تأملات بيانية في سورة المدثر

تأملات بيانية في سورة المدثر


رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

مثلت الفصاحة والبلاغة جزءا كبيرا من تاريخ العرب الحضاري ...............، ولا نعرف امة من الأمم عظمت الشعر وعلت من مرتبته كما فعل العرب ؛ولا أدل على ذلك مما فعلوه بفرائد القصائد حينما علقت في أقدس مكان عرفوه .وكان من شأن اللغة في تاريخهم أنهم رأوا في لحن الشريف في لغته ثلما في عرضه،  وطعنا في شرفه .

على هذه الأمة نزل النص القرآني المجيد  متحديا مستعليا ومهيمنا يحطم كل ما خلاه ،  فلم ينكر احد من المشركين- مع فرط عداوتهم لهذا الدين – سمو بيانه وجزالة لفظه وقوة تأثيره وعجزهم عن مقاومته .

وسورة المدثر واحدة من النصوص التي صافحت آذان القوم   في بدايات عهد التنزيل .. ..وهي في سياقها العام حملت جملة من القيم الفنية متمثلة في نسقها التعبيري وتصويرها الفني لتضرب من خلال ذلك كله أنموذجا فريدا في منهج التعبير البياني لهذا الكتاب المحدث البليغ .

والحديث عن سورة المدثر في هذا السياق يعنينا من زاويتين :

أولاهما:  فترة نزولها ؛ فهي من أوائل السور التي نزلت على محمد – صلى الله عليه وسلم- فكانت أول ما صافح آذان قريش أهل الفصاحة والبلاغة من بعد الشعر والخطابة.

ثانيهما :  موضوعها العام؛  فهي تكشف لنا من أعماق نفوس المشركين عن أثر القرآن فيهم ، وترسم لنا بالصورة والكلمة محاولات الهروب من النفس ومغالبة الحقيقة حين يهجم القرآن على نفوسهم ويأخذ بمجامع قلوبهم ، فلا يستطيعون التفلت من أسره؛  وهذا ما تؤكده قصة الوليد بن المغيرة حين استجابت فطرته للقيمة البلاغية المتألقة في ثنايا النص

فقال مقولته المشهورة :" والله ما فيكم رجل اعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله ان لقوله لحلاوة ، وان عليه لطلاوة وانه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله وانه ليعلو ولا يعلى وانه ليحطم ما تحته "

سورة المدثر كشفت عن سمات خاصة في طبيعة المنهج القرآني ، ولعلنا نشير في عجالة إلى أهم تلك الخصائص الفنية  التي تمثل طبيعة النص القرآني لغة وأسلوبا ومضمونا :

أولا _ الوحدة الموضوعية

تأتي هذه السورة ردا على بعض المستشرقين الذين حاولوا النيل من القرآن بالطعن في وحدته الموضوعية ،   زعما منهم بأن سوره متعدد الموضوعات ، منعدمة الروابط لا تنتظمها وحدة مكانية أو زمانية ؛ ولو تأملنا السورة ، سورة المدثر،  لوجدنا أنها مثلت وحدة تكاملية منسجمة،  بدأت بقصة الإنذار في أولها،  ثم حديث عن صاحب الرسالة المنذر محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم موقف القوم المنذرين من الكلام المنذر به .ولو تتبعنا هذه المحاور الثلاثة في نسقها التعبيري لوجدنا انسجاما نفسيا وموسيقيا في ملائمة اللفظ للمعنى وبناء الجملة الفنية بناء فنيا ساحرا ؛ ففي المحور الأول الذي تضمن تكليف الله لنبيه بالإنذار تجلت سمات نفسية وخلقية مطلوبة على وجه الكمال للنبي المرسل من مثل قوله : " وربك فكبر وثيابك فطهر والرجس فهجر "

حيث  عكست هذه الجملة القرآنية صيغة الخطاب المباشر من الله المبني على الحب والملاطفة والرفق من خلال الأسلوب الإنشائي الذي تنوع بين النداء القائم على الإيناس والملاطفة ، والأمر المعين على تحمل التكاليف ومتطلباتها والنهي الذي يتغيا كمال الرسول وتنزيهه من النقائص

اما في المحور الثاني فقد عدل النظم القرآني عن أسلوب الإنشاء غالى الأسلوب الخبري لكي يتناسب مع طبيعة النص الحكائي في قصة الوليد بن المغيرة ، ثم تحول السياق في المحور الثالث الى لغة التهديد واستبدال ضمير المخاطب بضمير الغائب كي يشمل الوعيد كل من يقع عليه القول واستخدام أفعال مضارعة لتجسيد حالة الاستحضار الدائم والاستمرارية المستغرقة للزمن

