النكوص الإبداعي
النكوص الإبداعي
في أدب علي أحمد باكثير
رواية "سيرة شجاع" أنموذجاً
د. عبد الحكيم الزبيدي
النكوص الإبداعي: المصطلح والدلالة
النكوص الإبداعي مصطلح نقدي جديد ابتدعه وأصًّل له الأستاذ الدكتور الرشيد بوشعير- أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية بجامعة الإمارات العربية المتحدة.
ويقصد بمصطلح "النكوص الإبداعي" –كما يعرفه مبتدعه "عودة الكاتب أو الشاعر إلى موضوع سبق له أن عالجه، كي يصيغه من جديد معدلاً في بعض ملامحه وعناصره لأغراض جمالية أو فكرية معينة" ([1]).
وكنت أثناء مطالعاتي لأعمال باكثير المختلفة، وتتبعي لكتاباته المطبوعة والمنشورة في الصحف والمجلات قد لاحظت حالات من هذا القبيل. وكنت آمل أن أكتب يوماً ما بحثاً عن إحدى هذه الحالات وأقارن بين العملين محاولاً استكشاف السبب الذي حدا بباكثير إلى هذا العمل. ولكن لم يكن يخطر على بالي أن هذا باب جديد في النقد لم يطرقه أحد قبلي. ولكني ما أن اطلعت على كتاب أستاذي الأستاذ الدكتور الرشيد بوشعير حتى علمت مدى ما يتمتع به من حس نقدي مرهف، وكيف فطن إلى أن هذا باب نقدي غير مطروق، فوضع له المصطلح وأصَّل له في كتيب صغير كان بحق "شهادة ميلاد رسمية لهذا المصطلح" ([2])، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد جد عزمي بعد ذلك على أن أحاول تتبع هذه الظاهرة في أدب باكثير، وها أنذا أبدأ بهذه المحاولة لرصد النكوص الإبداعي لمسرحية تاريخية قصيرة تطورت إلى رواية تاريخية طويلة.
سنة أبينا إبراهيم وسيرة شجاع:
نشر باكثير في سنة 1953م مسرحية تاريخية قصيرة بعنوان: "سنة أبينا إبراهيم"([3])، تدور أحداثها في أواخر عهد الحكم الفاطمي لمصر، وبطلها شجاع بن شاور، وكان شاور وزيراً للخليفة الفاطمي العاضد بالله. وفي سنة 1954م كتب باكثير رواية طويلة نشرها عام 1956م بعنوان: "سيرة شجاع". وتدور أحداث الرواية في نفس الفترة وبطلها –كما يظهر من العنوان- هو شجاع نفسه. وقد اقتضت طبيعة العمل الروائي أن تضاف إلى الأحداث شخصيات أخرى بالإضافة إلى تلك التي ظهرت في المسرحية القصيرة، ومن هذه الشخصيات سمية زوجة شجاع وأم شجاع. ويدور الصراع في المسرحية والرواية بين وطنية شجاع وولائه لدينه ووطنه وبين حبه لأبيه شاور الذي كان خائناً لله وللوطن حيث يتآمر مع الفرنجة ضد أسد الدين البطل الذي حارب الصليبيين وحال دون استيلائهم على مصر. وقد انتصر شجاع –في المسرحية والرواية- لوطنيته ووقف ضد أبيه في النهاية رغم تكتمه عليه في البداية ونصحه له أملاً في أن يثوب إلى رشده ويتخلى عن خيانته لله وللوطن.
ولن نجري هنا مقارنة بين جميع أحداث الرواية والمسرحية، ولكننا سنقتصر على الجزء الذي تتقاطع فيه الرواية والمسرحية، ونرى كيف تناول باكثير ذلك الموقف في كلا العملين. وحيث أن طبيعة المسرحية القصيرة تقتضي أن تكون مركزة على موقف واحد أو حدث معين في حياة البطل، فقد جاءت مسرحية باكثير لتصور اليوم الأخير في حياة شجاع وهي لحظة المواجهة بينه وبين أبيه وكشف خيانته لأسد الدين. ويتقاطع هذا الحدث مع الفصل الأخير من الرواية الذي يصور هذه اللحظة أيضاً ولكن بشكل موسع حسبما تقتضيه طبيعة العمل الروائي.
