان الأساس أيضا في عدم قبول روسيا في القرن العاشر الميلادي تبني الإسلام ديانة. قيصر عموم روسيا في كييف آنذاك الملقب بكراسنويه سولنشكه شعر في غمرة الصراع الناشب في العالم آنذاك أن على روسيا الانتماء إلى إحدى الثقافات السائدة في ذلك العصر، أي الدخول في إحدى الديانات السماوية الموجودة حوله، أرسل إلى ممثليها ليستمع إليهم ويقرر الصالح منها لشعبه وبلده، استقبلهم حسب التسلسل، بعد استماعه لممثل اليهودية يقال أنه لم ينسجم معه منذ البداية وصرفه، حضر ممثل المسيحية واستمع إليه ايضا، أجّل اتخاذ القرار لحين الاستماع إلى ممثل الإسلام، دخل هذا إليه، استمع له بشغف، أعجبه تعدد الزوجات والصيام والحج والكثير من عادات الإسلام، أراد تبنيه في الحال، ثم توقف عند نقطتين، تحريم لحم الخنزير، والخمرة. ذلك غير ممكن لشعبه، حياتهم مستمرة عليهما. وقيل إن القيصر الحكيم أخبر ممثل الإسلام بأن في إمكانه الالتزام نفسه بكل فرائض الإسلام لكنه لا يستطيع فرض ذلك على شعبه، ذلك يهدد حكمه. طلب من الممثل أن يقوم مجتهدون بإعداد إسلام خاص لمنطقته، رفض ممثل الإسلام، فاضطر القيصر قبول ما تبقى له، إدخال روسيا في المسيحية، محتفظا بمحبة للأسلام. الفكرة هنا إن التقارب بين الناس على هذا الكوكب يحدث بحسنى وإكراه. كل الامبراطوريات سعت لفرش سيطرتها على المعمورة. الرومان أيضا، المغول، الألمان، الشيوعية، وأخيرا فيلم السهرة الأمريكي.
يمكن تسمية العولمة بما شئت من الألفاظ، تفاهم مثلا، توحد دول منطقة، مجالس تعاون، كلها بلورات تتكاثف، ضرورة يحتمها وجود البشر في منطقة ما، أوسع.. الكوكب الواحد، الآلهة توحدت، الرعية بقت، السؤال هو كيف تنجز هذه العولمة، وما هي نتائجها كما تفضلت، بالتفاهم والحسنى مع أطراف عديدة وتجنب مشاكل، أو بإخضاعها وإثارة المزيد منها، هكذا يمكنها أن تكون حلما طيبا أو كابوسا على البشر إذا لم يحسن أصحاب القرار في هذا العالم أداءهم، نعم، يمكن أن تكون نعمة حقيقية بتغلب الحكمة على النزعات العدوانية. هكذا يتم التقارب تدريجيا لفائدة أو دمار الإنسان حسب ما ستخلفه الثورة العلمية والمعلوماتية من تأثير على كل العقول النشطة في عالمنا، هي جميعا تساهم على المدى البعيد في صياغة مستقبلنا، في رفع وخفض هذا أو ذاك من ذوي الحيوية الفائقة إلى هذا الموقع المؤثر أو غيره. قد يكون خيارها غير موفق اليوم، لكن بالأخطاء تتعدل المسارات، إذن سوف تؤثر العقول الراجحة لصالح أن تكون العولمة في الاتجاه الصحيح.