ثانيا المعجم اللغوي

اذا كان الكلام قد وضع في أصله للإبانة عن الإغراض التي في النفوس كما يرى الباقيلاني فأن تخير اللفظ وموافقته للمعنى من أسس البلاغة التي قام عليها عمود الجمال ؛ وقد اجتمع في المفردة القرآنية كافة الصفات المشكلة لحد البلاغة في أوجها السامق ؛  فلا يمكن استبدال كلمة بكلمة وحرف بحرف فكلمة المدثر التي جيء بها ملاطفة للنبي غير المتدثر لأن الإدغام ينسجم مع المعنى في بيان المبالغة في التخفي والايماء إلى شدة الفزع ، أما فك الإدغام في تمنن فله ما يبرره لمناسبة ذلك حب الظهور والشهرة ،  وكذا في استخدام كبر جمع كبرى فهو للدلالة على التناهي في التدليل على الوصف والتفضيل ، اما مخالفتها للمعهود ،فلان النار المتحدث عنها مخالفة للمعهود ايضا

ثالثا : الصور البيانية

تأتي الصور البيانية في هذه السورة منسجمة مع طبيعة المشهد النفسي ،فالتشبيه الوارد في المحور الثالث يعبر عن حالة الرعب التي ملأت قلوب المشركين وهم يقذفون في جهنم فيشببهم بالحمر الشديدة النفار المفزعة من الأسد حتى لا يفترسها :في قوله " فرت من قسورة " ويأتي المجاز المرسل معبرا بالمسبب عن السبب في قوله " فالرجز فاهجر

الموسيقا التصويرية

تلعب الموسيقا التصويرية دورا بارزا في إذكاء القيمة الدلالية للنص ... من خلال القاطع الصوتية والفواصل وحركة الروي والقوافي ،  والموسيقا الداخلية التي تمثلها الحروف بأصواتها ؛وقد جاءت هذه الموسيقا غنية بالقيم الفنية في سورة المدثر منسجمة مع الجو النفسي للمحاور الثلاثة التي اشتمل عليها النص ؛ فكانت قصيرة سريعة الإيقاع في المحور الأول لانسجامها مع موضوع الإنذار ،  وانتهت بحرف الروي الراء المتكررة وكأنها   اهتزازات ارتدادية تذكر الغافلين ... ثم بدء الحرف الموسيقي يميل الى الهدوء والرخاء مع المحور الثاني .. ولزمها رنين خاص بغنة منعشة في حرف النون ،،، تستنطق زفرات الأسى من أعماق المتحسرين " كنا نخوض مع الخائضين ... " ثم لم تكن هذه هي القيم الموسيقيا الوحيدة  في النص بل كان

للمطابقة والمقابلة والجناس والسجع ادوارها القيمة في تفعيل حركة الفواصل الموسيقة  تفعيلا قويا فاجتمع  للموسيقا لذائد

السمع والبصر واشراقات التلوين و تأملات بيانية في سورة المدثر

رمضان عمر

مثلت الفصاحة والبلاغة جزءا كبيرا من تاريخ العرب الحضاري ...............، ولا نعرف امة من الأمم عظمت الشعر وعلت من مرتبته كما فعل العرب ؛ولا أدل على ذلك مما فعلوه بفرائد القصائد حينما علقت في أقدس مكان عرفوه .وكان من شأن اللغة في تاريخهم أنهم رأوا في لحن الشريف في لغته ثلما في عرضه،  وطعنا في شرفه .

على هذه الأمة نزل النص القرآني المجيد  متحديا مستعليا ومهيمنا يحطم كل ما خلاه ،  فلم ينكر احد من المشركين- مع فرط عداوتهم لهذا الدين – سمو بيانه وجزالة لفظه وقوة تأثيره وعجزهم عن مقاومته .

وسورة المدثر واحدة من النصوص التي صافحت آذان القوم   في بدايات عهد التنزيل .. ..وهي في سياقها العام حملت جملة من القيم الفنية متمثلة في نسقها التعبيري وتصويرها الفني لتضرب من خلال ذلك كله أنموذجا فريدا في منهج التعبير البياني لهذا الكتاب المحدث البليغ .

والحديث عن سورة المدثر في هذا السياق يعنينا من زاويتين :

أولاهما:فترة نزولها؛فهي من أوائل السور التي نزلت على محمد – صلى الله عليه وسلم- فكانت أول ما

 صافح آذان قريش أهل الفصاحة والبلاغة من بعد الشعر والخطابة.

ثانيهما :  موضوعها العام؛  فهي تكشف لنا من أعماق نفوس المشركين عن أثر القرآن فيهم ، وترسم لنا بالصورة والكلمة محاولات الهروب من النفس ومغالبة الحقيقة حين يهجم القرآن على نفوسهم ويأخذ بمجامع قلوبهم ، فلا يستطيعون التفلت من أسره؛  وهذا ما تؤكده قصة الوليد بن المغيرة حين استجابت فطرته للقيمة البلاغية المتألقة في ثنايا النص

فقال مقولته المشهورة :" والله ما فيكم رجل اعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله ان لقوله لحلاوة ، وان عليه لطلاوة وانه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله وانه ليعلو ولا يعلى وانه ليحطم ما تحته "

سورة المدثر كشفت عن سمات خاصة في طبيعة المنهج القرآني ، ولعلنا نشير في عجالة إلى أهم تلك الخصائص الفنية  التي تمثل طبيعة النص القرآني لغة وأسلوبا ومضمونا :