تدور أحداث المسرحية ذات الفصل الواحد في "قاعة في دار الوزير شاور بن مجير السعدي وزير العاضد بالله الفاطمي" ([4]). ويكشف الحوار بين شجاع وأبيه أن شاور ينتظر قدوم أسد الدين شيركوه ورجاله حيث دعاهم شاور إلى وليمة في منزله لتأكيد مودته لهم. ويطلب شجاع من أبيه أن يتحدث معه على انفراد فيأمر شاور رجاله بالانصراف والاستعداد لاستقبال الوفد الكريم، ومن خلال الحوار بين شجاع وأبيه نعلم أن شجاعاً قد اطلع على أن شاور ينوي الغدر بأسد الدين ورجاله وهم في ضيافته، ويخبر شجاع أباه أن الرسالة التي بعثها أبوه لقائد الفرنجة قد وقعت في يده، ويهدد أباه بتسليم تلك الرسالة إلى أسد الدين إن لم يبطل شاور تدبيره ويكف عن عزمه الغدر بضيوفه. وفي هذه الأثناء يقبل ميمون خادم شاور ويخبره أن الضيوف قد قدموا ولكن "في جيش لجب"، فيصيح شاور في ابنه قائلاً: "أنت الذي دبرت هذا يا خائن" ويأمر رجاله أن يقبضوا عليه، ولكن شجاعاً يخترط سيفه فيصوبه إلى صدر أبيه قائلاً: "إن تحرك منهم أحد أغمدت هذا السيف في صدرك"، ولما رأى شاور أن ابنه جاد في تهديده أمر رجاله أن يلقوا أسلحتهم. وفي هذه الأثناء "يقتحم القاعة خمسة من رجال شيركوه بينهم قائد اسمه رستم" فيخاطبه شاور قائلاً: "رستم خلصني من هذا الولد العاق .. هذا الذي أراد أن يكيد للأمير أسد الدين في داري وبغير أمري! ولقد أراد قتلي لما نهيته"، فيأمر رستم رجاله أن يقتلوا شجاعاً قائلاً لهم: "اقتلوا الخائن"، ولكن شجاعاً يصيح بهم: "بل اقبضوا على رستم هذا فهو جاسوس أبي عليكم"، ولكن رستم "يثب على شجاع بضربة سيف فيلقيه صريعاً". ثم يدخل أسد الدين ورجاله ويأمر بالقبض على رستم وشاور ويأمر طبيبه أن يسعف شجاعاً، وتنتهي الأحداث بموت شجاع ولكن بعد أن يوصي أسد الدين بأبيه:
شجاع: هل لك في معروف تسديه إلي يا أسد الدين قبل أن ألقى الله؟
أسد الدين: اقترح ما تشاء أنفذ طلبك.
شجاع: إذا قضيت على شاور بالقتل فلا تقتله حتى تستتيبه عسى أن يتوب الله عليه فإني أخشى ..(تخنقه العبرة ثانية).
أسد الدين: ماذا تخشى يا بني؟
شجاع: أخشى يا سيدي ألا أراه في الدار الأخرى أبداً. ([5])
وإذا قارنا بين هذا الموقف في المسرحية القصيرة ونفس الموقف في الرواية سنجد أن هناك بعض التفصيلات قد أضيفت وهذه اقتضتها طبيعة الفرق الفني بين المسرحية القصيرة المكثفة والمركزة –كما أسلفنا- والرواية التي تتيح مجالاً أوسع للتفاصيل. كما أننا سنجد الكثير من التقاطع بين العملين حتى في بعض الحوارات التي أخذت بنصها من المسرحية، وكذلك سنجد بعض الاختلافات البسيطة في الأحداث اقتضتها أيضاً طبيعة كل عمل منهما. وسنحاول أن نشير إلى تلك التقاطعات والاختلافات في السطور القادمة.
