مفردات البيئة في القرآن

مفردات البيئة في القرآن

قراءة أولية

عصام أبو الدهب

[email protected]

توطئة

الكلمة القرآنية في سياقها مفعمة بدلالات تتجاوز عقول البشر بمحدوديتها، ولكنها في الوقت ذاته تعطيه معنى يتسق مع معارفهم وثقافتهم ومدى قدرتهم على الفهم، فهي لا تطوًّح الإنسان في دهاليز الغموض، ولا تقذف به في مستنقعات الإسفاف، ومن هنا كان أحد جوانب الإعجاز القرآني ـ كما أتصور ـ في أجلى معانيه.

فبينما الكلمة القرآنية قريبة المأخذ، سهلة الفهم، واضحة الدلالة، إلا أنها مع ذلك تحمل مكنونات تتفجر حيناً بعد حين كلما تقدمت البشرية في منهجية إدراكها، وطرق معارفها.

وللكلمة المفردة في القرآن مذاقها الخاص الذي يستحوذ على النفس؛ ويملك عليها فكرها بروعة البيان، كما أنها في سياقها تتحمل بدلالات جمة تقف العقول حائرة في استنكاهها والتوصل إلى معناها، وتدرك أنها كانت على بعد لحظة من التفكر والتدبر.

ولكن لماذا هذا الحديث عن الكلمة القرآنية؟!

 وما علاقة ذلك كله بالبيئة التي نحيا فيها؟!

وهل يمكن لرؤية ما في هذه القضية أن تعطينا شيئا نتكئ عليه في معاملتنا للبيئة من حولنا؟!

ونطرح هذا التساؤل بصورة أكثر اقتراباً لما نقصده، فكيف تَأتَى للقرآن الكريم، رغم كونه يستخدم كلمات قريبة جداً من البيئة المحيطة بالذين نزل فيهم، والتي يشاهدون مفرداتها بشكل دائم، بل بصورة شبه لحظية أمام أعينهم، حتى أنهم لا يكادون إلا أن يتعاملوا معها!!

فكيف استطاعت هذه الكلمات التي تعيش بين عينيه وفي عموم تعبيراته أن تحركه إلى الإيمان بأن هذا كلام ليس من كلام البشر، بل وتجعله يستقيم واقفاً مستعلياً أمام كل الموروثات والعادات والتقاليد البالية قابضاً بنواجذه القلبية والروحية والسلوكية الأخلاقية على  آيات هذا القرآن مستمتعاً متدبراً يقشعر بدنه خوفا وإجلالا، وينتفض عقله تفكراً وتدبرا، ويوجل قلبه قشعريرة وتذكراً، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن جحافلة الكفر وأئمة الطغيان وقفوا منه حائرين متخبطين، تؤمن قلوبهم وتصدق عقولهم وأفكارهم، وترتجف أسماعهم إيماناً بما يتسمعون إليه متسترين وراء جُدُر عاداتهم وتقاليدهم البالية ومصالحهم الشخصية، وتتشوف عيونهم إلى تلمس كلماته وألفاظه.

 نعم لقد مست منهم شيئا جوَّانياً فاحتفوا به إيما احتفاء، ولكنهم رغم ذلك كله، كفرت ألسنتهم مدعين أنه سحر أو شعر، وما كانوا مصدقين ما يقولون .. ولكنه الهوى الذي غلب على العقول والألباب.

فما الذي جعل مشركي مكة رغم ما عرف عنهم من لَسِنٍ وفصاحةٍ وقدرةٍ عاليةٍ على البيان أن يقفوا عاجزين أمام هذه القرآن الذي لا ينأ بكلماته بعيدا عنهم، إنما يستخدم مفردات متداولة بينهم وقريبة المأخذ.

فهذا الوليد بن المغيرة الشاعر الفصيح والناقد البارع صاح المنزلة والمكانة يسمع كلمات القرآن تتلى عليه فيرق لها قلبه ويسجد لها بيانه ويتصاغر أمامها كبرياؤه، وإذا به يصف القرآن بهذا الوصف الرائع الذي  يعبر عن هذه الحالة التي أصابت هؤلاء المعاندين بالتخبط والبلبلة، (والله إنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلى ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، وما يقول هذا بشر) وإنها لشهادة حق لا مرية فيها.