أولا _ الوحدة الموضوعية

تأتي هذه السورة ردا على بعض المستشرقين الذين حاولوا النيل من القرآن بالطعن في وحدته الموضوعية ،   زعما منهم بأن سوره متعدد الموضوعات ، منعدمة الروابط لا تنتظمها وحدة مكانية أو زمانية ؛ ولو تأملنا السورة ، سورة المدثر،  لوجدنا أنها مثلت وحدة تكاملية منسجمة،  بدأت بقصة الإنذار في أولها،  ثم حديث عن صاحب الرسالة المنذر محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم موقف القوم المنذرين من الكلام المنذر به .ولو تتبعنا هذه المحاور الثلاثة في نسقها التعبيري لوجدنا انسجاما نفسيا وموسيقيا في ملائمة اللفظ للمعنى وبناء الجملة الفنية بناء فنيا ساحرا ؛ ففي المحور الأول الذي تضمن تكليف الله لنبيه بالإنذار تجلت سمات نفسية وخلقية مطلوبة على وجه الكمال للنبي المرسل من مثل قوله : " وربك فكبر وثيابك فطهر والرجس فهجر "

حيث  عكست هذه الجملة القرآنية صيغة الخطاب المباشر من الله المبني على الحب والملاطفة والرفق من خلال الأسلوب الإنشائي الذي تنوع بين النداء القائم على الإيناس والملاطفة ، والأمر المعين على تحمل التكاليف ومتطلباتها والنهي الذي يتغيا كمال الرسول وتنزيهه من النقائص

اما في المحور الثاني فقد عدل النظم القرآني عن أسلوب الإنشاء غالى الأسلوب الخبري لكي يتناسب مع طبيعة النص الحكائي في قصة الوليد بن المغيرة ، ثم تحول السياق في المحور الثالث الى لغة التهديد واستبدال ضمير المخاطب بضمير الغائب كي يشمل الوعيد كل من يقع عليه القول واستخدام أفعال مضارعة لتجسيد حالة الاستحضار الدائم والاستمرارية المستغرقة للزمن

ثانيا المعجم اللغوي

اذا كان الكلام قد وضع في أصله للإبانة عن الإغراض التي في النفوس كما يرى الباقيلاني فأن تخير اللفظ وموافقته للمعنى من أسس البلاغة التي قام عليها عمود الجمال ؛ وقد اجتمع في المفردة القرآنية كافة الصفات المشكلة لحد البلاغة في أوجها السامق ؛  فلا يمكن استبدال كلمة بكلمة وحرف بحرف فكلمة المدثر التي جيء بها ملاطفة للنبي غير المتدثر لأن الإدغام ينسجم مع المعنى في بيان المبالغة في التخفي والايماء إلى شدة الفزع ، أما فك الإدغام في تمنن فله ما يبرره لمناسبة ذلك حب الظهور والشهرة ،  وكذا في استخدام كبر جمع كبرى فهو للدلالة على التناهي في التدليل على الوصف والتفضيل ، اما مخالفتها للمعهود ،فلان النار المتحدث عنها مخالفة للمعهود ايضا

ثالثا : الصور البيانية

تأتي الصور البيانية في هذه السورة منسجمة مع طبيعة المشهد النفسي ،فالتشبيه الوارد في المحور الثالث يعبر عن حالة الرعب التي ملأت قلوب المشركين وهم يقذفون في جهنم فيشببهم بالحمر الشديدة النفار المفزعة من الأسد حتى لا يفترسها :في قوله " فرت من قسورة " ويأتي المجاز المرسل معبرا بالمسبب عن السبب في قوله " فالرجز فاهجر

الموسيقا التصويرية

تلعب الموسيقا التصويرية دورا بارزا في إذكاء القيمة الدلالية للنص ... من خلال القاطع الصوتية والفواصل وحركة الروي والقوافي ،  والموسيقا الداخلية التي تمثلها الحروف بأصواتها ؛وقد جاءت هذه الموسيقا غنية بالقيم الفنية في سورة المدثر منسجمة مع الجو النفسي للمحاور الثلاثة التي اشتمل عليها النص ؛ فكانت قصيرة سريعة الإيقاع في المحور الأول لانسجامها مع موضوع الإنذار ،  وانتهت بحرف الروي الراء المتكررة وكأنها   اهتزازات ارتدادية تذكر الغافلين ... ثم بدء الحرف الموسيقي يميل الى الهدوء والرخاء مع المحور الثاني .. ولزمها رنين خاص بغنة منعشة في حرف النون ،،، تستنطق زفرات الأسى من أعماق المتحسرين " كنا نخوض مع الخائضين ... " ثم لم تكن هذه هي القيم الموسيقيا الوحيدة  في النص بل كان للمطابقة والمقابلة والجناس والسجع ادوارها القيمة في تفعيل حركة الفواصل الموسيقة تفعيلا قويا فاجتمع للموسيقا لذائد السمع والبصر واشراقات التلوين والتزين  التزين