التقاطعات بين الرواية والمسرحية:
بداية يجب أن نقرر أن نهاية شجاع جاءت متفقة في العملين، وهي أنه قتل على يدي رجال أبيه بأمر منه. ففي المسرحية رأينا كيف أمر شاور رستم –وهو من رجال أسد الدين في الظاهر ولكنه متآمر مع شاور- أمره شاور إشارة خفية بقتل شجاع حين قال له: "رستم خلصني من هذا الولد العاق .. هذا الذي أراد أن يكيد للأمير أسد الدين في داري وبغير أمري! ولقد أراد قتلي لما نهيته", وقد فهم رستم الإشارة فأمر رجاله بقتل شجاع قائلاً لهم: "اقتلوا الخائن"، ولم يعترض شاور أو ينهاهم، وحين حاول شجاع أن ينبه رجال أسد الدين أن رستم جاسوس لوالده عاجله رستم نفسه بطعنة من سيفه فقتله. أما في الرواية فشاور يأمر عبده ياقوت صراحة بقتل شجاع قائلاً له: "اقتله يا ياقوت أسرع" وأطاع العبد قائلاً:"تذكر ياسيدي أنك أنت الذي أمرتني"([6]). وهذه النهاية وإن اتفقت في العملين إلا أنها تختلف عن النهاية التي روتها كتب التاريخ التي ذكرت أن شجاعاً قتل على أيدي رجال أسد الدين. وخلاصة ما روته كتب التاريخ هو أن شجاعاً علم بتدبير أبيه ونيته الغدر بأسد الدين ورجاله فكلمه في الأمر وأنَّبه فارعوى شاور ورجع عما عزم عليه، ثم قتل شاور بعد أن أسره صلاح الدين، وحين علم شجاع بالأمر اعتصم مع إخوته في القصر فكان آخر العهد بهم ([7]). ويرى الدكتور أبوبكر البابكري أن النهاية التي اختارها باكثير لشجاع تتناسب فنياً مع موقفه من أبيه ورفضه لخيانته، وفي ذلك يقول:
"لم ترق هذه النهاية التاريخية للمؤلف، إذ كيف يقتل هذا البطل الذي رفض خيانة أبيه ومنعه من قتل أسد الدين، على يد جيش أسد الدين؟ وكيف يستمر في الدفاع عن أبيه الخائن حتى بعد مقتله؟ لذلك اختار المؤلف نهاية فنية تليق بهذا البطل أفضل من نهايته التاريخية، فجعل "شاور" يصر على تنفيذ خطته، رافضاً لنهي ابنه، وهذا الإصرار في الحقيقة يتناسب مع شخصية شاور الغادرة التي رسمها المؤلف ببراعة، وهذه فرصته الأخيرة في التخلص من أسد الدين وعودته إلى الوزارة. ولم يسع شجاع أمام إصرار أبيه إلا إشهار السلاح في وجه أبيه لمنعه بالقوة، وهذا الفعل أيضاً يتناسب مع شخصية شجاع المرسومة في الرواية التي حاولت كثيراً مسايرة أبيها أملاً في رجوعه عن غيه، أما أن يصل الأمر إلى الغدر بأسد الدين ورجاله فهذا ما لا يمكن أن تحتمله هذه الشخصية، فيأمر شاور عبده بقتل ابنه، فيقتل شجاع على يد الخائن أبيه دفاعاً عن أسد الدين المجاهد في سبيل الله، لا كما جاء في التاريخ" ([8]).