مداخلة القاص المغربي محمد اشويكة: عندما أتأمل في محيطي المغربي، منظر امرأة أمية تجلس قرب ابنتها غير الأمية أمام شاشة حاسوب، وهي تضع على أذنيها سمّاعات، وتُمَوْضِعُ نفسها أمام "الويب كام" (Web Cam)، في حي بسيط بمدينة مغربية كبيرة أو صغيرة أو في جماعة صغيرة تقع بين المدينة والقرية (Village)، لتتحدث مع ابنتها أو عائلتها في مكان ما من العالم، أطرح على نفسي سربا من الأسئلة: هل من يصنع التقنية كمن يستعملها؟ هل من يجيد استعمالها كمن يسخرها الآخر له؟ هل تحقق منتوجات العولمة المساواة بهذا المعنى؟ هل وسائل التواصل قربت الناس أم جعلتهم غرباء ووحدانيين؟ هل من نتواصل معه بواسطة آلة أو تقنية ما، يعني أننا نتواصل معه بالفعل؟ هل من نُقَبِّلُهُ عبر "الويب كام" كمن نُقَبِّلُهُ شحما ولحما وروحا؟ هل العواطف الإلكترونية مجرد خدع ومصطلحات لإدامة الاستهلاك الإلكتروني ومواد التواصل؟ هل الإنسان الوحيد المنزوي في مكان افتراضي من العالم مرتبط بالفعل بالعالم عبر الشبكة التواصلية الكوكبية، أم أنه متصل ومنفصل في آن؟
أظن أن الإنسان اليوم متقارب ومتباعد في آن: متقارب بالمعنى التِّقْنَوِي للكلمة، ومتباعد بالمعنى الروحي للتقارب... إنني أفهم التقارب كعملية سيكولوجية عاطفية روحية اجتماعية ثقافية.. معقدة وشاملة. إن العالم اليوم يعيش فترة تخمة من حيث المعلومات، لكنها معلومات خالية من الروح: فهل أن تعرف أستراليا عبر "google" مثلا، يعادل التجول فيها ومعاشرة أهلها؟! أظن أن المعرفة من حيث هي تجميع للمعلومات، تظل معرفة جافة في غياب تواصل إنساني حميم بين الناس... ولعل الأدب يكتسب قيمته من هذه النقطة بالضبط، فهو يعلمنا كيف يحيا الناس، ويظل التواصل بواسطته أكثر جاذبية مهما استعصى الاتصال، لذلك يجب التفكير في انخراط الأدباء بجد في معمعان لعبة التواصل الكوكبية ليجعلوها ضاجة بالحياة وطازجة.
مداخلة الناقد المغربي محمد الإحسايني: منه ما يتم على حساب الإنسان إذا ا بلغ شوطاً من التقدم، وتمتع بمستوى من الدخل مرتفع مقابل مساهماته المؤهلاتية، وتمتعه بكل ضمانات المواطنة، فيحاسب عندئذ حكومته على كل قرش يصرف، بواسظة ممثلين حقيقيين، لآنه هو الذي يؤدي الضرائب والواجبات الوطنية الإجبارية ، وفي مجتمع تسودعدالته، وتتكافأ فرصه، ويقل فيه الفساد الإداري، وتنمحي فيه المحسوبية بواسطة تنفيذ ترسانةمن القوانين.أما في المجتمعات المتخلفة، فتتفاوت الاستفادة، على حسب التبعية والاستقلال عن أي تأثير خارجي .إذا كان البلد يملك مثل هذه المقومات، فإنه ولاشك سيستفيد من انتمائه للقرية الكوكبية، وإلا كان كمثل سائح بين القرى بدون مال ولا معرفة.
مداخلة القاص المغربي محمد زيتون: المعادلة صعبة ربما، لأننا مطالبون في رأيي بالالتحام والتكتل من أجل تحقيق مصالحنا الإنسانية التي نتقاطع فيها مع الآخرين. وبنفس الدرجة التلاحم والتكتل ضد ما لا يحقق كرامتنا و سلامتنا... لكن الخطورة تكمن في الشكل الذي أصبحنا ننساق به في دهاليز القضايا اليوم، إذ أصبح من أبناء جلدتنا من يبرر في إطار المصالحة والاعتدال و التقدم والحداثة... مصالح العدو،إنه التيار الذي أسميه بالتيار' العرب صهيوني'. والذي أضحى أداة مستلبة تقوم بدورها الدبلوماسي بالنيابة عن العدو في عقر الدار.
هذه الأداة تدعوه للتدخل في شؤوننا باسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحق تقرير المصير والانفصال والإرهاب وباسم دكتاتورية النظام الحاكم... وما إلى ذلك. مما يعتبر في رأيي استثمارا للطاقة والجهد بمنطق الرغبة الذاتية في الاستفراد بالامتيازات المادية والعينية وجر عربات التاريخ وفق سيناريو التأخر. هذه الأداة أيضا في الغالب ما تستثمر من طرف العدو لكي تحضا بشرف تمثيلنا، بل وقد تُفرض علينا كممثل وحيد ناطق باسمنا، وهذا هو الأخطر ضدا على الأجهزة التمثيلية التي انتخبتها مشاوراتنا الذاتية والتي يمكن أن تفرزها.