فكيف لهذه الكلمات رغم بساطتها أن تفعل هذا كله؟! وتؤثر هذا التأثير كله؟!

إن القرآن بهذه الكلمات المتخذة من البيئة القريبة والمتداولة بين الناس جميعا آنذاك استطاع أن يفجر في المستمع والقارئ ينابيع التذوق لمفردات هذا الكون، ورؤية العبرة فيها، وأثر القدرة الإلهية في خلقها وتكوينها وتسييرها وتنظيمها وفق قوانين لا تختل، وأن ينفض عن هذه العقول حجب الغفلة وغشاوة التكرار الذي يميت العلة والغاية في أظهر معانيها وأجلى مظاهرها.

وكأني استمع إلى القرآن الكريم يُحرِّك مستمعيه ومتلقيه، مؤمنهم وكافرهم، إلى النظر في الكون ورؤيته، ولكنها نظرة ورؤية تختلف عما سبق، تعطي لحياتهم أبعادا أخرى غير مجرد البحث عن كسرة خبز أو جرعة ماء، أو انتظار الموت أي كان شكله ليقضي فيهم أمره.

قال تعالى [ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت {20} ] ولنقرأ في مفردات هذه الآيات، إنها لا تتعالى على الناس بلغة أو مفردات أو قضايا بعيدة عنهم، بل إنها على العكس من ذلك تقترب منهم حتى تكاد تتماس مع وجودهم ليس فقد في بعده النهائي ( الموت )، ولكنه في تفاصيل الممارسة اليومية.

 وهذه هي الحقيقة التي استطاع القرآن أن يحققها في نفوس مستمعيه، فمن من العرب لم يتعايش مع الإبل ويدرك أهميتها من خلال قدرتها في الحفاظ على حياة من حولها من البشر وقت قلة المياه وندرتها بل وانعدامها! وكم منهم من أنقذته من موت محقق! ومن منهم لا يعرف السماء التي لا يرى له غطاء غيرها! ومن منهم لم يصعد جبلا ارهقه! ومن منهم لم يشعر براحة النفس عندما يرى الأرض منبسطة أمامه!

إن هذه المفردات التي يحيون فيها وبها يقرأها القرآن من خلالهم قراءة مختلفة، بعيون مختلفة، وعقول مختلفة، وقلوب مختلفة. قراءة لا تنظر إلى الوجود القريب الذي ينتهي عند حدود المصلحة الوقتية الزائلة، والنظرة الدنيوية، ولكنها قراءة تتجاوز الآفاق بحثا عن الغاية الكبرى منها، وهي التسخير للإنسان وعموم الإنسانية، وكأن ذلك كله مقدمة ليعرف الإنسان منزلته في هذا الكون العظيم ليستشعر مسؤولية الأمانة الملقاة في عنقه.

ولنقرأ آيات أخر فيها دلالة واضحة إلى ما نشير إليه، وهي مفتتح سورة الشمس التي تبلغ عدد آياتها خمس عشرة أية، قال تعالى: [ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا {1} وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا {2}  وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا {3} وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا {4} وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا {5} وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا {6} ].

وهي آيات تتفق مع سابقتها في كونها توجه القلوب إلى ما حولها من أشياء اعتادت على رؤيتها حتى لم تصبح تمثل لها أي قيمة حقيقة في وجودها معهم غير مدى فائدتها بالنسبة إليهم، بل على العكس من ذك لقد كانت نظرتهم غالبا ما لا ترى ما فيها من أضرار، فما الشمس بالنسبة إليهم إلا نار محرقة، وما القمر إلا سمرة ليل، وما النهار إلا نور يشع في فراغ الفكر، وما الليل إلا ساعة أنس ثم ينقضي، وما السماء إلا بناء لا تصل إليه يد إنسان، وما الأرض ذاتها إلا هذه الرمال الحارة والصخور الكاوية.