هذا هو الاتفاق الأول والأساس بين المسرحية والرواية، وله دلالته الفنية في المعنى الذي قصده المؤلف، وهو التبرؤ من الخائن مهما كانت قرابته أو منزلته. وهناك تقاطعات أخرى في بعض مقاطع من الحوار وردت بالنص في العملين. من ذلك قول شجاع لأبيه حين لامه على التجسس على أبيه، قال شجاع في المسرحية:
شجاع: أجل إن من نكد الدنيا عليَّ أن يكون قصارى عملي هو التجسس عليك لأحول بينك وبين جرائرك وفواقرك! ([9])
وفي الرواية جاءت العبارة هكذا:
شجاع: أجل، إن من نكد الدنيا عليَّ أن يكون أبر عمل أقوم به لديني ووطني هو التجسس عليك لأحول بينك وبين جرائرك وفواقرك! ([10]).
والعبارتان متماثلتان تقريباً، إلى أن العبارة في الرواية جاءت أوضح قصداً، حيث وضح شجاع أن هدفه من التجسس على أبيه هو خدمة دينه ووطنه، وقد صورت تلك العبارة حجم ذلك الصراع في نفس شجاع بين بره بأبيه وولائه لدينه ووطنه، لذلك كانت عبارة الرواية أفضل وأدق، في رأيي. وهناك مقطع آخر من الحوار يتفق بين المسرحية والرواية وهو وصاية شجاع لأسد الدين بأبيه وهو في السياق، فقد جاء في المسرحية هكذا:
شجاع: هل لك في معروف تسديه إلي يا أسد الدين قبل أن ألقى الله؟
أسد الدين: اقترح ما تشاء أنفذ طلبك.
شجاع: إذا قضيت على شاور بالقتل فلا تقتله حتى تستتيبه عسى أن يتوب الله عليه فإني أخشى ..(تخنقه العبرة ثانية).
أسد الدين: ماذا تخشى يا بني؟
شجاع: أخشى يا سيدي ألا أراه في الدار الأخرى أبداً ([11]).
وجاء في الرواية متفقاً معها:
شجاع: ... فهل لك يا سيدي في معروف آخر تسديه إلي؟
أسد الدين: نعم يا بني أطلب ما تشاء...
شجاع: إذا قضيتم عليه فلا تقتلوه حتى تستتيبوه عسى أن يتوب الله عليه فإني أخشى ..
أسد الدين: ماذا تخشى يا بني؟
شجاع: أخشى يا سيدي ألا أراه في الدار الأخرى أبداً ([12]).
والحوار متماثل في العملين كما نرى، والاختلاف الطفيف اقتضته طبيعة كل عمل، ففي الرواية أوصى شجاع أسد الدين بأن يركب حصانه (أدهم) في معركته مع الصليبين أو يعطيه لابن أخيه صلاح الدين، ولذلك اقتضى الحوار أن يقول له: " فهل لك يا سيدي في معروف آخر تسديه إلي؟"، إذ المعروف الأول كان وصاته بحصانه والآخر وصاته بأبيه. ونلاحظ في الرواية أن شجاعاً يخاطب أسد الدين بقوله "يا سيدي" بينما في المسرحية يخاطبه بلقبه "أسد الدين"، ولاشك أن مخاطبته بلفظ "يا سيدي" أبلغ في الاحترام وفي مخاطبة شجاع له مخاطبة الجندي لقائده. والاختلاف الطفيف الآخر هو أنه في المسرحية نسب اتخاذ قرار قتل شاور لأسد الدين فقال له: "إذا قضيت على شاور بالقتل فلا تقتله حتى تستتيبه"، أما في الرواية فخاطبه بصيغة الجمع:"إذا قضيتم عليه ([13]) فلا تقتلوه حتى تستتيبوه". وفي هذا من الأدب ما لا يخفى فلم يجعل قرار قتل أبيه في يد أسد الدين، بل جعله كأنه حكم قاضٍ، أو قرار جماعي لا يملك أسد الدين مخالفته. ولا يمكن أن يكون القصد من المخاطبة بصيغة الجمع للاحترام، إذ سبق أن قال له شجاع: "هل لك ياسيدي في معروف آخر تسديه إلي؟" ولم يقل: "هل لكم يا سيدي في معروف تسدوه إلي؟".