لذلك فمهم التعامل بذكاء مع الأحداث و المقترحات والاحتياط من الشعارات، ومراعاة المصالح والمفاسد التي من شأنها أن تترتب عن أي رد فعل، بل و المبادرة بالفعل بدل الاستمرار هكذا في خانة الرد فقط، لأن هناك قضايا حقيقية تستنفرنا صباح مساء، وهي في كثير من الأحيان تعنينا كإنسان بغض النظر عن الثقافة والدين والوطن... قد يبدو هذا المطمح مثاليا غير أن له مبرراته وله بوادره التي يجب استثمارها، لأن الإشعاع النووي خطر على الجميع، والصهيونية خطر على الجميع، والايدز خطر على الجميع، والتعاملات الربوية والقمار، والشدود... وهلم جرا. المهم هو أن نتحرك ليتحقق الوعي العالمي بخطورة ذلك.
مداخلة المسرحي المغربي أحمد الفطناسي: لا أظن أنه يتم على حساب الإنسان، بحكم أنني لا أؤمن بالقرية الكوكبية ولا بمفاهيم العولمة، ثمة تعبير بالغ الدلالة يحضر في الطابع الشفوي الذي يحكم علاقات جيل من شباب اليوم "نحن أطفال هذه الراية"..أثمة تعبير أبلغ من هذا، إن جميع وسائل الاتصال وهذه التكنولوجيا الرقمية، من خلال ما تحمله من دلالات اليوم، فإنها مع ذلك تقعد لهوية بعينها..ويمكن لأي مفكر أن ينصت لأغاني الموجة الجديدة من جيل كبير من شباب اليوم حتى يمكنه معرفة نمط تفكيرها وأحاسيسها ورؤيتها للعالم، ثمة هوية محمولة في كلامها وتعبيراتها، ومنطق تفكير، هوية أقرب الى الشوفينية، فلماذا نخاف إذن من الانمحاء في قرية هي مرسومة في خيالات منظريها..
*السيرة الذاتية لمعد الملف محمد سعيد الريحاني
محمد سعيد الريحاني ، باحث ومترجم وقاص مغربي من مواليد 23/12/1968، بمدينة القصر الكبير/المغرب، حاصل على شهادة الإجازة (ليسانس) في الأدب الإنجليزي، عضو منظمة "كتاب بلا حدود" الدولية، عضو الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، حائز على"جائزة ناجي النعمان للإبداع" لسنة 2005 عن مجموعته القصصية "هكذا تكلمت سيدة المقام الأخضر" ، حائز على "شهادة تكريم" من الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب ضمن التكريم السنوي الثالث لفاتح يناير من سنة2007 ويسهر حاليا على ترجمة خمسين (50) قاصة وقاصا مغربيا إلى اللغة الإنجليزية ضمن مشروعه الغدوي "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" الرامي إلى ثلاث غايات أولها التعريف بالقصة القصيرة المغربية عالميا؛ وثانيها التعبئة بين أوساط المبدعات والمبدعين المغاربة لجعل المغرب يحتل مكانته الأدبية كعاصمة للقصة القصيرة في المغرب العربي إلى جانب الجزائر عاصمة الرواية وتونس عاصمة الشعر؛ وثالثها التأسيس ل"مدرسة" مغربية قادمة للقصة القصيرة الغدوية عبر هدم آخر قلاع العتمة في الإبداع المغربي (الحلم والحب والحرية) واعتماد هده "الحاءات الثلاث" مادة للحكي المغربي الغدوي التي بدونها لا يكون الإبداع إبداعا. "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"مشروع ثلاثي الأجزاء على ثلاث سنوات: "أنطولوجيا الحلم المغربي" سنة 2006، "أنطولوجيا الحب" سنة 2007، و"أنطولوجيا الحرية" سنة 2008 .
له، قيد الإعداد للطبع، باللغة العربية:
"الأعمال الكاملة"، المجاميع القصصية، المجلد الأول
"الأعمال الكاملة"، الدراسات الإسمية
"دفاعا عن القراءة"، حول أشكال النهوض بفعل القراءة عربيا
"ما وراء الكتابة والقراءة"، شهادات في الإبداع والتلقي
"رهانات الأغنية العربية"، دراسة في واقع وآفاق الأغنية العربية
"ثقافة الحوار"، حوارات صحفية
"وراء كل عظيم أقزام"، مجموعة قصصية
"موت المؤلف"، مجموعة قصصية
"كتاب الأغاني"، مجموعة قصصية
"أحلام فتى لا ينام"، مجموعة قصصية
"حوار جيلين"، مجموعة قصصية مشتركة مع القاص المغربي إدريس الصغير
"بطاقة هوية"، سيرة ذاتية روائية