ولعل ما أتي بعد هذه الآيات المباركات في سورة الشمس يؤكد ما نرمي إليه، قال ربنا جلا في علاه: [ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {10}]

فهذا التدفق الذي توحي به الآيات يشير إلى ربط القرآن الكريم بأن صلاح أو فساده سواء في عقيدته أم في سلوكاته ينعكس بصورة أو بأخرى على الكون من حوله، وهذا ا نزيده إيضاحا إن شاء الله تعالى.

إن هذه الآيات الكونية بكلماتها في سياقها القرآني الرائع الأخَّاذ دلالات أخرى، وتصورات أخرى تذهب بالإنسان المؤمن في طريق ممهد بإشارات الإيمان، وأما الكافر فرغم تيقنه إلا إنه لا يريد إلا أن ينفلت من مواجهة جوانب حياته السلبية بتساؤله البائس المشتت لقواه العقلية والفكرية ( ... وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ... ) [ سورة البقرة: 26 ].

وإن تكرار ذكر المفردات القرآنية الدالة على مكونات البيئة التي يعيش فيها الإنسان، واستمرار لفت الأنظار إليها مع أنها من المألوف المشاهد لحظيا هو في الواقع لابد أن يثمر في النفس الإنسانية ثمارا طيبة من أهمها:  أنها تبصير للأعين الغافلة، وتوجيه للأبصار المعرضة عن مجالات التذوق والتأمل والتدبر والتأثر ثم الائتلاف مع الكون الساجد المسبح لخالقه ومدبره، :" تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ  السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " [سورة الإسراء:44].

وهو كذلك هزُّ للأفئدة المنصرفة بالخضوع لقدرة الخلق عن الخالق بفتح أعينها على موجد ما لا غنى لها عنه، وانفراده سبحانه بذلك (إيجادا وحفظا).

ولنا في الماء هذه النعمة التي لا يستغني عنها إنسان وهو مما نتداوله في كل لحظة تقريباً في الأيدي والأفواه، فإن ذكره في القرآن الكريم يتردد بكثرة كاثرة لتحقيق هذه الغاية المشار إليها، ولنا أن نتأمل قوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ " [سورة تبارك:30] هذا التساؤل الذي يهز أعماق المؤمن والمعاند على حد سواء هو الذي يرده إلى مضمون الآية السابقة، وهي قوله تعالى:" قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "[سورة تبارك:29] وهذا التوكل خاص بالمؤمنين، أما الجاحدون فهم في ضلالهم سائرون.

وأمام هذا التكرار اللافت والواضح لكثير من المفردات القرآنية عما في الكون الذي اصطلح الناس على تسميته حاليا البيئة وقف الخلق المخاطب بالقرآن الكريم، ومن قبله بخطاب الكون المفتوح فريقين، فريق المؤمنين الذين لما نزلت الآيات مشتملة على هذه المفردات فصادفت منهم فطراً ذكية فتحت أعينهم على حقائق جديدة فيما حولهم ثبَّتت ما في قلوبهم من إيمان:" وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ  إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ "[ سورة التوبة: 124]

وهؤلاء هم الذين يقول الله تعالى عنهم:" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا  وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "[ سورة آل عمران: 190 ـ 191].

وفريق الكافرين الذين قال الله تعالى فيهم:" وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ "[ سورة التوبة: 125]

وإن عطاء القرآن في ذكره للمفردات الدالة على المخلوقات التي في الكون يختلف بالنسبة لكلٍ من الفريقين: فحال ينبه القرآن قلوب المؤمنين إلى ضرورة الخشوع لذكر الله وما نزل من الحق:" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ "[ سورة الحديد:16] يصف لهم العلاج بكتاب الكون:" اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ  لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "[سورة الحديد: 17]

أي إن كانت القلوب ماتت بالغفلة فحياتها الذكر والخشوع كما أن حياة الأرض الميتة يكون بالمطر، فمطر إحياء قلوبكم هو ذكر الله، وهكذا تأتي مفردات القرآن الدالة على مكونات البيئة تذكيراً من غفلة، وعلاجاً من جمود قلوب.