الاختلافات بين الرواية والمسرحية:
سبق أن قلنا أن مجمل الاختلافات مردها إلى الاختلاف بين الطبيعة الفنية للرواية والمسرحية القصيرة. وهناك اختلافات طفيفة لا تؤثر على المعنى أو الناحية الفنية مثل أن يكون اسم العبد الذي اصطفاه شاور وأسرَّ له بأمر المكيدة واعتمد عليه فيها هو (ميمون) في المسرحية و(ياقوت) في الرواية, أو أن يكون شجاعاً قد هدد أباه بالسيف في المسرحية وبخنجر في يده في الرواية. ولكن هناك اختلافات أخرى ذات دلالة. فمثلاً نرى في المسرحية أن أسد الدين حين قدم إلى منزل شاور "في جيش لجب" كما عبر العبد ميمون، كان برفقته طبيب، ولاشك أن تلك ثغرة فنية فماذا يصنع الطبيب معهم؟ ففي حين يصف المؤلف دخول أسد الدين ورجاله بقوله: "يدخل أسد الدين شيركوه ومعه فريق من حرسه وهو شاكو السلاح.." ([14])، إذا بأسد الدين يلتفت إلى طبيبه، حين يرى شجاعاً جريحاً:
أسد الدين: (يلتفت إلى طبيبه) أسعف الشاب الجريح يا نسطورس ([15]).
وربما كان وجود الطبيب مسوغاً إذ القوم قادمون إلى وليمة، والطبيب أحد حاشية أسد الدين، ولكن دخول الطبيب مع حرس أسد الدين في هذا المشهد غير مسوغ فنياً- في رأيي. وقد استدرك باكثير هذه الثغرة الفنية في الرواية، فقد جعل سمية –زوج شجاع- هي التي ترسل العبد (ميموناً) وهو في الرواية غير (ميمون) في المسرحية، ترسله سمية ليخبر أباها (أبا الفضل) ليحضر ويحضر معه الطبيب ([16]). ثم حضر أبو الفضل مع أسد الدين ورجاله الذين أحاطوا بالقصر وقبضوا على شاور ثم "صعد أسد الدين ومعه طبيبه يتقدمهما أبو الفضل وأمامهم ميمون حتى انتهوا إلى غرفة شجاع" ([17]). وبهذا أصبح حضور الطبيب مسوغاً حيث أرسلت سمية في طلبه إذ أرسلت لأبيها من يخبره الخبر فأبلغ أبوها بدوره أسد الدين الذي حضر برجاله وطبيبه. واستدعاء سمية هذا لأبيها سوغ أيضاً حضور أسد الدين ورجاله، حيث أن حضور أسد الدين برجاله في المسرحية غير مسوغ فنياً بشكل كافٍ، فكيف عرف أسد الدين بتدبير شاور وعزمه على الغدر به؟ وقد حاول المؤلف أن يجيب عن ذلك على لسان شجاع في حواره مع أبيه:
(يدخل ميمون وخلفه إثنان من رجاله)
ميمون: معذرة يا سيدي إن ضيوفك قد أقبلوا
شاور: قد أقبلوا.. استقبلوهم إذن .. انطلقوا.
ميمون: أقبلوا يا سيدي في جيش لجب.
شاور: في جيش لجب؟
ميمون: نعم كأنما يريدون قتالنا!
شاور: (ينظر إلى شجاع كأنما يريد أن يقرأ ما في وجهه) ...؟
شجاع: لا ريب أن الرجل ارتاب في نيتك، فأظهر له الساعة أنك لا تنوي به شراً. اصرف رجالك كلهم عن الدار ولا يبق منهم أحد، ودعنا نستقبله وحدنا أنا وأنت ([18]).
وهذا التفسير من المؤلف لقدوم أسد الدين في "جيش لجب" لتلبية دعوة لوليمة، غير مسوغ فنياً في رأيي، فما الذي جعل أسد الدين يرتاب في شاور؟ لم تقدم لنا المسرحية ما يسوغ ذلك. وقد تلافى باكثير هذه الثغرة الفنية أيضاً في الرواية فجعل أسد الدين يحضر بناء على استدعاء من أبي الفضل الذي أخبرته ابنته سمية بقتل شاور لابنه شجاع.
دلالة العنوان:
هناك تشابه واختلاف في نفس الوقت يجمع بين المسرحية والرواية. فالمسرحية حملت عنوان "سنة أبينا إبراهيم"، ولم تفسر هذا العنوان للقارئ غير المتخصص. وباكثير كاتب ذكي لماح، وهو يطالب قارئه أن يكون على قدر من الفطنة والذكاء ليفهم كتاباته. ولأن باكثير كان ذا ثقافة دينية عميقة فقد كان يفترض أن يكون قارئه على قدر يسير من تلك الثقافة ليعلم المعنى الذي قصده. وفي الرواية، التي جعل من اسم شجاع عنواناً لها، وورى باسمه عن صفته، فجعل العنوان "سيرة شجاع" فيظن القارئ لأول وهلة أنها سيرة "رجل شجاع"، ثم ما يلبث أن يكتشف أن بطل الرواية اسمه "شجاع"، وكان بالفعل شجاعاً، اسماً على مسمى، أقول إن عنوان المسرحية، وهو "سنة أبينا إبراهيم" كان حاضراً أيضاً في الرواية ولكن من خلال الآية الكريمة التي قدم بها باكثير للرواية، كعادته في معظم أعماله، وهي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) ([19]). وبذلك فسرت هذه الآية عنوان تلك المسرحية، وفسر عنوان المسرحية موضوع الرواية وهو الصراع بين البر بالأب والتبرؤ من كفره وخيانته. فكما تبرأ الخليل إبراهيم عليه السلام من أبيه الكافر، تبرأ شجاع من أبيه الخائن، وإن كان كل منهما على قدر كبير من البر بأبيه، فالخليل إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه لأنه وعده أن يستغفر له رجاء أن يؤمن([20])، وشجاع تستر على خيانة أبيه طمعاً في رجوعه إلى جادة الصواب، ولكن حين تبين له أن أباه مصر على خيانته تبرأ منه وفضح أمره، تماماً كما تبرأ الخليل عليه السلام من أبيه عندما أصر على الكفر.
[1] - د. الرشيد بو شعير: النكوص الإبداعي في الأدب: في سبيل تأصيل مصطلح نقدي جديد، تطبيقات على أدب الخليج المعاصر، دار الفجر، أبوظبي، 1427هـ/2006م، ص 7
[2] -المرجع السابق، ص 9
[3] - علي أحمد باكثير: سنة أبينا إبراهيم- مجلة (المسلمون) – العدد 8- السنة الثانية- شوال سنة 1372هـ/يونية سنة 1953م- ص 59-54
[4] -المرجع السابق، ص 49
[5] - المرجع السابق ص 54
[6] -علي أحمد باكثير: سيرة شجاع، مكتبة مصر- د.ت. ص 295
[7] -انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير، دار صادر ودار بيروت، 1965، المجلد 11، ص 340-341
[8] -د. أبوبكر البابكري: روايات علي أحمد باكثير التاريخية- مصادرها، نسيجها الفني، إسقاطاتها، منشورات جامعة صنعاء، 2005، ص 141-142
[9] -سنة بينا إبراهيم- ص 50
[10] -سيرة شجاع: ص 293
[11] - سنة أبينا إبراهيم: ص 54
[12] - سيرة شجاع: ص 301
[13] -كذا في الأصل ولعل هناك خطأ مطبعياً أسقط كلمة "بالقتل"
[14] -سنة أبينا إبراهيم: ص 53
[15] - المرجع السابق نفس الصفحة
[16] -سيرة شجاع: ص 296
[17] -سيرة شجاع: ص 297
[18] - سنة أبينا إبراهيم: ص 53
[19] -سورة التوبة، الآية 114
[20] -انظر تفسير الكشاف للزمخشري، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت ،1427هـ/2006م الجزء الثاني ص 236